يبدو أننا أمتن كثيرات من بريطانيا ونحن لا ندرى. وإذا كان لديك شك فى ذلك فحاول أن تطالع ما تنشره الصحف البريطانية عن قرارات الحكومة هناك. وقارنه بما تنشره صحفنا عن إنجازات حكومتنا الرشيدة. وإذا فعلتها فسوف ينتابك الشعور بالأسف والقلق على حاضر بريطانيا ومستقبلها، فى حين أنك سوف تسترخى وتطمئن بالا حين تقرأ فى صحفنا وعلى ألسنة مسئولينا أن كله تمام التمام، وأن مصر تجاوزت الأزمة العالمية، بفضل حكمة الرئيس وتوجيهاته السديدة بطبيعة الحال. ستقرأ فى الصحف البريطانية مثلا أن الملكة ألغت هذا العام احتفال عيد الميلاد الذى اعتادت أن تقيمه فى قصر باكنجهام كل سنة. وطبقا لما ذكرته صحيفة «صن» فى 15/10 فإن الملكة إليزابيث أرادت بذلك التعبير عن تضامنها مع الشعب البريطانى فى تعامله مع الظروف الاقتصادية الصعبة التى يمر بها فى الوقت الراهن. ونقلت الصحيفة عن الناطق باسم قصر باكنجهام قوله إنه «بالنظر إلى المناخ الاقتصادى الحالى، من المناسب أن تتحلى الأسرة الحاكمة بضبط الإنفاق». ستقرأ أيضا أن وزير الخزانة البريطانى جورج أوزبورن أعلن عن خطة للتقشف «هى الأقسى منذ خمسين عاما» ستؤدى إلى خسارة نصف مليون موظف لوظائفهم خلال السنوات الأربع المقبلة. بمعدل موظف واحد من بين كل 12 شخصا. بعد تخفيض ميزانيات معظم الوزارات بمعدل 24٪ خلال تلك الفترة. ستقرأ معلومات أخرى خطيرة خلاصتها أن سياسة التقشف وشد الحزام فرضت وضع إستراتيجية جديدة للأمن، ستؤدى إلى صرف 17 ألف جندى من الجيش وتسريح 25 ألف موظف من وزارة الدفاع خلال السنوات الخمس المقبلة. ستقرأ أيضا أن التخفيضات ستسرى على هيئة الإذاعة البريطانية (بى.بى.سى)، التى أعلنت أنها ستتكفل من جانبها بدفع مصاريف الخدمة العالمية التى كانت تمولها وزارة الخارجية. إذا حولت بصرك إلى مصر، وانصت إلى تصريحات المسئولين أو تابعت ما تبثه وتنشره وسائل الإعلام المختلفة فسوف تكتشف على الفور أنك خرجت من الساخن إلى البارد. حيث لا أثر ولا وجود لمشاعر التوتر والمفردات المعبرة عنها، من الأزمة إلى التقشف وشد الحزام. كأن مصر تحلق فى كوكب آخر غير الذى تنتمى إليه بريطانيا. ولأن العنوان العريض هو أن «كله تمام»، فإن سلوك الحكومة عبر عن الرضا والارتياح إلى الوضع القائم. وتنافست وسائل الإعلام المعبرة عنها فى إبراز الإنجازات التى تحققت، من المنتجعات والمولات وملاعب جولف. إلى المشروعات العملاقة وإغراق البلد بأحدث السيارات وهواتف المحمول. ولتأكيد هذه البحبوحة فإن الإنفاق ظل باذخا وبلا حدود على المهرجانات والحفلات والملتقيات التى تعقد فى فنادق الخمس والسبع نجوم (رغم وجود عشرات القاعات المجانية الأخرى داخل مؤسسات الدولة). ناهيك عن جولات الأكابر المكوكية الذين يطوفون مع الحاشية وعلى الطائرات الخاصة بعواصم العالم فى مهام كثيرا ما يختلف ظاهرها عن باطنها. فى حين تتجمل الواجهات وتبدو على تلك الشاكلة فإنك لو ممدت بصرك إلى ما تحت السطح ستفاجأ بشبح الأزمة كامنا ومخيفا. ستفاجأ مثلا بأن ثمة عجزا فى الموازنة تجاوز تريليون (ألف مليار) ومائة مليار جنيه (كان العجز 20 مليار جنيه حين تولى الرئيس مبارك السلطة فى عام 1981). وستفاجأ بأن ثمة موارد فى الميزانية تقدر بمليارات الجنيهات لا أحد يعرف أين تذهب. وستلاحظ أن خزينة الدولة مفتوحة على مصارعها لاعتمادات الأجهزة الأمنية (التى قلصوها فى بريطانيا) والتليفزيون (الذى تخلت الخارجية البريطانية عن تمويله) (إعادة بناء مجلس الشورى تكلفت مليار جنيه). ستفاجأ كذلك بأن أصول مصر تم بيعها، من مؤسسات القطاع العام إلى ثروتها العقارية التى تعرضت للنهب وليس البيع فقط.. إلخ. الخلاصة أن ما تقع عليه عيناك تحت السطح لن يصيبك بالصدمة والدهشة فحسب ولكنه سيصيبك بالحيرة أيضا، لأنك لن تعرف بعد ذلك كيف أمكن لسفينة الوطن أن تستمر طافية فوق السطح. رغم الثقوب التى ترشحها للغرق فى أى لحظة. وحينئذ ستكتشف أننا لسنا أمتن من بريطانيا، ولكن الفرق بينهم وبيننا أنهم لا يترددون فى إخبار الناس بالحقيقة لإشراكهم فى حمل الهم، أما عندنا فإننا نتستر على الحقيقة ولا نكترث بالناس، وإنما نعتبرهم جزءا من الهم. وهو ما يستدعى السؤال التالى: أيهما أجدر بالأسف والقلق على حاضره ومستقبله، المعلن فى بريطانيا أم المسكوت عليه فى مصر؟