تعيش الكثير من الأفكار والآراء في حالة لُجاج ونقاش لعشرات السنين، حيث إنها تناقش مرة ومرتين وأكثر عبر سنوات طويلة دون أن تدخل مرحلة التنفيذ. ومن تلك الأفكار تأتي الفكرة الخاصة بإنشاء مركز لدراسات الوحدة الوطنية في مصر ومواجهة الأزمات الطائفية.. الخ. منذ فترة قريبة، في جريدة (الأهرام) كتب الأستاذ نبيل عبد الفتاح، الكاتب والباحث بالصحيفة ومدير مركز تاريخ الأهرام، سلسلة مقالات ناقش فيها حالة الطائفية الاجتماعية في المجتمع المصري وسبل مواجهتها، وهو في الحلقة الثالثة والأخيرة من تلك المقالات والتي نُشرت يوم الخميس 24 سبتمبر 2009م تحت عنوان "في مواجهة الطائفية الاجتماعية وأزماتها .. ما العمل؟ (3/3)، اقترح مجموعة من الحلول والمعالجات الوقتية في وقت الأزمات إلي جانب حلول أخري طويلة المدي، وهي في مجملها أفكار مهمة تستحق الانتباه والمناقشة. مراكز للإنذار المبكر لقد اقترح "تأسيس مراكز للإنذار المبكر للوقاية من النزاعات أو الصراعات الدينية والمذهبية"، ويضيف "وهو ماسبق لنا اقتراحه أمام مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي في أواخر عقد التسعينات ، وتم الأخذ به في توصيات المؤتمر الذي عقد في استكهولم للخبراء "، أيضاً فإنه يقترح "إعداد دراسات عن تاريخ الأزمات الطائفية وأسبابها ، وعن السياسات الدينية ، والخطابات الدينية ، لوضع استراتيجيات لإصلاح التعليم الديني والمدني" . والواقع أنها فكرة قديمة تعاود الظهور بين الحين والآخر، ربما مع اختلافات طفيفة في الصياغة وعرض الفكرة، مع اختلاف السياق الزمني بالطبع. وفي محاولة لتتبع تاريخ تلك الفكرة، فإنه يمكن الإشارة إلي الإسهامات الفكرية والنظرية التالية: الأستاذ عبد الله النديم صدرت مجلة (الأستاذ) بمدينة القاهرة في يوم 24 أغسطس من سنة 1892م، وكانت واحدة من أهم الصحف التي صدرت في تلك الفترة من تاريخ الوطن، حين كانت البلاد تئن تحت وطأة الاحتلال البريطاني الجاسم علي صدرها منذ سنة 1882م، وكانت (الأستاذ) مجلة علمية تهذيبية فكاهية، أسبوعية، مديرها عبد الفتاح النديم الإدريسي ومحررها هو أخيه عبد الله النديم ()- صحفي الثورة العرابية وخطيبها، الذي عاد إلي الظهور بعد فترة اختفاء دامت لمدة عشر سنوات بعدها تم القبض عليه ولكن صدر العفو عنه من قبل الخديوي عباس حلمي الثاني (1892- 1914م). في مجلته (الأستاذ) كتب النديم مراراً عن الوحدة الوطنية التي تجمع بين المسلمين والأقباط من أبناء مصر، مؤكداً ضرورة الالتئام بينهما وخطورة الانقسام. ففي عدد مجلة (الأستاذ) الحادي والثلاثين من السنة الأولي والصادر في 21 مارس 1893م وتحت عنوان (المسلمون والأقباط) نشرت المجلة، وأغلب الظن أن عبد الله النديم نفسه هو كاتب هذا الموضوع، تدعو إلي تكوين جمعية تبحث في شئون الوطنية، حيث تقول عن المسلمين والأقباط: "هم أبناء مصر الذين ينسبون إليها وتُنسب إليهم لا يعرفون غير بلدهم ولا يرحلون لغيرها إلا زيارة قلبتهم الأيام علي جمر التقلبات الدولية وقامت الدنيا وقعدت وهم هم إخوان الوطنية يعضد بعضهم بعضاً ويشد أزره في مهماته يتزاورون تزاور أهل بيت ويشارك الجار جاره في أفراحه وأتراحه علماً منهم أن البلاد تطالبهم بصرف حياتهم في إحيائها بالمحافظة علي وحدة الاجتماع الوطني الذي يشمله اسم مصري من غير نظر إلي الاختلاف الديني وقد كانوا كذلك أيام الجهالة والهمجية وأيام التقدم الأول وهم الآن أحوج للالتئام وتوحيد السير من أيام الجهالة فقد عمتهم المعارف وتحلوا بالآداب ووُجد في الفريقين أعداد كثيرة من الفضلاء وأرباب الأقلام والملاعب الدولية تشخص أمامهم أدوار توجب عليهم مجاراة الأمم في البحث عن حوافظ الوطنية والتمسك بما يؤيد سيرهم المصري تحت رعاية وعناية أميرهم المفخم السالك بهم سبل الخير والإصلاح".. "إنا وإن رأينا الألفة والمحبة علي ما كانتا عليه من عهد دخول الإسلام في مصر إلي الآن ونعلم أن ذكاء نبهاء الفريقين يبعثهم علي التمسك بحبل الارتباط الوطني ولكننا نحب أن تزداد علاقات الوطنية بعقد جمعية مصرية موضوعها البحث في الوطن وخصائصه وواجبات وضروريات حياته ولا تخرج في هذا كله عن الأدبيات والمحافظة علي ما بين المصريين وغيرهم من روابط المحبة".. ويضيف الكاتب "قد رأينا كل جنس له جمعيات وطنية ونحن لا جمعية لنا تبحث في الوطنية فإن الجمعية الإسلامية والجمعية القبطية لا تعلق لكل منهما بما نحن في صدده فإنهما جمعيتا إعانة وتربية أيتام. ولا يشك عاقل في أن تكوين جمعية من الفريقين يفيدهما فوائد جمة أدبية ويحول بينهما وبين النزعات الأجنبية وما يمنع المصريون من ذلك وهم بين يدي أمير محب للفريقين لا يفرق بين تابع وتابع بل المسلمون والأقباط والإسرائيليون في حكم الفريق الواحد رعاية ودفاعاً واستخداماً وحكماً فأولي بهم أن يؤيدوا سعيه المشكور في تأييد الوطنية بجمعية تحفظ النظام الوطني بمساعيها الأدبية وما يترتب عليها من تطهير البواطن وتوحيد الكلمة وظهور الوطنية بين رجال هم أحق الناس بخدمة بلادهم بآدابهم وعلومهم". فهكذا اهتمت مجلة (الأستاذ) بقضية الوحدة الوطنية بين أبناء مصر بغض النظر عن اختلاف الدين، وكذا أهمية الالتئام والتماسك فيما بين المصريين، ودعت إلي تأسيس جمعية تبحث في هذا الشأن. الأستاذ حبيب جرجس يعد الأرشيدياكون (رئيس الشمامسة) حبيب جرجس (1876م- 1951م)، اللاهوتي ومعلم الإكليريكية ومؤسس خدمة مدارس الأحد وصاحب مجلة (الكرمة: 1904م.. 1931م)، واحداً من أبرز رواد الإصلاح في تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في تاريخها الحديث والمعاصر، فقد عاش حياته وكرسها في حب الكنيسة خادماً بها ومعلماً لأجيال عديدة من خدامها وشبابها علي مدار أكثر من نصف قرن من الزمان، وذلك منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتي منتصف القرن العشرين. فقد كان محباً- ليس فقط لكنيسته- ولكن أيضاً للوطن مصر، كما أنه كان يعلم الأطفال والشباب والكبار ليس فقط حب كنيستهم القبطية الأرثوذكسية ولكن أيضاً حب وطنهم والانتماء إليه. أصدر الأستاذ حبيب جرجس كتاباً عنوانه "الوسائل العملية للإصلاحات القبطية.. آمال وأحلام يمكن تحقيقها في عشرة أعوام"، والصادر سنة 1942م وطبعته آنذاك المطبعة التجارية الحديثة بالقاهرة وفي سنة 1993م اهتم بيت مدارس الأحد بطباعته مرة ثانية، لقد صدر هذا الكتاب بعد فترة قصيرة من نياحة البابا يؤانس التاسع عشر البطريرك الثالث عشر بعد المائة (1929- 1942م)، حيث جاء علي غلافه أنه (مذكرة مقدمة لحضرة صاحب الغبطة البطريرك المنتظر، ولحضرات الآباء الأجلاء أصحاب النيافة المطارنة والأساقفة، ولحضرات أصحاب السعادة والعزة وكلاء وأعضاء المجالس الملية، ورؤساء وأعضاء الجمعيات القبطية، وجميع العاملين والراغبين في الإصلاح). في ذلك الكتاب تحدث الأستاذ حبيب- ضمن ما تحدث- عن الإصلاح في مجال الجمعيات الأهلية الخيرية القبطية، حيث اقترح علي الأقباط.. كنيسة وشعباً.. إنشاء عدد من الجمعيات من بينها (جمعية لدوام اتحاد العنصرين)، حيث يري حبيب جرجس أن الاتحاد بين الأقباط والمسلمين أمر طبيعي لا غرابة فيه، وذلك في رأيه لأن "القبط هكذا نشأوا وتربوا علي محبة أوطانهم وإخوانهم في الوطنية، وذلك للروابط التي تربطهم بعضهم ببعض ومنها (1) الرابطة الجسدية.. رابطة الدم، فجميعهم أبناء أب واحد وأم واحدة، ودماؤهم جميعاً واحدة. (2) الرابطة اللغوية، إذ كلهم يتكلمون لغة واحدة. (3) رابطة المصلحة، فإن مصلحة المسلمين والأقباط واحدة وغاياتهم لمجد وطنهم واحدة". وهو يضيف أنه "لهذا يجب المحافظة علي هذه الوحدة، والعمل علي تمكينها وعدم السماح لأي كان أن يعمل علي فصمها وتعكير صفائها". ثم يقترح الأستاذ حبيب مراعاة الأمور الآتية: (1) أن تُذكر هذه الحقائق من وقت لآخر في المنشورات البطريركية، كما ذُكرت في المنشورات السابقة الماضية. (2) يجب علي الكهنة والوعاظ أن ينادوا بها فوق منابر الكنائس كما حدث مراراً. (3) بث هذه الروح في المدارس، ليكون الطلبة مسلمين وأقباطاً إخوة متحابين. (4) بثها أيضاً في المعاملات في الخارج، في مصالح الحكومة والمتاجر والمصانع. (5) تمكينها بواسطة الزيارات الدائمة المتواصلة المتكررة، كما كان منذ القديم بين الأسر والأفراد وخصوصاً بين رؤساء الدين، كما يفعلون في الأعياد، والاشتراك في الأفراح والأحزان. (6) حبذا لو قابلت مشيخة الأزهر هذه الملاحظات بمثلها. (7) وجوب تأليف لجنة دائمة من شأنها الدفاع الدائم عن هذه الوحدة وعمل الوسائل لتقويتها، وتؤلف هذه اللجنة من أعضاء من القبط والمسلمين علي السواء. الدكتور وليم سليمان قلادة كان المستشار الدكتور وليم سليمان قلادة (1924- 1999م) مفكراً وقانونياً ومؤرخاً موسوعي الثقافة، كما أنه يعد واحداً من أوائل وأبرز الذين اهتموا بقضية المواطنة والتنظير لها منذ فترة مبكرة ربما منذ سبعينات القرن الماضي. في عام 1999م صدر كتاب مهم للدكتور وليم سليمان قلادة عنوانه (مبدأ المواطنة.. دراسات ومقالات) عن المركز القبطي للدراسات الاجتماعية، وهو المركز الذي تأسس في عام 1994م كأحد مؤسسات أسقفية الخدمات العامة والاجتماعية، بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية وبه وحدة خاصة بالمواطنة حيث أسسه الأستاذ سمير مرقس ومجموعة من الباحثين والمعنيين بالشأن العام. في ذلك الكتاب وفي فصل عنوانه "نحو برنامج شامل لتطبيق ثقافة المواطنة"، اقترح المؤلف عدة أفكار لنشر ثقافة المواطنة بين المصريين وتأكيد الوحدة الوطنية بين الأقباط والمسلمين، واستعادة تكامل الشخصية المصرية "بضمان حضور الآخر الديني في وعي كل مصري وفي جميع مجالات الحياة علي هذه الأرض الطيبة" علي حد تعبيره. ومن ثم فقد دارت تلك الأفكار/ المقترحات حول نشر ثقافة المواطنة من خلال: مناهج التعليم في المدارس والجامعات- وسائل الإعلام المختلفة من صحف وإذاعة وتليفزيون- النشاط الثقافي الذي تقوم به وزارة الثقافة بمختلف أجهزتها- معاهد إعداد القادة- الأحزاب السياسية والأجهزة التنفيذية المختصة.. أيضاً فإنه من بين تلك الأفكار التي طرحها جاء "أن ينشأ مركز لدراسة الوحدة الوطنية سواء من ناحية تاريخها ومقوماتها والمشاكل التي تتعرض لها وغير ذلك. أو أن يخصص قسم لذلك في أحد مراكز الأبحاث القائمة. فيكون هذا المركز أو القسم مرجعاً يزود جهات التعليم والإعلام والثقافة والسياسة بالمعلومات والخطط والمقترحات التي تدعم هذا الجانب الأساسي في الحياة المصرية". فكرة قديمة متجددة هكذا،، فإن هذه الفكرة يمكن وصفها بأنها فكرة قديمة متجددة، ولعل السؤال الذي يطرح نفسه علينا الآن هو هل من الممكن أن تجد هذه الفكرة من يستجيب لها بأن تتحول إلي واقع ملموس يساهم في وأد حالة الاحتقان الطائفي الذي يطل علينا بين الحين والآخر؟! أما عن ماهية ذلك المركز، فإنه من الممكن أن يتكون من مجموعة من الخبراء والباحثين في علوم التاريخ والسياسة والاجتماع، وأن يقوم بإجراء دراسات في قضية المواطنة من حيث ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وإصدار المطبوعات وإقامة الندوات والمؤتمرات وورش العمل، واقتراح منهج مناسب لثقافة المواطنة في برامج التعليم ووسائل الإعلام المختلفة.