تعيش الكثير من الأفكار والآراء فى حالة لجاج ونقاش لعشرات السنين، ومنها فكرة إنشاء مركز لدراسات الوحدة الوطنية ومواجهة الأزمات الطائفية، والتى يقترحها البعض بين الحين والآخر. إنها فكرة قديمة متجددة تعاود الظهور، مع اختلافات فى الصياغة والسياق الزمنى. وفى محاولة لتتبع تاريخ الفكرة، فإنه يمكن الإشارة إلى الإسهامات التالية: عبدالله النديم فى مجلة (الأستاذ) التى صدرت بالقاهرة سنة 1892م كتب الأستاذ عبدالله النديم مرارا عن الوحدة الوطنية التى تجمع بين المسلمين والأقباط من أبناء مصر، مؤكدا ضرورة الالتئام وخطورة الانقسام، ففى عدد 21 مارس 1893م، وتحت عنوان (المسلمون والأقباط) نشرت المجلة، وأغلب الظن أن النديم هو كاتب الموضوع، تدعو إلى تكوين جمعية تبحث فى شئون الوطنية، حيث إن المسلمين والأقباط: «هم أبناء مصر الذين يُنسبون إليها وتُنسب إليهم لا يعرفون غير بلدهم ولا يرحلون لغيرها إلا زيارة، قلبتهم الأيام على جمر التقلبات الدولية وقامت الدنيا وقعدت وهم هم إخوان الوطنية يعضد بعضهم بعضا ويشد أزره فى مهماته يتزاورون تزاور أهل بيت ويشارك الجار جاره فى أفراحه وأتراحه علما منهم أن البلاد تطالبهم بصرف حياتهم فى إحيائها بالمحافظة على وحدة الاجتماع الوطنى الذى يشمله اسم مصرى من غير نظر إلى الاختلاف الدينى وقد كانوا كذلك أيام الجهالة والهمجية وأيام التقدم الأول وهم الآن أحوج للالتئام وتوحيد السير من أيام الجهالة فقد عمتهم المعارف وتحلوا بالآداب ووجد فى الفريقين أعداد كثيرة من الفضلاء وأرباب الأقلام والملاعب الدولية تشخص أمامهم أدوارا توجب عليهم مجاراة الأمم فى البحث عن حوافظ الوطنية».. «إنا وإن رأينا الألفة والمحبة على ما كانتا عليه من عهد دخول الإسلام فى مصر إلى الآن ونعلم أن ذكاء نبهاء الفريقين يبعثهم على التمسك بحبل الارتباط الوطنى ولكننا نحب أن تزداد علاقات الوطنية بعقد جمعية مصرية موضوعها البحث فى الوطن وخصائصه وواجبات وضروريات حياته ولا تخرج فى هذا كله عن الأدبيات والمحافظة على ما بين المصريين وغيرهم من روابط المحبة».. ويضيف الكاتب: «قد رأينا كل جنس له جمعيات وطنية ونحن لا جمعية لنا تبحث فى الوطنية فإن الجمعية الإسلامية والجمعية القبطية لا تعلق لكل منهما بما نحن فى صدده فإنهما جمعيتا إعانة وتربية أيتام. ولا يشك عاقل فى أن تكوين جمعية من الفريقين يفيدهما فوائد جمة أدبية ويحول بينهما وبين النزعات الأجنبية وما يمنع المصريين من ذلك وهم بين يدى أمير محب للفريقين لا يفرق بين تابع وتابع بل المسلمون والأقباط والإسرائيليون فى حكم الفريق الواحد رعاية ودفاعا واستخداما وحكما فأولى بهم أن يؤيدوا سعيه المشكور فى تأييد الوطنية بجمعية تحفظ النظام الوطنى بمساعيها الأدبية وما يترتب عليها من تطهير البواطن وتوحيد الكلمة وظهور الوطنية بين رجال هم أحق الناس بخدمة بلادهم بآدابهم وعلومهم». حبيب جرجس يعد الأستاذ حبيب جرجس (1876 1951م)، اللاهوتى ومعلم الإكليريكية ومؤسس خدمة مدارس الأحد وصاحب مجلة (الكرمة)، واحدا من أبرز رواد الإصلاح فى تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى تاريخها الحديث والمعاصر، إذ عاش حياته وكرسها محبا للكنيسة ومعلما لأجيال عديدة من خدامها وشبابها منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين. فلقد كان محبا لكنيسته وللوطن مصر، كما أنه كان يعلم الأطفال والشباب والكبار ليس فقط حب كنيستهم ولكن أيضا حب وطنهم والانتماء إليه. أصدر الأستاذ حبيب جرجس كتابا عنوانه «الوسائل العملية للإصلاحات القبطية.. آمال وأحلام يمكن تحقيقها فى عشرة أعوام»، سنة 1942م، تحدث فيه عن الإصلاح فى مجال الجمعيات الأهلية الخيرية القبطية، واقترح على الأقباط، كنيسة وشعبا، إنشاء عدة جمعيات من بينها (جمعية لدوام اتحاد العنصرين)، فهو يرى أن الاتحاد بين الأقباط والمسلمين أمر طبيعى لا غرابة فيه، وذلك لأن «القبط هكذا نشأوا وتربوا على محبة أوطانهم وإخوانهم فى الوطنية، وذلك للروابط التى تربطهم بعضهم ببعض ومنها (1) الرابطة الجسدية.. رابطة الدم، فجميعهم أبناء أب واحد وأم واحدة، ودماؤهم جميعا واحدة. (2) الرابطة اللغوية، إذ كلهم يتكلمون لغة واحدة. (3) رابطة المصلحة، فإن مصلحة المسلمين والأقباط واحدة وغاياتهم لمجد وطنهم واحدة.. لهذا يجب المحافظة على هذه الوحدة، والعمل على تمكينها وعدم السماح لأى كان أن يعمل على فصمها وتعكير صفائها». ثم إنه يقترح مراعاة الأمور الآتية: أن تذكر هذه الحقائق من وقت لآخر فى المنشورات البطريركية، وأنه يجب على الكهنة والوعاظ أن ينادوا بها فوق منابر الكنائس كما حدث مرارا، وبث هذه الروح فى المدارس ليكون الطلبة مسلمين وأقباطا إخوة متحابين، بثها أيضا فى المعاملات فى الخارج فى مصالح الحكومة والمتاجر والمصانع، وتمكينها بواسطة الزيارات الدائمة المتواصلة المتكررة، بين الأسر والأفراد وخصوصا بين رؤساء الدين، كما يفعلون فى الأعياد، والاشتراك فى الأفراح والأحزان، وأنه حبذا لو قابلت مشيخة الأزهر هذه الملاحظات بمثلها، ووجوب تأليف لجنة دائمة من شأنها الدفاع الدائم عن هذه الوحدة وعمل الوسائل لتقويتها، وتؤلف هذه اللجنة من أعضاء من القبط والمسلمين على السواء. وليم سليمان قلادة كان المستشار الدكتور وليم سليمان قلادة (1924 1999م) مفكرا وقانونيا ومؤرخا موسوعى الثقافة، كما أنه يعد واحدا من أبرز الذين اهتموا بقضية المواطنة والتنظير لها. فى عام 1999م صدر كتاب مهم للدكتور قلادة عنوانه (مبدأ المواطنة.. دراسات ومقالات) عن المركز القبطى للدراسات الاجتماعية، ففى فصل عنوانه «نحو برنامج شامل لتطبيق ثقافة المواطنة»، اقترح المؤلف عدة أفكار لنشر ثقافة المواطنة بين المصريين وتأكيد الوحدة الوطنية بين الأقباط والمسلمين، واستعادة تكامل الشخصية المصرية «بضمان حضور الآخر الدينى فى وعى كل مصرى وفى جميع مجالات الحياة على هذه الأرض الطيبة» على حد تعبيره. ومن ثم فقد دارت تلك الأفكار المقترحات حول نشر ثقافة المواطنة من خلال: مناهج التعليم فى المدارس والجامعات وسائل الإعلام المختلفة من صحف وإذاعة وتليفزيون النشاط الثقافى الذى تقوم به وزارة الثقافة بمختلف أجهزتها معاهد إعداد القادة الأحزاب السياسية والأجهزة التنفيذية المختصة.. أيضا فإنه اقترح «أن ينشأ مركز لدراسة الوحدة الوطنية سواء من ناحية تاريخها ومقوماتها والمشكلات التى تتعرض لها وغير ذلك. أو أن يخصص قسم لذلك فى أحد مراكز الأبحاث القائمة. فيكون هذا المركز أو القسم مرجعا يزود جهات التعليم والإعلام والثقافة والسياسة بالمعلومات والخطط والمقترحات التى تدعم هذا الجانب الأساسى فى الحياة المصرية». هكذا، فإنها فكرة قديمة متجددة تستحق المناقشة، ولعل السؤال الذى يطرح نفسه علينا الآن هو هل من الممكن أن تجد هذه الفكرة من يستجيب لها؟! وذلك بأن تتحول إلى واقع ملموس يساهم فى وأد حالة الاحتقان الطائفى التى تطل علينا بين الحين والآخر.