لقد أتيح لى أن أعيش مع الراحل محمود عزب مستشار شيخ الأزهر نحو خمسة عشر عاما فى باريس.. أشهد أنه كان يحب الأزهر، ويفاخر به العالمين.. ومنها أنه كان يدخل فى مجادلات ساخنة مع أستاذه، ويصر على أن ينتصر فيها للأزهر.. وأذكر أنه كان يناقش رسالته حول عربية القرآن وعبرية التوراة، وتحدث طويلا عن الأزهر، مدرسة الوسطية فى الإسلام، وعرين الإمام محمد عبده وطه حسين، وأقسم أن أطروحته التى كان أساتذته يصرون على أن تكون فى أوسع صالة فى جامعة السوربون قد استمرت نحو أربع ساعات أو يزيد، كان ينافح فيها عن الإسلام والأزهر وإمامه.. ولذلك لم أندهش عندما اختاره شيخ الأزهر د. أحمد الطيب مستشارا له.. محمود عزب كان سيواصل نضاله عن الأزهر الذى يحبه ويجله سواء كان فى قلب الأزهر أو خارجه.. فحياته فى تشاد كانت سلسلة من الكفاح الديني، معليا من استنارة الفقهاء ومدافعا عن رموزه، سواء فى محاضراته كأستاذ جامعى أو فى صلوات الجمع، حيث كان يحب أن يكون خطيبا متطوعا. والحق يقال.. كان الراحل عزب يحفظ القرآن ويتغنى به، وكثيرا ما كنت أجده يرتله ليلا ونهارا ويعترف بأنه كان يرتاح كثيرا إذا ما قرأه.. وأذكر أن كنت معه فى قريته «المقاطع» بمحافظة المنوفية، وما أن علم المصلون أنه سيخطب فى أحد المساجد حتى تركوا مسجدهم الذى اعتادوا أن يصلوا فيه وجاءوا من كل فج عميق يستمعون إليه.. وكان يرحمه الله يمزج بين النظرية والتطبيق.. فيتكلم عن الآيات والأحاديث والعبادات كما قرأها فى الكتب، لكنه كان يربط بينها وبين هموم المواطن العادي.. وكان يقول لي: إن هذا المصلى لم يأت ليزداد إيمانا على إيمانه، وإنما جاء لكى أفكر معه فى قضاياه الحياتية، ولذلك كان يشعر المصلى وراءه بالراحة فى حياته العملية.. وكان يرفض أن يقبل يده بعض البسطاء، ويربت على كتفهم برفق ويدعو لهم بالصلاح ويقول: اتجه إلى الله يا بنى ولا تجعل مع الله شريكا. وفى باريس كان الإسلام هو الجبهة التى يحارب عليها.. وعندما وجد أستاذه «شوراكي» قد تجاوز الحد فى ترجمته لمعانى القرآن الكريم، هرع إلى التليفزيون الفرنسى وصحح أغلاط أستاذه بأدب ورفق ولين. وفى أيام الآحاد كانوا يخصصون مساحة زمنية للدين الإسلامي، فكان محمود عزب يتقاسمها مع أستاذه الجزائرى «محمد أركون»، وكانت الإذاعة الفرنسية تهرع إليه عندما تثور مشكلة الحجاب الإسلامى أو أضحيات العيد الكبير.. فكان يفسر ولا يفتي، ويشرح ويحرض العقل على التفكير، وكان يؤمن يرحمه الله أن العقل هو خليفة الله فى الأرض، ويعتز بكل من يعتمد على عقله فى فهم الظواهر الدينية، ويقول إنه مسلم حقا، ذلك أنه استعمل عقله فى كل كبيرة وصغيرة. وفى شهر رمضان الذى غادرنا فيه هذا العام كانت الجالية المصرية تقيم أمسيات دينية ولا يتردد محمود عزب فى الذهاب والحديث فيها، وكانت له مجموعة ضخمة من الأصدقاء العرب والمسلمين، واختار فى أواخر أيامه أن يكون محاضرا فى الجامعات الإسلامية، فذهب إلى إيران والفلبين وغانا وموريتانيا وجزر الملايو وباكستان، وزار جامعات وهران فى الجزائر وتونس والمغرب.. باختصار كان محمود عزب مؤسسة لا هدف له سوى الدفاع عن الإسلام وإظهار وجهه المستنير. وأذكر مرة أنه سافر إلى مارسيليا، وما أن علمت الجالية العربية هناك بوصوله حتى أتوا به إلى مسجدهم الكبير، وظلوا يستمعون إليه، وكأن على رءوسهم الطير، وكان مقررا أن يجلس يومين، فأمضى أسبوعا هناك، بين شرح ودروس وإجابات لأسئلة حائرة. أما المؤتمرات الدولية فكانت كثيرة، وكان يرحمه الله لا يفرق بين الأديان السماوية، ويتحدث بعقل متفتح فى إيطاليا جنبا إلى جنب مع القساوسة والحاخامات، وكان يقول: إن مشكلتنا ليست مع الدين اليهودى الذى نزل من السماء، ولكن مع الصهيونية العالمية والسياسة الإسرائيلية التى تريد أن تجعل من المسلمين فى فلسطين وغيرها عبيدا لها. وكانت له فى إسبانيا صولات وجولات، وتربطه بعدد من المستشرقين أمثال أرنالديز وجاك بييرك وتييه صلات طيبة وصداقة، وأشهد أن أحدهم كان إذا استعصى عليه أمر قرآنى كان يسأل عزب فيجد ضالته المنشودة.. وكان يقول لابد من الاهتمام بصغار وشباب المستشرقين، وكان يقوم بتدريس فقه اللغة العربية إليهم. وكان ينتقد القطيعة التى بين كتاب مصر ومفكريها وبين كتاب ومؤلفى المغرب العربي.. ويقول إن هؤلاء الذين يكتبون باللغات الأجنبية مثل الإنجليزية والفرنسية هم بوابة الإسلام على الغرب، ومن ثم لابد من توطيد علاقاتنا بهم. ولا أنكر أنه كان مبدعا يكتب الشعر وله ديوان بعنوان «أما بعد» يضم قصائد وطنية واغترابية.. ولم يكن يبخل على تلاميذه بقرض الشعر ومقارناته بين أدباء الشرق وأدباء الغرب. باختصار.. كان الراحل محمود عزب يرى أن رسالته هى امتداد لمفكرين كبار أمثال طه حسين، الأزهرى الأول الذى سافر إلى باريس، واهتم أكاديميا بالفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون، ودخل فى مشاحنات مع الحاقدين.. أما عزب فقد جاء إلى القاهرة وترك عمله الأكاديمى فى باريس وتفرغ للذود عن الإسلام، وقام بتأسيس بيت العائلة الذى أبلى فيه بلاء حسنا تحت رئاسة شيخ الأزهر المستنير، وكان كل همه أن يكون المسلم إلى جانب المسيحي، على أن تصهرهم القومية المصرية فى بوتقة واحدة.. ولذلك نعى رحيله المسيحيون قبل المسلمين. لقد كان محمود عزب مثالا يحتذى فى قراءاته وشروحاته وسلوكياته.. لمزيد من مقالات د. سعيد اللاوندي