هل يستقيم، دونما عدل، ميزان؟ ألا تطيّر الكفّة المثقلة بحمول، تلقائيّا، ما يوازيها من خفّة، واستخفاف بما تنوء تحت أعبائه الكفّة الأخرى؟ ألا يتناثر ما لا يشكّل وزنا حقيقيّا على وجود؟ كذلك الأرض وما يقوم عليها، ومن يقيم عليها. فحيثما تنهمر دمعة مظلوم، يرجّح الوحل، بقطرة أولى من طوفان، كفّة الباكى. وحيثما تسقط قطرة دم، تسطع بذرة ثورة. الأنهار لا تحفر مجراها وتهدر فى لحظات، والأشجار حصيلة زمن، وماء ونور وهواء، وربيع يتعاقب بزهره على أغصانها. أيّ هذيان هذا، بأن نروّج لربيع يأتى لمرّة واحدة، وكأنّ الموسم الميلاد توقيع نهائيّ على صفقة بين الحياة والحريّة؟ مثل هذا الجزم محاولة مضحكة لتضليل الآخرين، لتشكيك البشر فى جوهر فصل الربيع، وبداهة عودته، لطمأنة النفس المتورطة بأوهام السلطة. لكنّنا نسكن بلاد اللّا طمأنينة. والربيع، رغم القبضات المحكمة والأنوف، سيكرّر نفسه لا محالة.
حينما ينوى نهر على فيضان، لا يستأذن سدّا هشّا من أعواد القشّ، ولا يعبأ بفزّاعات تعترض طريقه. والشجرة التى من ناس، جذورهم فى الأرض ضاربة راسخة، والعصافير فى عيونهم وعلى أكتافهم، لا تسقطها فأس مرتعشة فى يد حطّاب بائس.
●●●
التراب، على عكس الطغاة، لا يهزأ بعذابات البشر. ولذا، يمرّ الطغاة كغبار بظلال ثقيلة على طينه، فقط ليستعيدهم ويدفنهم فى نسيانه، ويبقى هو قادرا حتّى نهاية العالم على شروق زهرة. كيف يتجاهل التراب جثث شهداء ترمى فى عينيه، وقد حلم بهما منبت عشب وأشجار، وحلم بهؤلاء الشهداء أحياء وسط حدائقه؟
ما يتراكم تحت التراب لا يجفّ ماؤه أو يخفت وهجه، وإن تمّ إخفاؤه بحرفة حفّارى القبور عن مرأى العيون. منه تتفجّر الينابيع، وبه تعلو البراكين التى نسكنها. أوطاننا المشيّدة على سطح نيران. مدننا وقرانا وشوارعنا ومنازلنا وكلّ شيء من حولنا قابل للاشتعال فى أيّة لحظة، بمجرّد أن يفتح تنّين التراب فكّيه. بعض البراكين خامد، وكثيرها يغلى. لكنّ البركان يبقى بركانا، وإن أوهمنا سكونه بسكينة على سطح.
●●●
ليس القلق، وإنّما اللّاطمأنينة. الحال فى بلادنا مطابق تماما للكلمة. الطمأنينة أمامنا، وممكنة، لكنّ لا نافية تسبقها وتنفيها. هكذا أصبحت البلاد منافى لنفسها وناسها، وهكذا، على براكين لا يتمّ التعامل مع جحيمها المؤجّل بجديّة، هى، وما يقوم ومن يقيم عليها، منذور لرماد.
فالعبث بالأبجديّات والبديهيّات والمنطق، لا يمكن إلّا أن يؤدّى إلى مزيد من العبث، وإلى قناعة أعمق لدى المهمّشين بألّا بديل من المطالبة بحقوقهم المهدورة سوى المزيد من المطالبة بحقوقهم المستهان بها، وبتطوير وتصعيد وسائل المطالبة. ليست كرة من نار أو من ثلج، وإنّما كرة من جنون، لا تكفّ عن تكرار نفسها فى التدحرج بنا، وتكبر فى كلّ لحظة، بمزيد من القتلى، ووجوه البؤس والغضب.
●●●
فى بلادنا، ثمّة من يصرّ عبثا على أن يطلق طائرا بجناح وحيد، وعلى أن يصنع سربا من طائر أوحد. يحاولون اختزال الطيف بلون دون سواه، وإقصاء كلّ صوت وفكرة من خارج الكورال. مثل هذا الطغيان لم يعد ممكنا. مثل هذه الهاوية صارت فى عالمنا العربيّ كما فى معظم بقاع العالم وراء الناس. ما عادوا يخافون الجلّاد أو العقاب. ما عادوا ضحايا مستسلمة لأقدارها، أو أطفالا يرهبهم الأب فيطيعونه. اللّا النافية التى تتقدّم الطمأنينة فى كلمة اللّا طمأنينة، فى بلاد اللّا طمأنينة، تتقدّم كلّ حوار مسبق القرارات.
المعضلات تتراكم، فقط لتقوّى العضلات الغاضبة لمجتمعات لن تقبل بعد الآن بالعتبات والفتات. وكلّما انحطّ الواقع، ارتفع السقف. هى معادلة الميزان. هو منطق العدل الذى لا يخضع لتواطئ، ولا تخفيه خدع مستهلكة.
لو شاهد أحدنا شخصا يبنى بيتا أو يزرع شجرة على فوهة بركان، لقاطعه بالقول: ماذا تفعل أيّها المجنون؟ لكنّ أمّة بأكملها تقوم بذلك، ولا أحد يصغى لقلّة تحذّر. كأنّما بلاد بأسرها فقدت صوابها، وتصرّ على التمادى فى العماء، وتكميم البراكين.
●●●
الرغيف والحريّة، لن يحلّق دونهما طائر. هما شرط الجناحين، وما الطائر سوى جناحيه؟ لن يطمئنّ بلد به جوعى، وبشر يشعرون أنّهم فى هامش الحياة. الرغيف، لا كسراته المفخّخة بمسامير، والحريّة، وليس ما شابهها من حيث الشكل. الحريّة المسئولة التى ليست تنفيسا. الحريّة القادرة على التغيير الفعليّ والفعّال.
الشمعة التى أضاءت فى بداية نفق طويل، أملنا بها نورا. لكنّ النور هالة النار. لا تستهينوا بالشرار. أوطاننا من قشّ، والشمعة المثقلة مائلة.