فى ساعة متأخرة من الليل يخرج الشاب العشرينى صبرى من منزله الريفى، وهو يرتدى جلبابا ثقيلا فوقه جاكيت، ويضع فوق رأسه كوفية تخفى ملامح وجهه كاملا إلا من عينيه، لتبدأ رحلته فى قيادة جرار زراعى يجر مقطورتين محملتين بمحصول القصب، فى رحلة طويلة يواجه فيها بردا قارسا وقيادة على طريق ملىء بالمخاطر، ثم الانتظار لساعات طويلة فى طابور من الجرارات حتى يفرغ حمولته بمصانع السكر. صبرى، ضمن آلاف الشباب بالصعيد الذين ينتظرون موسم توريد القصب للمصانع لاستخلاص السكر، أو كما يطلق عليه «موسم العصير»، لكى يحقق فيه مكسبا ماديا كى يحقق حلمه بالزواج من إحدى فتيات قريته، فهذا الموسم الذى يبدأ كل عام فى نهاية شهر يناير وأول شهر فبراير بمثابة العيد ليس فقط لدى المزارعين الذين ينتظرونه لجنى ثمار ما بذلوه خلال عام من شقاء فى زراعتهم، وإنما أيضا للآلاف من العمال والأطفال والسيدات، الذين ليس لهم عمل سوى كسر وتحميل محصول القصب فى موسم العصير. يحكى صبرى، المقيم بقرية أبودياب التابعة لمركز دشنا بمحافظة قنا، عن رحلته التى تبدأ عند منتصف الليل وتنتهى فى السابعة صباحا، قائلا: «كل موسم عصير نقود جرارات المزارعين ونقوم بتحويل محصول القصب من الحقول إلى مصنع السكر التابع لمنطقة زراعة المحصول، نظير مبلغ مالى نتحصل عليه بعد التوريد، فموسم توريد محصول قصب السكر هو موسم الخير وتشغيل الآلاف من الأطفال والشباب، الذين ليس لهم دخل مادى إلا فى هذا الموسم». وعن رحلة الجرارات المحملة بمقطورات القصب، يقول: «كانت مصانع السكر تنشئ خطوط سكة حديد خاصة بها تغطى كل القرى ومناطق المحافظة، وهى الوسيلة التى كان ينقل بها المزارعون محصولهم إلى مصانع السكر، وكان دور الجرارات نقل المحصول من الحقل إلى القطار فقط، ولكن بعد اختفاء السكة الحديد عقب سرقة قضبان السكة الحديد بعد ثورة يناير وتوقف القطارات نهائيا خاصة فى زمام مركز قنا، يقوم المزارعون بنقل محصولهم عن طريق الجرارات لمسافات تزيد على 20 كيلو مترا وصولا لمصنع دشنا». ويتابع: «بعد أن يقوم الأطفال والعمال بتكسير القصب وتنظيفه من الشوائب الموجودة به وتحميله على المقطورات، نقوم بأخذ (الكارته) من مندوب المصنع المقيم بالجمعية الزراعية التابعة لمنطقة الزراعة، وهى المدون بها اسم صاحب المحصول والرقم الخاص به بداخل المصنع ورقم المقطورة، ثم نقوم بتحويل الحمولة من الحقل إلى مصنع دشنا، فى رحلة نتعرض خلالها للكثير من المخاطر خاصة خلال الأعوام الثلاثة الماضية، ومنها سرقة الجرارات بالإكراه نتيجة لصراعات قرى وبعضها، وأيضا كانت الأولوية فى دخول المصنع إلى من يحملون الأسلحة، فالتوريد كان بقوة الأسلحة وليس بأولوية الدور، ولكن هذا العام تغيرت الأمور بعض الشىء بعد توفير كمائن أمنية على الطريق الرئيسى وتنظيم عملية الدخول داخل المصنع». أما هانى منصور، مزارع، فيوضح أن عملية تكسير وتقشير القصب خلال الموسم تحتاج إلى عدد كبير من العمال والأطفال، فكل مزارع يقوم بإحضار 4 عمال ورئيس لهم لكى يقوموا بعملية التكسير بيومية تبلغ 40 جنيها لكل منهم، بالإضافة إلى 15 طفلا وسيدة يقومون بتنظيف القصب من الشوائب بيومية 20 جنيها، ثم النقل بواسطة الجرارات، وكل مقطورة تحمل متوسط 8 أطنان من القصب بتكلفة 50 جنيها للطن، أى أن تكلفة النقلة الواحدة لمقطورة 8 أطنان بالتكسير والتقشير تكلف نحو ألف جنيه، رغم أن تكلفة الطن الواحد الذى يحاسب عليه المزارع من قبل شركات السكر هو 360 جنيها فقط، أى أن القصب أصبح لا يدر دخلا كبيرا على المزارعين، ويتحمل المزارعون الكثير من النفقات خاصة بعد سرقة قضبان السكة الحديد. على محمد، 12 عاما، أحد الأطفال العاملين فى تنظيف القصب، يوضح أن يومه يبدأ الساعة الخامسة صباحا، حيث يحضر أحد المزارعين سيارة ربع نقل أو جرار بمقطورة لنقل عدد من الأطفال من قريتهم إلى حقله. وبعد أن يقوم العمال بتكسير القصب يقوم الأطفال بتقطيع الجزء العلوى منه وتنظيفه من الشوائب ووضع أعواد القصب فى أكوام على بعضها. ويبين على أن عمله ينتهى فى الساعة 12 ظهرا، وكل من يعمل فى التقشير معه يحصل على 20 جنيها يومية، ينتظرها كثيرون ممن ليس لديهم دخل، لافتا إلى أن من يقصر فى عمله يتعرض لكثير من السباب من رئيسه، وأحيانا للضرب والطرد من العمل. الموسم له أيضا استعدادات خاصة فى مصانع السكر، فيؤكد وليد عبدالحميد، أحد موظفى مصنع سكر قوص، أن موسم العصير يبدأ داخل المصنع قبل الموسم بستة أشهر، حيث يتم عمل التجهيزات اللازمة من أعمال صيانة للماكينات. ومع إحضار القصب تمر عملية تحويل القصب بعدة مراحل، أولها مرحلة التفريغ الميكانيكى بعد وزن المحصول بالأطنان، ثم تقوم الأوناش بإنزاله ثم تقطيعه عن طريق قواطع. بعد ذلك يدخل القصب للعصارات، التى تقوم بتصفية المصاص على 3 مراحل لاستخلاص أكبر نسبة من العصير، لتبدأ عملية الغليان عن طريق السخانات، ثم عملية الإنتاج التى يتم فيها فصل السكر عن العسل، ثم مرحلة المعالجة التى تقوم بمعالجة السكر وتعبئته، وبعدها تذهب المصاصات لمصانع الورق لكى يصنع منها الورق. ويشير اللواء مختار فكار، رئيس جمعية مزارعى القصب بقنا، إلى أن 95% من المزارعين والعمال ينتظرون موسم العصير كل عام لتحقيق ربح وجنى ثمار شقاء العام كله، لافتا إلى أن محافظة قنا تعد أكبر محافظات الصعيد إنتاجا لقصب السكر، فهى تزرع ما يزيد على 120 ألف فدان سنويا، وبها 3 مصانع لتكرير السكر وهى قوص ودشنا ونجع حمادى.