بصدفة سعيدة وقعت فى يدى الترجمة المصرية الأولى لواحدة من روائع الأدب الفرنسى، طالما تمنيت ترجمتها للغة العربية، وهى رواية «جاك القدرى» لأحد أبرز فلاسفة الثورة الفرنسية وهو ديدرو. وهى الرواية التى صدرت مؤخرا ضمن سلسلة «المئة كتاب» فى ترجمة سلسة لحسن عبد الفضيل. وترجع هذه السعادة إلى أهمية هذه الرواية الباكرة، حيث تقف جنبا إلى جنب مع رواية لورنس ستيرن «تريسترام شاندى»، التى أرجو أن تظهر هى الأخرى فى هذه السلسلة الجيدة، باعتبارها من الروايات السابقة لعصرها، ولأنها أيضا من الروايات التى أرست فكر الاستنارة وأهمية الحرية والإرادة الإنسانية وقدمته بنصاعة ويسر إلى القارئ العادى. وقد استمتعت بقراءة هذه الرواية، لأنها وقد صدرت فى سياق التمهيد للاستنارة والثورة الفرنسية، تأتى بعد ثورة 25 يناير التى نحتاج معها إلى تأسيس الكثير مما حاولت هذه الرواية تكريسه من أسس التفكير العقلى والنقدى. والواقع أن هناك اتفاقا بين من كتبوا عن الثورة الفرنسية على الدور المهم الذى لعبته المجموعة التى تعرف بفلاسفة الاستنارة، التى تضم عددا من أبرز أعلام فكر تلك المرحلة، وعلى رأسهم مونتسكيو وروسو وفولتير وديدرو فى إرساء دعائم فكر الحرية والحكم الديمقراطى الرشيد. بدءا من كتاب مونتسكيو «روح الشرائع»، الذى أسس مبدأ الحكم الدستورى والسلطات المنفصلة: التشريعية والتنفيذية والقضائية، مرورا بأفكار روسو وفلسفته فى الحرية التى غيرت شرائع مونتسكيو واستبدلت بها «العقد الاجتماعى» كأساس لحياة المجتمع، وأجهزت إلى الأبد على الأسس الفكرية للحكم الملكى، معتبرة الشعب مصدر كل السلطات، وصولا إلى فولتير وأفكاره عن «سلطة الاستنارة المطلقة» والاعتماد على العلم فى تحقيق التقدم. وعلى ضرورة تحقيق وحدة المجتمع، لأن الدولة المركزية القوية هى الضمانة الأساسية لحماية حرية المواطنين. ويعود الفضل إلى ديدرو فى تحويل الكثير من أفكار الاستنارة المهمة تلك إلى أدوات فاعلة فى الواقع، وقادرة على تغييره. فقد بدأ عام 1751 فى نشر الموسوعة، وكرس القسم الأكبر مما بقى من حياته بعدها لتحريرها. بالصورة التى كرست سلطة العلم والمعرفة بشكل كامل. وأحالت تمحيص الحقائق بشكل علمى ومنهجى إلى أساس لأى جدل فكرى أو سياسى. فلا يدخل ساحتها إلا كل ما يتم تمحيصه فكريا وعلميا باعتباره حقائق لا مماراة فيها، ويمكن الاعتماد عليها. بالصورة التى يعتبره الكثيرون معها مسؤولا عن تحقيق النقلة الفكرية إلى العقلانية التى تبلورت بعده بشكل ناصع فى سفرى كانت الكبيرين: «نقد العقل الخالص» 1781 و«نقد العقل العملى» 1788. بل يعتبره البعض مسؤولا عن وضع بذور فكرة الجدل الفلسفية التى بلورها هيجل فوق ميراث كانت العقلى، التى نجد تجلياتها الناصعة فى روايته تلك. فقد كان ديدرو كاتبا موسوعيا، ومبدعا خلاقا يكرس أعماله الإبداعية لنشر أفكاره والبرهنة عليها. وتنطوى روايته الجميلة والممتعة معا «جاك القدرى وسيده» على الكثير من تلك الأفكار، دون أى تعمّل أو سفسطة. فهى رواية تنتمى إلى جنس رواية المغامرات الشعبية الساخرة المعروفة باسم البيكاريسك، التى يرجع بعض الدارسين جذورها إلى تأثيرات الأدب العربى القديمة فى الأندلس، خصوصا مقامات بديع الزمان الهمذانى، ومغامرات بطله الشهير عيسى بن هشام، وما يتعرض له من مواقف مختلفة لا رابط بينها، مما يضع أساس البنية المفككة «الابيسودية» لهذا الشكل السردى. لكن البيكاريسك الأوروبية تستمد معظم ملامحها من رواية سيرفانتس الشهيرة «دون كيخوته»، وهو الأمر الذى نلمس آثاره فى «جاك القدرى» التى تنطوى على الكثير من ملامح رواية البيكاريسك من الافتقاد إلى الحبكة الكلية، والاعتماد على سلسلة من الحكايات التى لا نجد بينها إلا أوهن الروابط، والتركيز على سيرة بطل ومغامراته، وهو بطل نرى الأحداث كلها من منظوره ولا ينتمى عادة إلى فئة الأبطال التقليدية، إنما لطبقات أقرب إلى القاع الاجتماعى المهمش، وحتى الولع بالمفارقات والسخرية التهكمية اللاذعة. وكان هذا الجنس السردى شائعا فى عصر ديدرو بالطبع، وقبل ميلاد الرواية بمعناها الحديث. وإليه تنتمى روايته التى تحكى لنا فصولا عديدة، من حياة بطلها جاك فى المحل الأول، وسيده فى المحل الثانى، وما يكشف عنه الحكى من شغف الفرنسى الدائم ببهجة الحياة والاستمتاع بها وتذوق أطايبها. لكن الفارق الكبير بين الكثير من روايات البيكاريسك و«جاك القدرى» هو قدرة هذه الرواية البديعة على توظيف هذا الشكل الشعبى فى تكريس الكثير من أفكار الاستنارة الفرنسية الأساسية بدءا من فكرة تعدد الاحتمالات المستمرة لكل واقعة، وضرورة تعريض الكثير من المسلمات لضوء الشك العقلى لزعزعة الرواسخ القديمة والمستقرة، والسخرية التهكمية من التراتبات الاجتماعية الثابتة، وحتى الكشف عما يخفيه رجال الدين وراء أرديتهم المهيبة من رياء وفجور، أو ما ينطوى عليه كثير من الجدل الكنسى واللاهوتى من هراء، أو ما تدبره النساء من مكائد كاشفة عن الخلل الكبير فى بنية العلاقات الاجتماعية السائدة، وحتى المناداة بحق المواطن فى الحرية والمساواة والعدل كأساس لتحقيق السلام الاجتماعى المنشود. وتفعل الرواية هذا كله بمنطق السرد الشيق البسيط، الذى يصف مغامرات جاك مع سيده فى ارتحالاتهما المختلفة، فالرحلة من عناصر ذلك الجنس الأدبى المهمة، وفى ما يتعرضان له من أحداث ومواقف تكشف لنا عن أن جاك أكثر حصافة وخبرة بالحياة من سيده، وبالتالى أجدر باحترام القارئ، وفى نهاية الأمر باحترام سيده نفسه. ويبدأ ديدرو منذ عنوان الرواية وعتبتها الأولى «جاك القدرى وسيده» فى قلب البنية السائدة التى تقدم السيد على التابع، لأن روايته هى رواية قلب التراتبات الاجتماعية، وتعريض مسلماتها لضوء العقل الشكى. لأنك ما أن تفرغ من قراءة هذه الرواية البديعة حتى تكتشف ضرورة إعادة التفكير فى الكثير من علاقات التراتب الاجتماعية القديمة تلك، سواء تلك التى تحكم العلاقة بين السيد والتابع، أو بين الرجل والمرأة، أو بين المواطن العادى والكنيسة، وغير ذلك من العلاقات المستقرة فى المجتمع.