المستشار أحمد عاشور هيئة قضايا الدولة أقدم هيئة قضائية فى مصر، فهى أم الهيئات والجهات القضائية جميعا، فقد زاد عمرها على قرن وأربعة عقود، فقد أنشئت قبل إنشاء المحاكم الأهلية بثمانى سنوات، وُولد من رحمها القضاء العادى والنيابة العامة، ثم محاكم مجلس الدولة والنيابة الإدارية. ويذكر التاريخ أن نوبار باشا، الذى كان يفاوض الدول الأجنبية فى موضوع إنشاء المحاكم المختلطة، قد اختار إلى جانبه فى هذه المفاوضات مجموعة من علماء القانون الدوليين، وأصدر قرارا سنة 1875 بتكوين ما يسمَّى ب«لجنة قضايا الحكومة»، والتعبير الصحيح لها بلجنة قضايا الدولة «comite des consiels dEtat». وقبل افتتاح المحاكم المختلطة صدر «ديكريتو» بتاريخ 27 من يناير سنة 1876، أشار فى ديباجته إلى القضايا القائمة بين الحكومة وبين الأجانب، وإلى أن الدفاع عن مصالحها أمام المحاكم الجديدة يجب أن يُعنى به عناية جدية، فنصّ على إنشاء لجنة لقضايا الدولة، وكان أوَّل تشكيل لها من أربعة مستشارين أجانب من: إيطاليا والنمسا وفرنسا وإنجلترا. ونصّ «الديكريتو» على إعطاء اللجنة استقلالا ذاتيا، كما نصّ على تحقيق الاستقلال الشخصى لمستشاريها فى أدائهم أعمالهم. يذكر التاريخ أن هذه الهيئة هى أول هيئة مستقلة فى التاريخ المصرى وفقا إلى أحكام الأمر العالى الصادر عام 1976، حيث أُنيط بها النيابة القانونية عن الدولة فى مواجهة الأجانب، صيانة لسيادتها الوطنية، وحفظا لأموالها وحقوقها ضد أصحاب الامتيازات الأجنبية، وإصدار الفتاوى، وإعداد وصياغة عقود الدولة، والتحقيق مع كبار موظفى الدولة، ومجالس التأديب، وإبداء الرأى فى ما تباشره الحكومة من أعمال وتصرفات. وتكاد تكون هيئة قضايا الدولة هى الهيئة القضائية الوحيدة التى يتسع نشاطها لكل فروع القانون، ومن أجل ذلك فقد أنشئت بها أقسام للمحكمة الدستورية العليا والمحكمة الإدارية العليا ومحكمة النقض والقضاء الإدارى بكل فروعه وقضايا الضرائب والقضايا المدنية الابتدائية والجزئية والاستئناف العالى ومحكمة القيم والقيم العليا. وبتاريخ 10 من يونيو 1986 صدر قانون هيئة قضايا الدولة رقم 10 لسنة 1986، وكان صدوره بمنزلة ميلاد جديد لهيئة قضائية عتيدة، والذى نصّ فى مادته الأولى على أن هيئة قضايا الدولة هيئة قضائية مستقلة. وفى 5 أكتوبر عام 1922 عيّن أول رئيس مصرى لهذه الهيئة هو المستشار الدكتور عبد الحميد باشا بدوى، وعُيّن مستشارا ملكيا لوزارة الأشغال فى لجنة قضايا الحكومة، وعيّن رئيسا للجنة القضايا فى سنة 1926، وكبيرا للمستشارين وبقى فيها حتى 1940، وقد اشترك فى وضع وصياغة دستور 1923، باعتباره أمينا عاما للجنة الثلاثين التى وضعت هذا الدستور. وقد أرسى دستور مصر الجديد مبدأ سيادة القانون بمادته 196، وأنيط بهيئة قضايا الدولة كهيئة قضائية مستقلة اختصاص النيابة القانونية عن الدولة فى الدعاوى وتسويتها فى أى مرحلة من مراحل التقاضى، وصياغة عقود الدولة، والإشراف الفنى على إدارات الشؤون القانونية بالجهاز الإدارى للدولة، كما أكد تمتع أعضائها بجميع الضمانات والحقوق والواجبات المقررة لأعضاء السلطة القضائية، لتمكينهم من الدفاع عن الحق والمال العام الذى هو مال الشعب المصرى. وقد كان طبيعيا أن ينال نصها الدستورى عقب ثورتَى 25 يناير و30 يونيو كل هذا الحجم الهائل من الاهتمام والصراع والمجادلة، فهى الأمينة على حقوق الدولة وأموال الشعب، فهى ليست خصما لأفراد المجتمع، وليست محاميا للحكومة كما يُصوِّرها البعض، بل هى ضمانة لتحقيق العدل بين الدولة والأفراد، فهى تحاكم الدولة قبل أن يحاكمها القاضى دفاعا عن الحق والمال العام الذى هو مال الشعب، كما أنها تدافع عن تطبيق القانون بعينين معصوبتين دون النظر إلى صفات الخصوم، بما فيهم الشخص الاعتبارى الذى تنوب عنه، وهى فى مباشرتها لسلطة الدولة فى التقاضى إنما تلتزم بنصوص الدستور والقانون وتلتزم بقيم القضاء وتقاليده نزاهة وحيدة. فهيئة قضايا الدولة تدافع عن الدولة فى مقام دفاعها عن تطبيق القانون، حيث تستقل دون غيرها بتقدير متى تتدخل الدولة فى الخصومة القضائية ومتى لا تتدخل، فلا تزجّ بالناس إلى ساحات المحاكم ظلما أو تدفع حقا ليتحقق به ظلم، فتكون أول مَن يرفض لأجهزة الدولة الإدارية طلباتها إن جنحت تلك الأجهزة الإدارية عن الحق، وإذا فرض عليها الدفاع لمصلحة عامة تستقل وحدها بتقديرها وفقا لأحكام القانون، فهى تحقق دفاع الدولة، فإن صح أبدته، وإن حاد عن الصواب أغفلته، فلا تنطق إلا عدلا وصدقا، وتربأ بنفسها عن اللدد فى الخصومة، وإن شرعت فى جمع المعلومات والمستندات من الجهات الإدارية ذات الصلة بمناسبة دعوى تباشرها، فهى تلتزم بالحيدة والتجرد، فتجمع ما للدولة وما عليها لتنير به الطريق أمام منصة القضاء، وإذا ما صدر حكم لصالح أحد المواطنين، وكان هذا الحكم مبنيا على أساس قانونى سليم فلا تطعن عليه، وتهبّ لاتخاذ ما يلزم نحو تنفيذه طبقا لما قضى به، فتعطى كل ذى حقٍ حقه