* “يسقط ..يسقط ....حسنى مبارك” كانت إشارة البدء في شارع طلعت حرب وفجأة أنهال الأمن على المتظاهرين * استعان الأمن ب خمسة آلاف جندي ومائة سيارة من عربات الأمن المركزي و مئات من الشرطة السرية * حمدى قناوى واحد من أبطال المظاهرات أوسع النظام سخرية وانتقادا وكان مجددا فى فنون التظاهر بالدمى التى تواكب موضوع المظاهرة يمكن اعتبار يوم السبت الموافق 29 يوليه 2005 هو يوم اختبار القوة بين الأمن وقوى التغيير فى مصر سواء كانت أحزاب أو حركات...فى جولة غير متكافئة وفى ساعات معدودة استطاع الأمن أن يحبط واحدة من أهم المظاهرات التى تم الدعوة إليها للاحتجاج على ترشح حسنى مبارك لرئاسة الجمهورية فالكيل قد فاض من زمن وزاد من الاحتقان التعديلات الدستورية المشبوهة والمادة 76 التى تمكن من توريث البلد. كان الموعد فى الخامسة من مساء السبت والمكان هو ميدان التحرير.. ولكن فى الخامسة والربع كان الأمن يستعرض عضلاته منتشيا بالانتصار المبكر فقد احتل ميدان التحرير تماما وفى تقديرات إعلامية فقد استعان الأمن بما يقرب من خمسة آلاف جندي تدعمهم أكثر من مائة سيارة من عربات الأمن المركزي فضلا عن مئات من الشرطة السرية التى ترتدى زيا مدنيا ومجموعات من فرق الكاراتية أما مباحث أمن الدولة فقد كانت منتشرة على كل النواصى وضباط بأعلى الرتب منتشرون وعلى أهبة الاستعداد للصدام ... التحرير الآن فى حالة طوارئ الأمن يحتل كل سنتيمتر فى الميدان و النشطاء على التخوم يحاولون الاختراق وتلبية الموعد . لم يتمكن واحد من المئات الذين جاؤوا لإعلان احتجاجهم فى الميدان من الدخول إليه بضع عشرات عند المتحف المصرى وعدد مماثل لهم متواجد فى باب اللوق بينما العدد الأكبر كان هناك فى ميدان طلعت حرب يتقدمون بحذر نحو الميدان ... التليفونات المحمولة تنقل الأخبار وتربط المجموعات ببعضها .. قريبا من شارع التحرير ناحية ميدان باب اللوق أتلكأ مع اثنين من زملائى .. بينما كانت مجموعة أخرى من الشباب على الناصية المقابلة لنا قد دخلت فى نقاش حاد مع قيادات الأمن نقترب منهم والمرارة بدأت تفعل مفعولها فى حلوقنا المشتاقة للهتاف بشعارنا المفضل ” يسقط ... يسقط ... حسنى مبارك “ولكن الأمن أعلن انتصاره باحتلال الميدان . هكذا كانت الصورة الكلية فى بداية الموعد .. فهل خابت الدعوات المكثفة من كافة الحركات الاحتجاجية ومن أحزاب لها وزنها مثل التجمع والناصرى ؟ الإجابة لم تتأخر عنا كثيرا ..من ميدان عبد المنعم رياض وميدان طلعت حرب وميدان باب اللوق تتوالى الاتصالات على المحمول المتظاهرون لن يعودوا إلى منازلهم دون أن يشهروا أصواتهم فى وجه النظام معترضين على ترشيح مبارك لرئاسة الجمهورية وكان القرار هو أن يلتقى الجميع فى شارع طلعت حرب وينطلق الجميع من كل اتجاه وهناك أمام مقر الحزب الناصرى يلعلع الهتاف . “يسقط ..يسقط ....حسنى مبارك” .
و ما هى إلا دقائق حتى تصل ترسانة الأمن وتبدأ بالكردون الشهير والمعتاد فترتفع الأصوات اعلى من خوذات العساكر وتنجح المظاهرة فى الاشتعال لأكثر من خمس دقائق متواصلة اللافتات ترتفع والحناجر ترفض الاستسلام، دقائق معدودات ويأتى القرار المضاد ” اقبضوا على كل المحرضين”، سمعتها بأذنى من ضابط يبدو أنه رفيع الشأن فى وزارة الداخلية .. تراجعت بمن معى خطوتين للخلف لنتحصن فى مدخل العمارة التى تواجه النادى الدبلوماسى صراخ يتعالى وهتافات تشتد يبدو أن أوامر صدرت إلى فرق الكاراتيه التى ترتدى الزى المدنى والمجهزة لضرب المتظاهرين بأن تبدأ الاشتباك ، فكان كل خمس أفراد يتجمعون حول أحد المتظاهرين ويوسعونه ضربا ويقتادونه إلى عربة الترحيلات المتواجدة بالشارع .. نرى الآن ما يشبه المذبحة على أسفلت الشارع .. تم القبض على العشرات من المتظاهرين ، المقبوض عليهم لم يصمتوا و أخذوا يهتفون ضد مبارك من خلف قضبان العربة بصندوقها الواسع . السيارة كانت تقف قريبا جدا من مخبئنا حيث كانت تقف أمام النادى الدبلوماسى ويبدأ حصد النشطاء واحدا تلو الآخر فى هذه السيارة المشئومة نتذكر جميعا وقفة المناضل الدكتور يحى القزاز على بابها منتصرا على النظام كما نتذكر الصورة الشهيرة للبطل حمدى قناوى الذى تمزقت ملابسه من فعل الشد والجذب و حمدى قناوى هو واحد من أبطال المظاهرات الحقيقين فطالما أوسع النظام سخرية وانتقادا وكان مجددا فى فنون التظاهر بالدمى التى كان يصنعها متواكبة مع موضوع المظاهرة رأيت عادل واسيلى وقد حاصرة أكثر من ثلاثة أفراد من فرق الكاراتية. لم تكتف قوات الأمن بالقبض على النشطاء ولكنها فى ذات الوقت قامت بملاحقة وسائل الإعلام العربية والدولية وقامت بسحب الأفلام من كاميرات المصورين و تدمير الكثير منها ومن بينهم كاميرا قناة الحرة وبينما كان طارق الشامى المذيع بالقناة منفعلا صارخا فى وجه أحد الضباط كان الأخير يرد عليه بابتسامة بلهاء .
حصدت الداخلية الكثير والكثير حتى ان الرصد العددى لم يعد مجديا علمنا أن المقبوض عليهم فى طريقهم لمعسكرات الأمن المركزى فى الدراسة أما من نجح من النشطاء فى الإفلات من قبضة الأمن فلم يهرب إلى منزله فقد ابتلعتهم الممرات ومداخل العمارات .. نخرج بحذر نحو شارع البستان أرى من تبقى من زملائى فرادى تشتعل عيونهم بالغضب.. وهناك على واحدة من النواصى القريبة من محلات بيع الأجهزة الكهربائية أرى أربعة من مناضلى مدينتى الإسماعيلية وقد جاؤوا لتلبية النداء كان مسعد أبو فجر بجسده الدقيق ومحمد حسن جوهر و فتحى مبارك والمهندس إبراهيم الكومى ... على ناصية أخرى كان المهندس طلعت فهمى ومعه أخرون .. فى هذه اللحظات العصيبة كان من الممكن أن يصيبنى الشلل لو لم أهتف الشعار الذى خرجت من أجله بخطوات سريعة أنزل الى منتصف الشارع الخالى من المارة والسيارات وبالتحديد أمام مول البستان و ” يسقط ..يسقط .. حسنى مبارك ” هكذا هتفت و فى ثوانى كان طلعت فهمى ومن معه جوارى فيرتفع الهتاف من جديد وبحرارة اشد وتتحرك مظاهرة لم يعمل الأمن لها حسابا فيخرج كل الذين استفزهم مشهد القبض والسحل لزملائهم يخرجون فرادى وجماعات ويولد الزحام العفى من جديد حملنى أحدهم وقبل أن أشعر بالإعياء كان على الأكتاف هانى رياض الذى وصل بالمظاهرة حتى مقهى الحرية ندخل قلب ميدان باب اللوق وقد قلنا كل مانريد وبأعداد لم نتوقعها . هنا يظهر العسكر وفرق الكاراتيه مرة أخرى لاستكمال مسلسل القبض والهروب و الكر و الفر ... تبدأ عملية تكسير عظام حقيقية بذات المنهج يتشتت المتظاهرون عند مبنى وزارة الأوقاف يلاحقنى اثنان من فرق الكاراتيه وقبل الدخول فى وصلة من العنف المتوقع تصل موجة جديدة من الذين شاركونا المظاهرة السريعة لينجحوا فى تخليصى من بين أياديهم ليعود الاثنان من حيث جاؤوا ولم يحصلوا إلا على ياقة قميصى . انفض الصراع من الشوارع وغابت الشمس .. المعتاد فى مثل هذه الأمور وخاصة تلك التى يتم فيها عمليات قبض واعتقال هو أن يتجه من تبقى إلى نقابة الصحفيين للاحتشاد ومتابعة الأمر... وللنقابة سلم يصلح منصة للهتاف وبالفعل العشرات من النشطاء فى الدور الأرضى للنقابة والكلمة الآن للمحامين وللإعلاميين فما هو حصاد ذلك اليوم المرير عرفنا فى النقابة أن جورج إسحق المنسق العام لحركة كفاية وصلاح عدلى القيادي في الحزب الشيوعي المصري وأمين اسكندر القيادى بحزب الكرامة كانوا من أوائل المقبوض فى ذلك اليوم عند محاولتهم دخول ميدان التحرير فى الخامسة عصرا .. يعلن الحاضرون فى مقر النقابة دخولهم فى اعتصام مفتوح لحين الإفراج عن كافة المعتقلين ويبدأ المحامون رحلتهم نحو معسكر الأمن المركزى بالدراسة ويستعد الجميع للمقاومة بالاعتصام .. يبدأ الاكتتاب من أجل تدبير إعاشة المقبوض عليهم تنهال الاتصالات من الفضائيات تسأل عن الخطوة القادمة عند العاشرة مساء نعرف انه تم الإفراج عن القيادات الثلاثة ويقول جورج اسحاق فى مداخلة مع فضائية عقب الإفراج عنه أن قوات الأمن قامت بالقبض عليه هو وزملائه من المتظاهرين بشكل شرس ووحشي وزجوا بهم في عربة ترحيلات خانقة . وأوضح انه تم نقله مع باقي المعتقلين إلى معسكر قوات الأمن المركزي في الدراسة . يسرى التفاؤل بيننا وتتوالى الأخبار التى كان معظم مصادرها صحفيون تابعوا الحدث فنعرف أسماء بعض من تعرضوا للضرب أو الاعتقال ، فمن حركة كفاية وائل خليل ومحسن بشير وأحمد راغب ومن “شباب من أجل التغيير ” سيد علواني وإسلام محسن ومحمد محمود وكريم الشاعر إلا أن الأخير أطلق سراحه بعد تعرضه لعدة إصابات ، ومن الحملة الشعبية من أجل التغيير صلاح عدلي ، ومن الصحفيين شعبان عبد الرحيم الضبع والذي تلقى ضربة قوية على رأسه وأصيب بنزيف في فمه فتم نقله إلى المستشفى. أما أعجب ما عرفناه فى النقابة هو أن مصادر من جماعة ” الإخوان المسلمين ” وحركة كفاية قد أكدت أن تحذيرات عنيفة تم إبلاغها لهم خلال الأيام الماضية من أي تحرك في الشارع ، وأنه سوف يواجه بصرامة بالغة ، وفي حين أخذت جماعة الإخوان التحذيرات الأمنية على محمل الجد ، إلا أن باقى القوى الداعمة للتغيير كحركة كفاية والاشتراكيون الثوريون وحزب التجمع والحزب الشيوعى المصرى و اليساريون المستقلون تجاهلوا التحذيرات وكتبوا صفحة ناصعة فى تاريخ إسقاط النظام .