كان مقال الأسبوع الماضي والذي حمل نفس العنوان، بمثابة حجر ألقى في بركة مياه آسنة، فأحدث ردود فعل واسعة، حينما ألقينا بعض الضوء على بعض الرموز التى جعلناها "آلهة" كأصنام الجاهلية، ومثلما تناقل الناس عبادة الأصنام جيلاً بعد جيل دون تفكير، لمجرد أنهم وجدوا آباءهم وأجدادهم يسجدون لها، سرنا على درب هؤلاء، وتوارثنا عن آبائنا أصنامًا مقدسة سجدنا لها، ولم نفكر لحظة فى محاولة التحقق من سيرة هؤلاء، وهى ظاهرة متفشية بشكل مرضيٍّ في الأمة الإسلامية بصفة خاصة، لأنها العدو اللدود لإبليس اللعين وحاشيته من شياطين الإنس، الذين صنعوا لنا بأيديهم وعلى أعينهم أصنامًا كتلك التي صنعها إبليس اللعين بنفسه ل (ود وسواع ويعوق ويغوث ونسر) وأسس عبادة الأصنام بين البشر ونجح في صرف الناس عن عبادة الله وعن الطريق المستقيم، إلى متاهات الشرك والضلال. في مقالي السابق تكلمت عن سعد زغلول، وأشرت من بعيد إلى محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، والقائمة طويلة، قائمة الأصنام الذين صنعهم الاستعمار الغربي للأمة الإسلامية طويلة وتضم طابورًا كبيرًا لم يرحل المستعمر عن بلادنا قبل اطمئنانه إلى وجود هذا الطابور، وجل الرموز الذين ظهروا وعلا نجمهم في النصف الأول من القرن العشرين كانوا صناعة غربية، شربوا نتاج (المستشرقين) واجتروه زمنًا، ثم تقيأوه في وطننا وسط صخب إعلامي، جعلهم مفكرين وعباقرة، وأبرز هؤلاء: سعد زغلول، محمد عبده، جمال الدين الأفغاني، قاسم أمين، على عبد الرازق، أحمد لطفي السيد، طه حسين، أحمد أمين، محمد حسين هيكل، واستمرت السلسلة حتى محمد حسنين هيكل وصبيانه، وصبيان صبيانه أمثال عادل حمودة. أنشأ محمد عبده في بيروت جمعية التقريب بين الأديان، وهو مبدأ الماسونية الرئيسي، وأسس محمد عبده ما عرف باسم "المدرسة العقلية" في التفسير، وهي مدرسة تدعو لإعلاء سلطان العقل وإخضاع نصوص الشرع للعقل، وإن أتى ما ظاهره التعارض بين العقل والنقل لويت أعناق النصوص الشرعية للتواؤم مع العقل المريض (!!)، ومن ذلك ما فعله في تفسيره وهو مطبوع وموجود على شبكة الإنترنت لمن أراد التثبت فكان ينكر الغيبيات ويحاول تأويلها بسماجة وسذاجة شديدة، ومن ذلك إنكاره للطير الأبابيل التي أهلكت جيش أبرهة وزعمه أن جيش أبرهة أهلك بالجدري (!!)، وإنكاره لقصة ذبح إبراهيم عليه السلام للطير وإحياء الله له ثانية، وإنكاره الجن وتأويلها بالميكروبات(!!)، وأنكر انشقاق القمر لنبينا عليه الصلاة والسلام، وإحياء الموتى لعيسى عليه السلام، ورد الأحاديث الصحيحة، وهو لم يكن يعرف في علم الحديث أي شيء باعتراف أخلص تلاميذه الشيخ رشيد رضا، فأنكر حديث الذبابة وأن أحد جناحيها داء والآخر دواء، وأنكر حديث الكلب الأسود شيطان، وكان له فتاوى غريبة حاول بها أن يساير العصر فأباح ربا صندوق التوفير وغير ذلك. محمد عبده الشيخ الأزهري (المستنير) هو المؤلف الحقيقي لكتاب "تحرير المرأة" ونسبه لقاسم أمين، حتى يتفادى ما يمكن أن يوجه له من نقد، وإن كان هذا القول غير مؤكد تمامًا، فإن المؤكد جدًا هو أن محمد عبده شارك قاسم أمين في تأليف هذا الكتاب، بناءً على أوامر من اللورد كرومر، لإرضاء الأميرة "نازلى هانم" حفيدة إبراهيم باشا (الملكة نازلي فيما بعد، زوجة الملك فؤاد وأم الملك فاروق، صاحبة الفضائح المعروفة، والتي تنصرت وماتت على الملة الكاثوليكية بأمريكا) وكان محمد عبده وقاسم أمين والمويلحي والأفغاني من رواد صالونها مع (المبشر والعميل الإنجليزي) فارس نمر صاحب "المقطم"، والصحفي اليهودي داود بركات، وفي ص 253 من موسوعة الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده، التى اضطلع بإعدادها الدكتور محمد عمارة، وصدرت عن دار الشروق، نقرأ: "والذين نسبوا الأمر إلى كرومر، والذين نسبوه إلى نازلي يتفقون في أن الأمر قد صدر إلى الشيخ محمد عبده، وأنه قام بدور كبير في تأليف الكتاب، ثم وضع على غلافه اسم قاسم أمين تجنبًا للحرج والعاصفة التي كانت ستهب عليه مباشرة إذا ما وضع اسمه عليه، وهو الشيخ الأزهري ذو المناصب الكبرى، ومنها منصب مفتي الديار المصرية". (ا.ه). وتؤكد هذه الحقيقة الدكتورة درية شفيق (بنت أحمد شفيق باشا) في كتابها "تطور النهضة النسائية في مصر" الذي شاركها تأليفه الدكتور إبراهيم عبده، حيث تقول: "أما الأمور التي عالجها الشيخ محمد عبده من الناحية الدينية، فيما يختص بحقوق المرأة، فقد تناولها قاسم أمين من الناحية الاجتماعية، ووجدت آراء قاسم أمين تأييدًا تامًا عند الشيخ محمد عبده، وحدث عام 1897 أن اجتمع الأستاذ الإمام وسعد باشا زغلول ولطفي السيد وقاسم أمين في جنيف، وأخذ الأخير يتلو على الإمام بعض فصول من كتابه عن تحرير المرأة، فكان يوافق على ما فيها، وقيل إن بعض فقرات هذا الكتاب تنم عن أسلوب الشيخ محمد عبده نفسه". ويكفى محمد عبده (عارًا) أنه كان الصديق الصدوق للورد كرومر، وما أدراك ما فعله كرومر في مصر، حتى إن كرومر قال عندما مات محمد عبده: "لقد مات أقرب أصدقائنا". أنكر الشيخ (المستنير) مشروعية السنة، وقال بالاعتماد على القرآن فقط، وهو بذلك يهدم نصف الدين بل الدين كله، فالله تعالى يقول: "من يطع الرسول فقد أطاع الله" ويقول: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"، وقال أيضًا سبحانه وتعالى: "وما ينطق عن الهوى"، وقال عنه مصطفى صبري شيخ الإسلام في عهد الخلافة العثمانية: "الدعوة الإصلاحية المنسوبة إلى محمد عبده فخلاصتها أنه زعزع الأزهر من جموده على الدين فقرب كثيرًا من الأزهريين إلى اللادينيين ولم يقرب اللادينيين إلى الدين خطوة، وهو الذي أدخل الماسونية إلى الأزهر بواسطة شيخه جمال الدين الأفغاني". وعلاقة محمد عبده بالأفغاني ذلك الشيخ الماسوني الرافضي علاقة مشبوهة، أنظر إلى إحدى رسائله إليه وقد نشرها تلميذه رشيد رضا في المنار، حيث يقول: "ليتني كنت أعلم ماذا أكتب إليك وأنت تعلم ما في نفسي كما تعلم ما في نفسك(!!) صنعتنا بيديك وأفضت على موادنا صورها الكمالية وأنشأتنا في أحسن تقويم، فيك عرفنا أنفسنا وبك عرفناك وبك عرفنا العالم أجمعين..."، وقد علق عليها الشيخ رشيد رضا قائلاً: "وهو أغرب كتبه بل هو الشاذ"، فيما يصف أستاذه بما يشبه كلام الصوفية عن الحقائق والقائلين بوحدة الوجود. (أنظر مجلة المنار، مجلد 2 ص 599)، ومن أراد المزيد فليرجع إلى مجلة المنار لتلميذه رشيد رضا. وتؤكد روايات كثيرة تهاونه بالصلوات وتركه لها، وأنه من القائلين بوحدة الوجود، وعلى أحد المواقع البهائية، مقالاً بقلم الدكتور مراد وهبة يتحدث فيه عن علاقة الإمام محمد عبده بالبهائية، ويرمي ضمنًا باعتناق محمد عبده لها مع إضافات الموقع التي تؤكد فيها صحة استنتاجات د.مراد وهبة، والمقال المعني نشر في جريدة "المصري اليوم" بتاريخ 15 مايو 2011، بعنوان: "البهائية بين محمد عبده وتولستوي"، وفيه يذكر مراد وهبة في بداية المقال عن رحلة الأديب الروسي تولستوي (1828 1910) في البحث عن دين نسبي يخلو من (الدوجما) أي معتقد مطلق، ويخلو من الطقوس الخارجية، فعثر عليه في البهائية عام 1898، ويقول وهبة في مقاله: "قبل موت تولستوي بست سنوات وصلته رسالة من محمد عبده بتاريخ 8 أبريل 1904، الغاية منها مساندته فيما يواجهه من اضطهاد ديني، أهم ما جاء فيها فقرتان: الفقرة الأولى تقول: «هداك الله إلى معرفة سر الفطرة التى فطر عليها الناس»، والفقرة الثانية تقول: «نظرت نظرة فى الدين مزقت حجب التقاليد ووصلت بها إلى التوحيد»، والفقرتان معًا توحيان بأن تولستوي - فى رأى محمد عبده - قد اهتدى إلى الإسلام بحكم أن الإسلام هو دين الفطرة وهو دين التوحيد". والسؤال إذن: ما هي استجابة تولستوي لهذا الإيحاء الخفي؟ قال تولستوي فى رده على محمد عبده بتاريخ 12 مايو 1904:"إن دينك ودينى سواء، لأن المعتقدات مختلفة وهى كثيرة، لكن لا يوجد إلا دين واحد وهو الصحيح»، ثم اختتم رده بسؤال: «ما رأيك في مذهب الباب ومذهب بهاء الله وأنصاره؟ أو في صياغة أوضح: ما رأيك في البهائية؟". ويستدل مراد وهبة على بهائية محمد عبده من تلك الخطابات التي تبادلت بينه وبين تولستوي، وهما خطابان كتبهم محمد عبده لتولستوي يهنئه بهدايته لدين الفطرة ولمعرفة التوحيد، ويرى الدكتور مراد وهبة في استجابة تولستوي للخطاب بسؤاله المذيل في آخر الخطاب عن رأي الإمام محمد عبده في المعتقد البابي والبهائي، وعن إخفاء رد تولستوي وعدم نشره والإيحاء بعدم وجود رد للخطاب أصلاً على محمد عبده دليل على وجود ثمة علاقة بين محمد عبده والبهائية، واستدل على ذلك بعلاقة تولستوي القوية بالبهائية، فهو بالتالي يعلم خفايا المعتقد ويعلم أنصاره ومؤيديه . ومازال الحديث ممتدًا ويحمل الكثير من المفاجآت... [email protected]