تناولت فى المقال السابق قضية سعى السلطة فى أن تحتكر الدولة للفعل السياسى دون حتى أن تصلح من مؤسساتها أو تعلن عن رؤيتها فى هذا الشأن. والحقيقة أن إصلاح مؤسسات الدولة لن يأتى إلا من خلال رؤية سياسية أشمل قادرة على تحديد الدور الذى يجب أن تقوم به الدولة. فهل الدولة ومؤسساتها كيان محايد مسؤول فقط عن إنفاذ القوانين التى يتفق عليها المجتمع دون أن تتدخل فى وضعها، أم أن الدولة مسؤولة عن فرض الرؤية التى تراها الأصلح فى كيفية تنظيم المجتمع لشتى مناحى حياته والقواعد العامة التى يجب أن تحكمه؟ أيضا، هل الدولة طرف أصيل وفاعل فى العملية الإنتاجية وتقديم الخدمات؟ أم أن الدولة فقط مسؤولة عن التنظيم وإنفاذ القوانين؟ أعلم أن هناك من سوف يظن أنها أسئلة لا نحتمل رفاهيتها ونحن نواجه الإرهاب، إلا أن هؤلاء كعادتهم نظرتهم قاصرة، خصوصا أن هذا التخبط وانعدام الرؤية فى تحديد دور الدولة سبب رئيسى فى ترهلها وعجزها وغياب الخطة لإصلاحها. دعنى أطرح نموذجا لدولة حددت بوضوح دور مؤسسات الدولة بداخلها، لعله يوضح الأمر. فقد جاءتنى الفرصة فى زيارة لمدة أسبوع أن أطلع على نموذج دولة الرفاهة فى الدول الإسكندنافية، خصوصا فى الدنمارك. فالدولة هناك على سبيل المثال مسؤولة عن توفير عديد من الخدمات الرئيسية مثل الصحة والتعليم وسبل رعاية الأطفال. هذا الدور يمكن العمالة الدنماركية من خلق فرص العمل نظرا لتميزها، فتنخفض معدلات البطالة. لا تسمع أبدا هناك عن عدم ملاءمة التعليم لاحتياجات سوق العمل، لكن أيضا لا تسمع عن دور للدولة فى خلق فرص العمل، فالدولة حددت دورها فى بناء مواطن قادر على خلق فرص العمل بنفسه دون حاجة إلى الدولة بعد تخرجه. أيضا إذا نظرت إلى سوق العمل هناك تجد دورا أصيلاً للدولة عبر قوانين ورقابة صارمة من أجل حماية حقوق جميع العاملين الرئيسية وضمان المساواة فى مكان العمل عبر نظام رعاية للأطفال يشجع المرأة على البقاء فى سوق العمل. هذا الدور ما يجعل معدل مساهمة المواطنين فى عملية النشاط الاقتصادى باهرة تصل تقريبا إلى 73% من السكان مقارنة بنحو 47% فى مصر دون تفاوت جم بين النساء والرجال (معدل المساهمة بين الرجال 72% مقارنة ب22% معدل المساهمة بين النساء فى مصر، ونحو 75% معدل المساهمة بين الرجال و71% معدل المساهمة بين النساء فى الدنمارك). أيضا وعلى الرغم من غياب دور الدولة فى ضمان حد أدنى للأجور أو حماية العامل من الفصل وترك المجالين لقواعد السوق، فإن الدولة حاضرة بقوة من أجل ضمان حرية نقابية تتيح قيام نقابات عمالية قادرة على التفاوض مع صاحب العمل تصل بهم فى النهاية إلى أجور عادلة ومن خلال نظام إعانة للعاطلين عن العمل يضمن توفير دخل مناسب وإعادة دمجهم إلى سوق العمل مرة أخرى. اللافت فى هذا النظام والدور المحدد للدولة أن فاعليته تأتى من كونه لامركزيا، فالمحافظات هى الطرف الفاعل والقادر على تطبيق هذا النظام بفاعلية. هذا ويقوم المواطن بدفع نصف ضرائبه تقريبا للمستوى المحلى حتى تحدد هى أولويات الإنفاق فى المجالات المختلفة من صحة وتعليم ومرافق عامة بعيدا عن المركز. أما عن حجم الضرائب الجم الذى يدفعه المواطن حتى تستطيع الدولة أن تقوم بتلك المهام والذى يصل إلى نحو 50% من الدخل، فلا تجد اعتراضا كبيرا من المواطنين، علما بمردود تلك الخدمات عليهم وثقة فى دور الدولة وكفاءتها. الآن نعود إلى مصر، فهل تجدون إجابة أو أدوارا محددة؟ لا أظن. فقط تجدون دولة تنسحب من تنظيم سوق العمل ومع ذلك تتعسف تجاه القوى الأخرى مثل النقابات العمالية التى يمكنها أن تساعد فى تنظيم هذه السوق وحماية العاملين بداخلها. أو مثلا تجدون دولة منسحبة عن مناطق مثل النوبة أو الصعيد أو سيناء، ومع ذلك تصر على قدم وساق على تعطيل اللامركزية.