بعض الجرائم لا تسقط بالتقادم، وخصوصا جرائم الإبادة الجماعية.. ويبدو أن الرئيس السوري الحالي بشار الأسد يسير على خطى والده حافظ الأسد وعمه رفعت الأسد في ارتكاب جرائم الحرب. شاهدة.. "وقررنا عدم إلقاء جدتي في الشارع حتى لا تنهشها الكلاب" وتعلق على أبواب حماة، صورة كبيرة تجمع كلا من "بشار وباسل الابن الأكبر لحافظ الأسد ورفعت الأسد"، ومكتوب أدناها "هكذا يقف الأسود"، في إشارة منهم إلى المجزرة ولتذكير أهالي المدينة بعدم التفكير في الاحتجاج مرة أخرى. حماة تلك المدينة المغدورة التي طوقت على أهلها، فارتكبت بها المجازر وضربت بالمدافع والصواريخ ودهست بالدبابات، فخلفت ضحايا عددهم بعشرات الألوف. ففي يوم 2 فبراير 1982، بدأت مجزرة أقامها العقيد رفعت الأسد، شقيق الرئيس آنذاك حافظ الأسد، وهي المجزرة التي عرفت باسم "مجزرة حماة 82" والتي استمرت 27 يوما، وأدت إلى مقتل عشرات الآلاف حيث قدرها البعض ب 30 ألفا أو يزيدون. ورغم مرور 33 عاما على المجزرة إلا أن ما شهدته المدينة يظل أكثر الأحدث مرارة وعنفا، مقارنة بحملات أمنية مشابهة، حيث استخدمت حكومة الرئيس السوري حافظ الأسد الجيش النظامي والقوات المدربة تدريبا قاسيا ووحدات من الأمن السري في القضاء على المعارضة واجتثاثها. - أسباب المجزرة: جاءت أحداث المجزرة ضمن صراع عنيف بين المعارضة السورية ومن ضمنها جماعة الإخوان المسلمين، والتي اعتبرت أنشط حركات المعارضة وحزب البعث بقيادة الرئيس السوري حافظ الأسد، حيث اتهم الأسد الإخوان بتنفيذ اغتيالات وأعمال عنف في سوريا وقتل طلاب مدرسة المدفعية، وهو ما نفته الإخوان وبرأتهم المحكمة منه. ولكن أصر نظام الأسد على حظر الإخوان وتصفيتهم وشن حملة قمعية واسعة في صفوفهم وأصدر قانون عام 1980 بإعدام كل من ينتمي إلى الجماعة. - كيف بدأت المجزرة: بدأت المجزرة في 2 فبراير 1982، بعدما منح الأسد القوات العسكرية كامل الصلاحيات لضرب المعارضة وتأديب المتعاطفين معها، ولتفادي الاحتجاجات الشعبية والإدانة الخارجية، فرضت السلطات تعتيما على الأخبار، وقطعت طرق المواصلات التي كانت تؤدي إلى المدينة، ولم تسمح لأحد بالخروج منها. وخلال تلك الفترة كانت حماة عرضة لعملية عسكرية واسعة النطاق شاركت فيها قوات من الجيش من سرايا الدّفاع واللواء 47 دبابات، واللواء 21 ميكانيك، والفوج 21 إنزال جوّي والوحدات الخاصة وسرايا الدفاع والاستخبارات العسكرية ووحدات من المخابرات العامة والمليشيات التابعة لحزب البعث. وقامت تلك القوات كلها مجتمعة بقصف المدينة وهدمها ومن ثم اجتياحها عسكرياً وحرقها، وارتكبت إبادة جماعية سقط ضحيتها ما بين 30 ألف إلى 40 ألف قتيل، وهدمت أحياء بكاملها على رؤوس أصحابها كما هدم 88 مسجداً وثلاث كنائس، فيما هاجر عشرات الآلاف من سكّان المدينة هربا من القتل والذّبح والتنكيل. وتلا ذلك كله قيام السلطات بحملة على مدار أسبوعين داهمت خلالها المنازل واحدا تلو الآخر، تخلل ذلك موجة اعتقالات جماعية. وبعد انتهاء المجزرة كافأ الأسد العسكريين المشتبه في تورطهم فيها أو الذين كان لهم ضلع مباشر في أعمال القمع، ومن بين هؤلاء العقيد رفعت الأسد، الذي عين نائبا لرئيس الجمهورية لشؤون الأمن القومي، وضباط كبار في الجيش والمخابرات جرى منحهم رتب أعلى، كما تم تعيين محافظ حماة آنذاك محمد حربة في منصب وزير الداخلية. - أعداد الضحايا: تضاربت التقارير حول أعداد ضحايا المجزرة، حيث قدرت اللجنة السورية لحقوق الإنسان بين 30 و40 ألف، غالبيتهم العظمى من المدنيين، وقضى معظمهم رميا بالرصاص بشكل جماعي، ثم تم دفن الضحايا في مقابر جماعية. بينما قدرهم الكاتب البريطاني روبرت فيسك، الذي كان في حماة بعد المجزرة بفترة قصيرة، أن عدد الضحايا كان 10 آلاف تقريبا، وقالت صحيفة الإندبندنت إن عدد الضحايا يصل إلى 20 ألفا. ووفقا للكاتب والصحفي الأمريكي توماس فريدمان، قام رفعت الأسد بالتباهي بأنه قتل 38 ألفا في حماة. ومن جانب آخر كان هناك 15 ألف مفقود، لم يتم العثور على آثارهم منذ ذلك الحين، فضلا عن تهجير 100 ألف شخص عن المدينة. - تقرير منظمة العفو وشهادات أهالي حماة: أوردت منظمة العفو الدولية شهادات حية لبعض الناجين من المجزرة، وأشكال الرعب التي عاشوها، وخاصة عمليات القتل الجماعي والتعذيب. وقالت مها موسى، البالغة 49 عاما، مقيمة في لندن، وهي تستذكر تجربتها الشخصية التي مرت بها أيام الهجوم على حماة: "لم نتمكن من وضع جثة جدتي والتي توفت في ظروف طبيعية في الخارج كي لا تنهشها الكلاب، حيث احتل الجنود منزل الأسرة وتمركز القناصة على سطح المنزل". وأضافت مها موسى: "سألنا العسكر الموجودين في منزلنا ما الذي عسانا نصنعه بجثة جدتي، فأخبرنا أحدهم بأنه ينبغي علينا وضعها خارج باب المنزل في الشارع، غير أنني أذكر تماما حينها عندما ألقيت نظرة على الوضع في الخارج ورأيت الكلاب وهي تنهش الجثث الملقاة في كافة شوارع المدينة، وقررنا عدم إلقاء جدتي في الشارع حتى لا تنهشها الكلاب". وأشارت المنظمة إلى أنه تم اعتقال عم مها موسى، عقب اتهامه بالانضمام لعضوية جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما نفاه عمها، ولكنه عُذب وقُتل في الحجز، وعندما أُعيد إلى أهله جثة هامدة، كانتا عيناه قد سُملتا ونُزعت أظافر يديه، حسب وصف مها. واستذكرت مها موسى كيف قُتل حوالي 60 شخصا خلال إحدى الهجمات التي استهدفت مسجد مسعود في المدينة قبل أن تقوم قوات الأمن ببتر أصابع أيديهم ورصفها على طول جدار المسجد. وقالت مها: "وعقب مضي ما يقرب من سنتين على المذبحة، لم يتجرأ أحد على إزالة الأصابع المقطوعة من مكانها؛ فلقد كان الجميع مرعوبا إلى درجة لا توصف". وقال أحد سكان حماة، يقيم حاليا في لندن، ويدعى عبد الهادي الراواني: "لم أتمكن من مغادرة منزلي إلا بعد مرور خمسة أيام؛ وساعدت في دفن جثمان امرأة حامل قبل أن أعود إلى المنزل". وأضاف عبد الهادي قائلا: "في اليوم العاشر، غادرت المنزل مرة أخرى، غير أنني صُدمت مما رأيته من جثث، فما كان مني إلا أن عدت مسرعا إلى البيت". وفي الأسبوع الثالث من الهجوم على حماة، دعا الجيشُ السكان إلى التوافد على مهرجان جماهيري حاشد تأييدا للنظام، وبحسب رواية عبد الهادي، قامت قوات الأمن بقتل أعداد كبيرة ممن آثروا البقاء داخل منازلهم بدلا من المشاركة في تلك التظاهرة. وقال عبد الهادي: "يشبه ما يحدث في سوريا هذه الأيام أحداث حماة عام 1982؛ حيث يطالب الشعب بالحرية، ولكنه يُجابه بقمع النظام". وقال شخص آخر من حماة يدعى إياد خطاب: "لقد اكتشف الناس الآن أكاذيب النظام وجرائمه – فقد أصبحنا الآن ندرك ماهيّة آليات عمل الأمن السياسي". وأضاف إياد: "لم تعد مدينة حماة معزولة كما كانت في السابق؛ بل إن هناك تضامن بين المدن المختلفة في سوريا، وهو أمر يرفع من المعنويات لا شك، ولكن الأهم أن الناس في جميع أنحاء سوريا لم يعد يعتريهم الخوف بعد اليوم". وأما محمد، أحد ناشطي مدينة حماة، الذي تحدث إلى منظمة العفو الدولية، شريطة عدم الكشف عن هويته، فقال إن غياب التغطية الإعلامية المستقلة لأحداث عام 1982، قد حدّت من حدوث الانشقاقات في صفوف الجيش حينها. وأضاف محمد لمنظمة العفو الدولية، "من أكبر الفروقات اليوم مقارنةً بأحداث عام 1982، هو أن مدينة حماه قد دُمّرت عن بكرة أبيها حينها، ولكن لم يعلم أهالي القرى القريبة منها بذلك إلا عقب مرور أسبوع كامل". واختتم محمد قائلا: "تمثل وسائل الإعلام أكبر مخاوف النظام؛ ولهذا السبب يرى النظام في تزويد وسائل الإعلام الأجنبية بالمعلومات أكبر الجرائم التي يمكن ارتكابها في سوريا". - تقارير الصحف الأجنبية آنذاك: ذكرت صحيفة "النوفيل أوبزرفاتور الفرنسية" بتاريخ 30 أبريل 1982: "في حماة، منذ عدة أسابيع، تم قمع الانتفاضة الشعبية بقساوة نادرة في التاريخ الحديث.. لقد غزا ( حافظ ورفعت أسد) مدينة حماة، بمثل ما استعاد السوفيات والأمريكان برلين، ثم أجبروا من بقي من الأحياء على السير في مظاهرة تأييد للنظام.. صحفي سوري مندهش قال موجها كلامه لأحد الضباط: رغم ما حدث، فإن هناك عددا لا بأس به في هذه المظاهرة، أجاب الضابط وهو يضحك: نعم، ولكن الذي بقي أقل من الذين قتلناهم". وتحت عنوان: "في سوريا، الإرهابي رقم واحد هو الدولة"، ذكرت صحيفة لوماتان الفرنسية، في عددها رقم 1606 تاريخ 24 أبريل 1982: هنالك على الأقل 20.000 سجين سياسي (وربما وصل العدد إلى 80.000) في سوريا، حيث العنف والإرهاب السياسي هما اليوم عملة رائجة. وأضافت الصحيفة أن جهاز القمع التابع للنظام مدهش للغاية: سرايا الدفاع بقيادة رفعت أسد، سرايا الصراع بقيادة عدنان أسد، الوحدات الخاصة بقيادة علي حيدر، بالمخابرات العامة. وتحت عنوان "وكان القمع مميتا أكثر من يوم حرب الكيبور" -يوم الغفران- قالت مجلة "الفيزد الفرنسية"، في عددها الصادر في مايو 1982: المدفعية الثقيلة تطلق قذائفها على الآمنين، وطوال أربع وعشرين ساعة تساقطت آلاف القذائف والصواريخ على حماة، كل مجمّع سكني وكل منزل كان مستهدفا. كما ذكرت مجلة الإيكونومست تحت عنوان أهوال حماة: "إن القصة الحقيقية لما جرى في شهر فبراير في مدينة حماة الواقعة على بعد 120 ميلا شمال دمشق العاصمة لم تعرف بعد وربما لن تعرف أبدا". لقد مرّ شهران قبل أن تسمح الحكومة السورية للصحفيين بزيارة خرائب المدينة التي استمرت تحت قصف الدبابات والمدفعية والطيران ثلاثة أسابيع كاملة، ونتيجة لذلك فإن قسما كبيرا من المدينة القديمة القائمة في وسط البلد قد مُحي تماما، وسوّي مؤخرا بواسطة الجرافات. وأورد دبلوماسي غربي في شهادته عن الأحداث: "إنه أعنف قصف حدث منذ حرب سوريا عام 1941 بين أنصار حكومة فيشي من جهة وأنصار فرنسا الحرة والبريطانيين من جهة أخرى". ويكمل الدبلوماسي شهادته الحية: وأخيرا وحوالي منتصف الأسبوع الماضي، استطاعت الدبابات اختراق المدينة وطوال أيام كاملة، كانت المعركة مستمرة وبشدة، من بيت إلى بيت، أو بالأحرى من أنقاض إلى أنقاض.. هذا وتتكتم الدولة على عدد القتلى والجرحى من الجانبين، ويضيف الدبلوماسي الغربي قائلا: "ولكن الطلب على الدم في المراكز الطبية كان كثيرا وكثيرا مثل أيام "حرب الكيبور" التي سببت في سوريا آلاف القتلى والجرحى. ويختم الدبلوماسي حديثه قائلا: "يمكن القول إن ما جرى في الأسبوع الماضي في حماة هو فرصوفيا أخرى -أي مثلما حدث لفرصوفيا أثناء الحرب العالمية الثانية- إنه فعلاً، موت مدينة". مر 33 عاما على المذبحة المهولة، لكن العديد من الخفايا والأسرار حول العملية، لم يسمح لها بالخروج من الدفاتر السرية في أدراج المخابرات السورية والأجهزة الأمنية بدمشق، لتكشف العدد الحقيقي للقتلى والمعتقلين ضمن الهجوم البربري على حماة... أو تعلن على الأقل أسماء عتاة الجنرالات السوريين المتصدرين لقتل أبناء البلدة.