بقلم - د/ عبدالمنعم إبراهيم الجميعي شهدت فرنسا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، كما شهدت أوربا تياراً جازفاً من الأفكار والمبادئ التي هزت مشاعر الشعوب والتي يمكن وصفها بعصر الاستنارة Age of Enlightment، والتي تضمنت مبادئ الحرية والتسامح الديني وحقوق الأفراد، فلم يعد الأدب أدبا خالصا لذاته بل أصبح أداة لنقل الأفكار السياسية والاجتماعية، كما أصبحت القطعة الأدبية تقدر بمحصولها الفكري أكثر من جمالها الفني، فشمل الأدب رسائل سياسية مثل »روح القوانين« لمونتسكيو، و»العقد الاجتماعي« لروسو، و»تاريخ محكمة باريس« لفولتير، كما وضع علي بساط البحث والنقاش أسس الحق، ونظريات الدفاع عن الحرية وحق الشعوب، فقد كان »مونتسكيو« في كتابته مصلحا ينشد الحرية فوضع في كتابه »روح القوانين« أساس البحث المقارن في الحكومات والتشريع والأخلاق والعادات قديما وحديثا، ونادي بالتسامح وهاجم سياسة التعصب الديني، كما نادي بفصل السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية صونا للعدالة، وسخر من أباطيل الكنيسة ومن سلطة البابا، وانتقد الحياة الفرنسية وألقي ضوءا ساطعا علي انحلال المجتمع الفرنسي والنفاق في الدين. وبالنسبة لكتاب »العقد الاجتماعي« لجان جاك روسو والذي يعده البعض إنجيل الحرية، فقد رأي أن المصالح المتبادلة بين الناس هي أساس جميع السلطات، وان الدولة لا توجد إلا بموجب عقد اجتماعي بينها وبين المواطنين، وقد شاع اسم روسو في صالونات باريس، وكان يستطيع أن يحتل في المجتمع الفرنسي مكانة عالية، ولكنه اعتزل هذا المجتمع وعاش في بيت صغير. ولروسو إنتاج أدبي غزير لكنه معروف بكتبه الأربعة »الاعترافات«، و»جولي« و»العقد الاجتماعي« و»أميل«، وفي هذه الكتب يدعو »روسو« إلي أن يضحي الإنسان بمصلحته في سبيل الصالح العام، لأن الغاية المنشودة عنده هي »أعظم خير لأكبر مجموعة من الناس« وهو يريد بالإنسان الرجوع إلي حالته الفطرية الأولي التي كانت قائمة قبل أن يفسد الإنسان بالحضارة الدخيلة الطارئة، وهو من جهة أخري يود العودة إلي الماضي الذي بهره. لقد آمن روسو بأن الإنسان ولد نقيا لا يشوبه شر، فهو يعتقد بوجود الله، لكنه يري أن طريقة البرهنة علي وجوده تكون بإحساس من القلب وليس بالحجج العلمية العقلية، أما عن »فولتير« ذلك القنديل الذي أضاء الفكر الأوربي بعطر التسامح والذي يعد من أنشط كتاب القرن الثامن عشر، وأخلدهم ذكرا فقد كانت رحلته إلي عالم الحرية يتخللها العديد من المسالك الخطرة الشائكة، فكم من مرة ألقي به في سجن الباستيل بتهم تنحصر في التطاول علي الأسرة المالكة مما اضطره إلي الرحيل إلي منفاه في بريطانيا حيث أطربه مناخ الحرية هناك ثم عاد إلي فرنسا حيث أراد أن يوضح للفرنسيين مزايا النظم الإنجليزية، فكتب كتابه »رسائل عن الانجليز« أبان فيه أهمية الحرية وقيمة العلم، مما أثار ضجة بين الطبقة العليا، واضطر الشرطة الي مصادرته وإحراقه فاضطر »فولتير« إلي الفرار إلي ألمانيا ثم إلي سويسرا حيث كتب مؤلفاته التي غيرت مسار الحركة الفكرية في أوربا، فكانت قضيته الأساسية هي الحرية والتسامح، وكان قلمه سلاحا باترا يستخدمه في مهاجمة الكنيسة. إن مؤلفات فولتير متعددة تزيد علي مائتين وستين مؤلفا فيها تاريخ وسير، وضروب مختلفة من الشعر، وفيها أبحاث علمية ورسائل دينية ومقالات فلسفية وغيرها، ففولتير رغم مكانته الأدبية، فهو مؤرخ كتب »مقالة في السلوك« حدد فيها طوراً جديداً في دراسة الإنسان لماضيه وأخذ المؤرخون ينهجون منهجه، فتطور علم التاريخ بهذا تطورا ملحوظاً. لقد رأي »فولتير« أن معني التاريخ يكمن في العلوم والفنون والآداب وتهذيبات الحياة الاجتماعية وقد عبَّر عن ذلك بقوله: »إن مجال التاريخ يجب أن يتسع ليتتبع سر العقل في الفلسفة والبلاغة، وفي الشعر والنقد، وفي التصوير والنحت، وفي الموسيقي والرسم، وحتي في النسيج وصناعة الساعات وكل ما يمثل شخصية الشعب، لأنها أجدر اهتماما من معرفة جزئية بأخبار الملوك وأحاديث البلاط، وأن الخير الحقيقي للإنسانية ليس في قوادها، ولكن في فلاسفتها وعلمائها وشعرائها«. لقد كانت هذه الكتب وغيرها تدعو إلي الإصلاح الشامل في كافة مناحي الحياة سواء كانت سياسة أو دينية أو اجتماعية، وتدعو إلي فصل السلطات الثلاث، ووجود الضوابط بينها، وتهاجم الاستبداد، ونظرية الحق الإلهي المقدس للملوك مما ساعد علي إحياء روح النقد، فبدأ العديد من الأمور التي كان لها احترامها بين الناس في الماضي تفقد قيمتها، مما ساعد علي ظهور عصر الاستنارة، وانتقال أوربا إلي عصر النهضة الحديثة. أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر