كان في الثلاثين من عمره, بلا حرفة أو مهنة, ويظن أنه موسيقيا مبدعا, لم يحظ بعد بفرصة مواتية, لكن الحقيقة أنه كان حالما وخاملا, فقد تلعثمت حياته منذ مولده, فما أن ولدته أمه عام1712, حتي لفظت أنفاسها الأخيرة. وتولي والده رعايته, وكان يعمل في صناعة الساعات, كما كان مولعا بقراءة الكتب والروايات, واجتذب ابنه جان جاك روسو الي دنيا الكلمات والأفكار, وقرأ معا طويلا وكثيرا. وذات صباح, عندما استيقظ الفتي من نومه, كان والده قد رحل بعيدا عنه, فرارا من أزمة مالية, وشق جان جاك طريقه في الحياة بصعوبة, ولما بلغ الثلاثين رحل من جنيف موطن رأسه الي باريس عام1742, وهناك تبدد وهمه الأخير في أن يصبح موسيقيا. غير أن الحظ حالفه عندما تعرف علي كاتب ومفكر هو ديدرو صاحب دائرة المعارف الفرنسية الشهيرة, وقربه منه, وسمح له بمساعدته في عمله, لكن السلطات سرعان ما زجت بديدرو في السجن بتهمة مخالفة قوانين النشر. وذات يوم صيفي, كان روسو في طريقه لزيارة ديدرو في السجن.. وتصبب عرقا من فرط حرارة الشمس, وجلس بجوار شجرة ليستريح, وتسلي بقراءة مجلة كانت معه, فوقع بصره علي إعلان لمسابقة أدبية عن تأثير تقدم العلوم والفنون علي الأخلاق, وقرر الاشتراك في المسابقة, وكان في السابعة والثلاثين من عمره. {{{ وتلك كانت اللحظة السحرية التي هبطت فيها العبقرية من عليائها علي روسو, وانسالت عليه الأفكار والرؤي الرائعة, وفاز في المسابقة فوزا مبينا, وأضحي حديث المدينة. ومنذ تلك اللحظة النورانية سكنته العبقرية سنوات, أبدع في خلالها فكرا وأدبا, وكان كتابه الفريد العقد الاجتماعي, الذي نشره عام1762 درة زمنه, فقد زلزل به الديكتاتورية وقوض حكم الارستقراطية, وأرسي دعائم الديمقراطية, وكان حصيفا عندما أكد العناق الحميم بين الحرية والعدالة الاجتماعية, واعتبره الباحثون الأب الروحي للاشتراكية الديمقراطية. والفكرة المحورية في العقد الاجتماعي هي الاتفاق العام الشعبي علي جوهر الحكم الديمقراطي, وأن الشعب صاحب السيادة, ومصدر السلطات. ولم يكن فيلسوف العقد الاجتماعي أول من طرأت علي ذهنه هذه الأفكار, فقد داعبت مفكرون بارزون قبله, منهم الفيلسوف الصيني كونفوشيوس, كما أشار إليها أفلاطون في جمهوريته. لكن فضل روسو كان عظيما, فقد بلور فكرة العقد الاجتماعي, وأوضح مقاصدها, والأهم, أنه أطلقها في التوقيت التاريخي المناسب, فسعت في الطرقات وحققت المراد, ولم تستطع نظم شمولية عاتية مثل الشيوعية أو النازية والفاشية أن تنازلها, فقد عصفت بها. {{{ جان جاك روسو لايزال يرفع راية الديمقراطية والعدالة الاجتماعية, ويثير جدلا عظيما. ووصل هذا الجدل الي مصر منذ مستهل القرن التاسع عشر, وتحديدا عام1831, ففي ذاك العام عاد فتي الجامع الأزهر الشريف رفاعة الطهطاوي من بعثته التعليمية في فرنسا, ونشر كتابه تخليص الإبريز في تلخيص باريز, وكشف فيه عن تأثره بأفكار روسو وكوكبة مفكري عصر التنوير والحرية. ونزل كتاب رفاعة بردا وسلاما علي أفئدة طليعة المثقفين,, من أحمد لطفي السيد وطه حسين, وحتي أحمد بهاء الدين وكامل زهيري ومحمد عودة.. وغيرهم. لكن الجدل حول الديمقراطية والعدالة الاجتماعية تعثر طويلا, حتي أنقذته ثورة25 يناير2011, وأعلت من شأنه. وأصبحت الديمقراطية والعدالة الاجتماعية هما القصد والمنتهي لثورات الربيع العربي. ولا يزال رفاعة يلوح بكتابه وأفكاره, بينما يرقبه بسعادة جان جاك روسو, الذي يحتفل العالم بذكري مولده الثلاثمائة. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي