عادت حفيدتي الصغيرة من مدرستها مكفهرة الوجه تكاد تتميز من الغيظ وعندما سألتها عما يكدرها إنفجرت ساخطة: مدرس اللغة العربية الذي يقول لنا الأسبوع القادم سوف نبدأ بقراءة الزفت الذي اسمه: نجيب محفوظ! هل يصح ذلك يا جدو..؟! ألم تسأليه لماذا يقول ذلك..؟ إنه يقول إن نجيب محفوظ صور إنسانا مثل الله خالقا للكون! وأصبح واضحا أنه يقصد رواية أولاد حارتنا التي لم يقرأها مثله مثل غيره من أدعياء التدين الذين لا يعرفون شيئا عن الثقافة ولا عن النقد ولا عن أخلاق الإسلام! فهم أشبه بذلك البلطجي الذي ضربه بسكين وهو جالس في سيارة بعد أن هم الرجل بمد يده ظنا منه أنه جاء للسلام عليه! ولما سألته النيابة لماذا أردت أن تقتل درة الرواية العربية قال لأنه ملحد.. ومن أين عرفت ذلك؟ من روايته أولاد حارتنا.. وهل قرأتها؟! لا لكنهم قالوا لي عنها!! قالوا له إن دخول الجنة إنما يكون بهدم قمم الثقافة في بلادنا دون أن نقرأ لهم شيئا أو نفهم عنهم شيئا, ونجيب محفوظ أحد هؤلاء القمم البازخة التي زلزلت أرض الثقافة العربية يوم حصل علي جائزة نوبل فهاجمه أدعياء الثقافة: السوري, والفلسطيني, والكويتي, والسوداني.. إلخ وأتهموه بأفظع التهم( التي يمكن أن نلمسها فيهم هم أنفسهم) ولقد سبق أن كتبت عنهم وأنا أحلل روايته ثرثرة فوق النيل التي تنبأت عام1966 بالهزيمة البشعة التي وقعت عام1967 نظرا لغياب العقل المصري في غيبوبة المخدرات بسبب ضغوط الحكم الدكتاتوري: فقد رأينا أن السفينة تسير دون حاجة إلي رأينا أو معاونتنا, وأن التفكير بعد ذلك لن يجدي شيئا. وربما جر وراءه الكدر وضغط الدم.. كما يقول واحد من مثقفي العوامة( الثرثرة ص56). والواقع أن جميع المشكلات التي عالجها نجيب محفوظ في رواياته قد نبعت من صميم حياته: عن الحارة المصرية ثم إمتدت إلي المجتمع بأسره بما فيه من مشكلات. نجيب محفوظ ابن الحارة فقد ولد في بيت القاضي بالجمالية عام1911 ذ كانت سيدة أمية لا تقرأ ولا تكتب, ومع ذلك فقد كنت أعتبرها مخزنا للثقافة الشعبية كما يقول هو نفسه في أحاديثه: كما كانت تصحبني معها في زيارتها اليومية إلي مسجد الحسين وأن أقبل الضريح, وكانت هذه الأمور تبعث في نفس معاني الرهبة والخشوع!. وكانت الحارة تمثل عند نجيب محفوظ- بما فيها من مشكلات اجتماعية وثقافية ودينية.. إلخ المحور الأول الذي عالجه أديبنا الكبير نجيب محفوظ في رواياته: زقاق المدق, بداية ونهاية, وفضيحة في القاهرة( أو القاهرة30 كما سميت فيما بعد)- وقد يمتد هذا المحور ليشمل المجتمع المصري بأسره كما حدث في روايته الخالدة الثلاثية( بين القصرين قصر الشوق- السكرية) التي صورت حقبة طويلة من تاريخ مصر بما فيها من مشكلات اجتماعية وسياسية وثقافية.. إلخ. أما المحور الثاني فهو فلسفي( أو ميتافيزيقي) تأثر فيه نجيب محفوظ بوضوح ظاهر بدراساته الفلسفية- فقد تخرج من قسم الفلسفة بآداب القاهرة عام1934 وبعد أن اقترنت ثقافته الفلسفية بموهبته الأدبية راح يمارس أولي خطواته محاولا حل بعض المشكلات الفلسفية التي بدأت عنده بمشكلة القدر وإن إرتبط ذلك بتاريخ مصر وكان ذلك في روايته عبث الأقدار التي نشرها عام1939 ذ الذي يري أن العقل يحكم التاريخ وأن الروح الكلي هي التي تسيطر علي الأحداث وتوجهها وجهة خاصة وربما ضد مشيئة الأفراد, وتتلخص القصة في أن الملك خوف بن خنوم كان يجلس علي أريكته الذهبية عندما جاءه الساحر ديدي يطالعه بصفحة من صفحات الغيب تقول نبأ عجيبا وهو أنه ولد اليوم لكاهن معبد رع في أون ولد سجلت الآلهة اسمه ملكا علي البلاد من بعد الملك خوفو! لكن الملك لم ينزعج لأنه ظن في نفسه القدرة علي إحباط القدر بضربة من سيفه! إلا أن كاهن أون كان يدور في ذهنه شئ من هذا القبيل فعمل علي تهريب الأم ورضيعها في عربة غير ملامحها حتي لا يعرفها أحد وجعل لقيادتها إحدي الوصيفات التي تمكنت من الخروج بالأم ورضيعها من الحصار الذي فرضه الملك علي قصر الكاهن, ولقد تصادف أن وضعت إحدي الوصيفات ولدا في ذلك الوقت وظن خوفو عندما وصل أن هذا الطفل هو ابن الكاهن فطلب منه أن يقتل الطفل وأمه وأخذ الكاهن خنجرا ودخل الغرفة ولم يقتل أحدا وإنما انتحر, فدخل وراءه ولي العهد شاهرا سيفه البتار وقتل الأم وطفلها, وفي الوقت نفسه كان الطفل الهارب مع أمه ووصيفته قد وصلوا إلي سيناء حيث تم أسر الأم وقرار الوصيفة التي كانت عاقرا- بالطفل حيث نسبته إلي نفسها وتربي الطفل تحت رعاية زوجها الثاني والذي أصبح أبا له ويتعلم ويتخرج من المدرسة العسكرية ويلتحق بحرس ولي العهد ويكتشف مؤامراته ضد والده الملك, فيقتله ويقرر الملك الذي نجا من مؤامرة ابنه أن يجعل من هذا الضابط وليا لعهده علي العرش, وأن يزوجه إحدي الأميرات. وهكذا تحقق الأقدار خطتها المقدرة سلفا رغم المحاولات العديدة لأبطال مسارها التي قام بها البشر. والقصة في مجملها تشبه مسرحية أوديب ملكا التي كتبها الأديب اليوناني سوفكليس. وفي هذا المحور الفلسفي تسير روايته الطريق أو البحث عن الأبوة الكبري, وهي تحاول أن تحدد صورة الرحيمي في الأذهان أو طريق الإنسان في صعوده إلي الله. وقد يلتقي المحوران الاجتماعي والفلسفي في فكرة فلسفية واضحة تعالجها قصة قصيرة هي ضد مجهول التي تعالج فكرة الموت بأسلوب شيق... هذا هو جانب من نجيب محفوظ العملاق الذي لم تمنحه لجنة نوبل جائزتها بسبب رواية أولاد حارتنا كما يزعم هؤلاء الأدعياء فقد كانت هذه الرواية هي آخر ما ذكرته اللجنة في تقريرها, ذلك لأن نجيب محفوظ كان عظيما قبل نوبل كما هو بعدها فهو مؤسس الرواية العربية غير منازع أما من جاءوا قبله مثل هيكل, ويحيي حقي مع أحترامنا لهم- فهم أقرب إلي الهواة بالنسبة لهذا العملاق! لمزيد من مقالات بقلم : د. إمام عبد الفتاح إمام