التصويت كان يجرى تحت القبة بنفس الطريقة القديمة. الجلسة الأولى كلها لم تفرق كثيرا عن الجلسات القديمة. ورغم أن كثيرا ممن تابعوا الجلسة على شاشات التليفزيون اعتقدوا أن ما حدث من هرج، وضوضاء، ولخبطة وأصوات مرتفعة كان غريبا، وبعضهم بدأ فى (الفتى) بأن النواب قليلو الخبرة. وباعتبارى متابعة قديمة لجلسات مجلس الشعب (حضرت جلسات يقودها كمال الشاذلى فى عز مجده عندما كان يحرك المجلس كله بنظرة من عينيه -وكنت أشعر وقتها أننى فى فصل مدرسة ثانوى) أؤكد لكم أن ما حدث فى الجلسة الأولى عادى جدا. الاختلاف الأهم كان فى جملة (على أن لا يخالف الشريعة الإسلامية) التى تكررت قليلا. والاختلاف الثانى كان فيكم أنتم أيها المشاهدون، وفى توقعكم لما سيحدث وتركيزكم لأول مرة مع جلسة مجلس شعب كاملة. لم تكن الجلسة الأولى بالنسبة إلىّ مثيرة كما كانت بالنسبة إلى الذين تابعوها على المقاهى وفى المحلات وفى الشوارع والبيوت، لكن كانت لى أنا، أيضا، توقعاتى الخاصة وأنتظر أن ينقذنى من «العادية» أن أسمع فى نهاية الجلسة هتاف «يسقط يسقط حكم العسكر» كما سمعته فى الكاتدرائية. كنت أنتظر الهتاف فعلا، وعندما صارحت من يشاركوننى المتابعة أمام التليفزيون، سخروا منى وسألونى (مين يعنى ممكن يهتف الهتاف ده وبدأ كل منهم يذكر اسما من أسماء النواب ويستبعده). لم أتقبل السخرية وحاولت أن أدافع عن توقعى بأن الثورة تفاجئنا. لكن استفزنى التحدى وحاولت أن أستعرض أسماء النواب، حتى وجدته. أبو العز الحريرى.. قلت لهم.. هتشوفوا أبو العز الحريرى هيهتف. كنت أتذكر شكل أبو العز فى الميدان أيام الثورة وأكرر اسمه. وانتهى اليوم الأول دون أن يهتف وتلقيت عبارات السخرية من أوهامى بصبر. هل تعرفون ماذا حدث فى اليوم التالى مباشرة من أبو العز الحريرى؟ الاسم الذى اخترته دونا عن باقى الأسماء؟ لم يهتف أبو العز لم يخرج عن حدود التقاليد البرلمانية، لكنه قال ما يقوله أهالى الشهداء والمصابون، وأنقذنى من السخرية. قال أبو العز معنى أهم من الهتاف، قال إن هذا المجلس سيكون مختلفا. ■ ■ ■ لا أعرف ما العلاقة بين الثمانية عشرة يوما ومليونيات الثورة العام الماضى وبين الحج فى عقلى الباطن. ثمة رابط بينهما لا أفهمه. أديت فريضة الحج فى ظروف شديدة الصعوبة والمشقة والخطورة، وظللت لأيام طويلة أبذل جهدا خارقا لأشعر بأى نفحة من النفحات التى أشعر بها عندما أؤدى عمرة آخر ليالى رمضان، نفس الزحام ونفس الإرهاق، لكن شيئا ما فى الحج يجعل التركيز والتحليق بعيد المنال. حتى كان يومٌ صعب من أيام رمى الجمرات، وكان يقود الفوج شاب يصافح كل من يقابله أو يحتضنه، أو يبتسم له ويطلب منه الدعاء، هكذا دون سابق معرفة، وطلب منا أن نفعل مثله ففعلنا، فسيطر جوٌّ من الود والمحبة ثم المرح، ومر اليوم بسهولة غريبة. ورأيت الله فى ملامح وابتسامات البشر على اختلاف جنسياتهم، وشعرت بالأمان داخل الزحام الرهيب. طوال أيام الثورة كنت أتذكر هذه المشاعر لحظة دخولى ميدان التحرير. لحظة الشعور بالأمان داخل الزحام. أحلم الآن أن أستعيد هذا الشعور.