جزء مهم فى تكوين العقل الإسلامى بخلفيته العربية انبنى على تطور منظومة العقل الغربى بخلفيته المسيحية. ولعل الثنائيتين العرب الغرب- والإسلام الغرب قامتا على الصراع لفترة طويلة، ورغم سلبية العلاقة القائمة على التصارع فإن فيها بعض الإيجابيات، أهمها أنها كانت محفزة على التقدم من قِبل العرب الذين سعوا طيلة الوقت للحاق بركب ما أنجزه العقل الغربى. ولعل انشغالى الحالى برصد منحنيات تأزم العقل العربى، عبر ما أنشره فى الصحافة الورقية، أو عبر ما أبثه على شاشة قناة «العربية» ضمن حلقات برنامجى «منارات»، هذا الانشغال جعلنى أقف على أجزاء محورية فى مسيرة ثنائية العقلين الغربى المسيحى من جهة، والمسلم العربى من جهة أخرى. أبرز هذه المحطات الفارقة نقطة التلاقى والحوار والمساندة من قِبل العقل العربى المسلم إلى العقل الغربى وقت تأزمه. ونقطة مساءلة العقل العربى المسلم للعقل الغربى حين استقوى الغرب واستعمر وجار على العقل العربى. ونحن هنا أمام محطات فى التاريخ الحديث تجيب بالضرورة وبالتراتب الزمنى عن التأزمات التى وصلت إليها العلاقة، وأبرزها أحداث 11/9/2001، التى شكلت إعادة استحضار الصراع القديم فى شكله القبيح، وهو الحروب الصليبية. محمد عبده وتولستوى.. صورة المساندة والحوار حين أصدر الأديب الروسى العالمى روايته «البعث» عام 1900 التى وجه فيها جملته الشهيرة للكنيسة القيصرية وأساقفتها «أنتم موتى»، اجتمع المجمع المقدس وأصدر بيانه الشهير بأن تولستوى عدو الكنيسة، وأعلن بعدها حربا ضروسا على الأديب العالمى الذى تعرض لكل أصناف الاضطهاد. وقتها كثرت التفسيرات التى حاولت الإجابة عن موقف تولستوى، ومنها أنه اعتنق الإسلام، ومنها أيضا أنه اعتنق البهائية قبل أو فى أثناء كتابة روايته الشهيرة «البعث». فى هذا التوقيت تجلى العقل العربى المسلم المساند والداعم للعقل الغربى المضهد فى هذا التوقيت، حيث أرسل الإمام الشيخ محمد عبده رسالته الشهيرة المؤرخة فى 8 أبريل 1904، وكانت الغاية منها مساندته فى ما يواجهه الأديب الكبير من اضطهاد دينى. فى هذه الرسالة مقاطع مهمة وفارقة، أسوق إلى القارئ الكريم بعضا منها: يقول الإمام محمد عبده لتولستوى: «ليس ما كان إليك من رؤساء الدين سوى اعتراف منهم أعلنوه للناس بأنك لست من القوم الضالين، فاحمد الله على أن فارقوك بأقوالهم كما كنت فارقتهم فى عقائدهم وأعمالهم». وهنا قصد محمد عبده رؤساء الكنيسة القيصرية وأساقفها وما فعلوه تجاه الأديب الكبير. لكن فى الرسالة مقطعين مهمين كما رصدهما كثير من المفكرين وهما: 1- «هداك الله إلى معرفة سر الفطرة التى فطر عليها الناس». 2- «نظرت نظرة فى الدين مزقت حجب التقاليد ووصلت بها إلى التوحيد». هاتان الفقرتان فُسرتا على أن محمد عبده فهم أن تولستوى قد اعتنق الإسلام. مما قيل وقتها إن تولستوى لم يرد على رسالة محمد عبده، لكن المفكر المصرى الكبير مراد وهبة، حين ذهب إلى موسكو كأستاذ زائر بجامعاتها عام 1968 زار متحف تولستوى، وهناك عثر على جميع الرسائل التى تم تبادلها بين الأديب مع العلامة محمد عبده، ومنها رد تولستوى فى رسالته المؤرخه فى 12 مايو 1904، أى بعد رسالة محمد عبده بشهر وأربعة أيام بالضبط. وهنا أسوق إليكم جزءا منها: يقول تولستوى موجها حديثه إلى الشيخ محمد عبده: «تلقيت خطابك الكريم الذى يفيض بالثناء علىّ، وأنا أبادر بالجواب عليه، مؤكدا لك ما أدخلته على نفسى من عظيم السرور، حين جعلتنى على تواصل مع رجل مستنير، وأن يكن من ملة غير الملة التى ولدت عليها وتربيت فى أحضانها، فإن دينه ودينى سواء، لأن المعتقدات مختلفة وهى كثيرة، ولكن ليس يوجد إلا دين واحد هو الصحيح، وأملى أن لا أكون مخطئا إذا افترضت استنادا إلى ما ورد فى خطابك أن الدين الذى أؤمن به هو دينك أنت، ذلك الدين الذى قوامه الإقرار بالله وشريعته، والذى يدعو الإنسان إلى أن يرعى حق جاره، وأن يحب لغيره ما يحب لنفسه». هذا الجزء من رسالة تولستوى خضع لكثير من التفسيرات التى تؤكد أن الرجل قد اعتنق الإسلام، وقراءات أخرى ترى العكس، خصوصا أن الأديب العالمى أنهى رسالته بسؤال وجهه إلى الإمام محمد عبده، يسأله عن رأيه فى مذهب بهاء الله وأتباعه. وهنا رأى البعض أن هذا السؤال يحمل فى طياته تأكيدات بأن تولستوى اعتنق المذهب البهائى. وعلىّ هنا أن أعود إلى الغاية التى من أجلها عرضت بعضا من هاتين الرسالتين التاريخيتين لنموذجين من العقول المستنيرة فى الإسلام وفى الغرب، لأن مبدأ التحاور هو المبدأ الذى تبناه التنويريون من الجانبين، وهو الذى ساد فترة ليست بالطويلة، حتى انتهى الأمر إلى الصدام والصراع بين الحضارتين، لم يكن مقصد عقلية الإمام محمد عبده تسعى لدعوة الرجل إلى دخول الإسلام بقدر ما كانت تسعى لإيصال رسالة المسلم المستنير الذى عرف أن هناك اضهادا دينيا وفكريا يمارس على أحد العقول الغربية المستنيرة وسعى لمؤازرته. طه حسين يحاكم الغرب! بعد واحد وخمسين عاما من رسائل الحوار والود بين محمد عبده وتولستوى، وبعد أن مرت تلك العلاقة بين العقلين الغربى والإسلامى بكثير من التأزم والتصادم جاء جيل آخر من العقول العربية والإسلامية أراد أن يرصد مجريات هذه العلاقة من منظور المحاكمة، محاكمة العقل العربى للعقل الغربى. ففى شهر سبتمبر عام 1955 شهدت مدينة البندقية التاريخية لقاء فكريا شديد العمق والأثر، 6 أيام فى الفترة بين 19 سبتمبر حتى 24 سبتمر عام 1955، كانت فارقة فى تاريخ ما وصل إليه صراع العقلين. استقبلت مدينة البندقية وفدا من المفكرين المسلمين يتقدمهم طه حسين والمؤرخ الإيرانى حسن تقى زادة، والتونسى حسن حسنى عبد الوهاب، والعراقى جواد على، والقاضى اللبنانى حسن قبلان، والتركى زكى وليد طوقان. وكان فى انتظارهم عدد من المفكرين الغربيين، ودار اللقاء على شاكلة محاكمة يلعب الإسلام فيها دور الادعاء والغرب دور الدفاع. لكن أريد هنا أن أشير إلى ملحوظة مهمة تتعلق بتنوع الفريق الذى يشكل العقل المسلم، فهناك المصرى والتركى والإيرانى والتونسى والعراقى، هذه التركيبة الآن غير مجتمعة، هى تركيبة متصارعة فى الأساس، فالعقل العربى متصارع مع العقل الإيرانى، والعقل المصرى متصارع مع العقل التركى، والعقل العراقى تم تجريفه وتدميره عبر الاحتلالات الغربية والإيرانية والصراع الطائفى، والعقل التونسى مأزوم فى عنق زجاجة الواقع السياسى. أى أن الحال الذى كان عليه العقل المسلم أيام الخمسينيات من القرن الماضى كان أفضل بكثير مما نحن عليه الآن. المحصلة المحزنة أننا الآن أمام عقول إسلامية متصارعة وليس عقلا إسلاميا واحدا، بالتالى لا يمكن أن يقود هذا العقل المتصارع والمتفتت والمقسوم على نفسه صراعا مع العقل الآخر، سواء كان غربيا أو مسيحيا، لأنه ببساطة هو غير قادر على إدارة حوار مع ذاته، بل هو غير قادر على وقف التصارع والدم المسال بين الاثنين. أعود إلى المحاكمة التى كان طه حسين رأس الحربة فيها، وهو الذى قاد الادعاء حيث قال: «لقد كان الغربيون تلامذة للشرقيين، بعد ذلك تجاوزوهم، ليصبح الغرب أستاذا لهم وأيضا مضطهدا لهم. لقد علّم الغرب الشرقيين مناهج البحث وأسهم فى إيقاظ المسلمين من سباتهم العميق، ولكن فى نفس الوقت قام بقمعهم واضطهادهم، لذا ينبغى أن نحدد مَن هم المذنبون. إننى لا أرى أى تعارض بين المسيحية والإسلام، ولا أفكر فى أى محاكمة للمسيحية، إذ لا ينبغى علينا أن نحمل هذا الدين وزر الخطايا التى يرتكبها المسيحيون الذين يخطئون أولا، وقبل كل شىء فى حق دينهم عندما يستعمرون أرض الإسلام دون عدل ولا رحمة. إن المذنبين الحقيقين الذين يتحملون الوزر كله هم رجال السياسة والأعمال والصناعيين والبنكيين الذين دعموا وقادوا الاستعمار. إننى أرفض غرور الغربيين الذين يعتقدون أنهم أفضل منزلة عند الرب من المسلمين». إن ما قاله طه حسين يجعلنى أتصور أو أفترض أو حتى أحلم بأنه يمكن أن يكون هناك محاكمة مقلوبة من قِبل مفكرين غربيين للعقل الإسلامى المفكر، وأفترض أيضا تبعا لمبدأ النبل الفكرى أن يكون هناك عقل غربى عاقل ومنصف، كما كان هناك فى وقتها عقل إسلامى عاقل ومنصف تمثل فى طه حسين، عقل يفرق بين ممارسات المسلمين وحقيقة الإسلام، عقل لا يعمم فى الذنب ولا فى الخطيئة، عقل لا يتخذ من أخطاء بعض الشاذين من المسلمين أمثال «القاعدة» و«داعش» ذريعة مفضوحة لشن هجوم وحرب على الإسلام نفسه. طه حسين عام 1955 رفض أن يحاكم المسيحية بذنب أخطاء المسيحيين، لذا علينا أيضا أن طالب من العقل الغربى أن لا نحاكم الإسلام بسبب «داعش» أو غيرها. إن أزمة العقل العربى شديدة التعقيد وسر تعقيدها يتأتى من انقسام العقل على نفسه، وهجوم العقل على ذاته وتفتته وتحول أجزائه إلى خلايا سرطانية تقوم على افتراس بعضها البعض. وأزمة العقل العربى لا تختلف عن أزمة العقل المسلم المنقسم على نفسه والمتصارع.