عرفت الكنيسة القبطية الأرثوذوكسية عبر تاريخها الطويل الكثير من الرواد الذين عبروا بصدق عن حبها والانتماء إليها، حيث ارتبطوا بها واهتموا بالخدمة فيها دون الانفصال عن الوطن الأم مصر، ومن هؤلاء الرواد يبرز أمامنا اسم الأرشيدياكون (رئيس الشمامسة) حبيب جرجس. وُلد حبيب جرجس بالقاهرة سنة 1876م، وكان والده من بلدة طما بصعيد مصر ويعمل باشكاتب فى إحدى المصالح الحكومية التابعة لوزارة الداخلية، أما والدته فكانت من بلدة تُدعى البياضية من أعمال مديرية جرجا (التى تتبع حاليا محافظة سوهاج). وفى عام 1882م توفى والده، حينما كان حبيب فى السادسة من عمره. التحق حبيب بمدرسة الأقباط الكبرى بالقاهرة، وأتم دراسته عام 1892م. وفى العام التالى، 1893م، ومع افتتاح المدرسة الإكليريكية فى عصر البابا كيرلس الخامس (1874 1927م)، التحق حبيب بها، وكان يوسف بك منقريوس ناظرا لتلك المدرسة فى ذلك الوقت. وفى عام 1898م تخرج حبيب ليُعين مُدرسا بها للدين، وإن كان يُدرس مادة الدين بها وهو بعد فى السنة النهائية. مدارس الأحد أسس حبيب جرجس خدمة مدارس الأحد عام 1900م، وكان له من العمر نحو 24 سنة، فكان يقوم بتجميع الأطفال وتلاميذ المدارس فى اجتماعات دورية بكنيسة السيدة العذراء بالفجالة ثم فى قاعة جمعية (جامعة المحبة) التى أنشأها بالظاهر، لتعليم النشء القبطى تعاليم ومبادئ المسيحية. وأخذت الفكرة تنتشر شيئا فشيئا بين الأقاليم المصرية بمعاونة شباب آمنوا بأهمية التعليم الدينى للأطفال، وفى عام 1918م تأسست (اللجنة العامة لمدارس الأحد) ومقرها المدرسة الإكليريكية بمهمشة، واُختير حبيب جرجس عضوا بها، وفى عام 1927م اُختير سكرتيرا عاما للجنة. وكان قد تم إعداد لائحة لعمل اللجنة حددت فيها أغراض مدارس الأحد، وهى: تعويد الأولاد والبنات حفظ يوم الأحد، والمواظبة على حضور الكنائس لسماع القداس أيام الآحاد للمدارس القبطية وأيام الجمع للمدارس الأميرية. تعليمهم حقائق الإنجيل تعليما تاما، وجعلهم أعضاء حية وقوة نافعة للكنيسة. تعويدهم الفضائل والأخلاق السامية وتحذيرهم من الوقوع فى الخطايا المنتشرة كالحلف والكذب وغيرها، وإعدادهم ليكونوا رجالا نافعين لوطنهم. العناية بنظافة ملابسهم وصحة أبدانهم. بث روح القومية فيهم، وتعويدهم على خدمة شعوبهم.. وأخذت مدارس الأحد على عاتقها إعداد الطفل: عقليا وجسديا ونفسيا وروحيا واجتماعيا، وشكلت مؤلفات الأستاذ حبيب جرجس المناهج الأولى التى اعتمدت عليها مدارس الأحد. مجلة (الكرمة) أصدر حبيب جرجس معلم الدين فى المدرسة الإكليريكية مجلة (الكرمة)، بالقاهرة سنة 1904م، دينية أدبية تاريخية، شهرية وسنتها عشرة أشهر حيث كانت تصدر عشر مرات فى السنة. كتب افتتاحية مجلته تحت عنوان (مقدمة) يقول «سيكون مبدأنا العام وغرضنا الوحيد بنعمة الله فى كل ما نكتبه نشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة وإيضاح حق الإيمان غير متعرضين للطعن فى كنيسة من الكنائس ولا بطائفة من الطوائف مبتعدين عن كل جدال من هذا القبيل..». وتنوعت أبواب المجلة طيلة سنوات صدورها، وعلى صفحاتها ظهرت أقلام عدد كبير من أعلام عصرها. وقد أصدر حبيب من مجلته 17 مجلدا (17 سنة غير متصلة: من سنة 1904م إلى سنة 1912م ومن سنة 1923م إلى سنة 1931م). وربما كان ضعف الإمكانيات المادية وراء توقف المجلة. مدير اللإكليريكية توفى يوسف بك منقريوس مدير المدرسة الإكليريكية سنة 1918م، ووقع اختيار البابا كيرلس الخامس على الأرشيدياكون حبيب جرجس ليتولى قيادة المدرسة ويكون ناظرها. وقد اهتم كثيرا بالمدرسة وسير الدروس فيها ومستوى أساتذتها، لاسيما وهى المعهد العلمى المُناط به تخريج رجال الدين المسيحى. وقد افتتح القسم المسائى الجامعى بالإكليريكية عام 1945م، فالتحق به بعض طلبة الجامعة. حبيب عاشق الوطن ألف الأستاذ حبيب جرجس الكثير من الترانيم والتراتيل الروحية والتعليمية، وكانت ترانيمه فى حب الكنيسة والوطن على حد سواء. ففى قصيدة عنوانها (يا رب بارك مصرنا) قال: يا رب بارك مصرنا وأحفظ جميع شعبها فى الوحى أعلنت لنا مبارك شعبى بها بالخير املأ أرضهاواسكب على الناس السلام وحد قلوب الكل فى الإخلاص مع روح الوئام. كما كان حبيب جرجس محبا لكنيسته وللوطن مصر، مؤمنا بوحدة المصريين جميعا.. أقباطا ومسلمين، ويفكر بشكل جاد وعملى فى طرق دعم هذه الوحدة الوطنية، حيث اقترح تكوين (جمعية لدوام اتحاد العنصرين)، فعنده أن الاتحاد بين الأقباط والمسلمين أمر طبيعى لا غرابة فيه وأنه يجب تدعيم هذا الاتحاد باستمرار. وللأستاذ حبيب جرجس عدة مؤلفات: دينية وتربوية وتعليمية وتاريخية ولاهوتية ودراسية. الوفاة كان حبيب على درجة عالية من الروحانية حتى أن (قاموس التراجم القبطية) يصفه بأنه كان «المستشار الروحى للآباء البطاركة حتى 1951 وخاصة البابا كيرلس الخامس»، ويضيف أنه «كان لنشاطه الجم فى خدمة الكنيسة أثره الكبير فى تزكية النهضة فى الكنيسة القبطية فى النصف الأول من القرن العشرين». وقد أسف كثيرون على رحيله، فعندما توفى فى 21 أغسطس 1951م، أصدرت مجلة (مدارس الأحد) عددا خاصا عنه، وكان نظير جيد قداسة البابا شنودة الثالث فيما بعد مديرا لتحرير المجلة وإدارتها آنذاك، فى ذلك العدد وتحت عنوان «ثم قال الله ليكن نورا.. فكان نورا» كتب نظير يصف تلك الظروف الصعبة التى بدأ فيها الأستاذ حبيب عمله وخدمته، فيقول إنه قد بدأ «يعمل فى جيل من الجهل والفساد والظلمة والشح.. آمن أستاذنا بالعلم، فكرس نفسه للتعليم: علم المعلمين فى الإكليريكية، والأطفال والشباب فى مدارس الأحد، والتلاميذ فى المدارس الحكومية بكتبه، وعلم بالمنبر وبالصحافة». عريان يوسف سعد.. بطل الوحدة الوطنية إستر فهمى ويصا.. سيدة فى قلب الوطن راغب عياد.. مبدع التصوير المصرى الحديث مثالا حيا للتآخى