كان من عجيب أمر عمورية، أن المنجمين زعموا عندما علموا بعزم المعتصم على المسير، أنه لا يفتحها. (وكان اتخاذ المنجمين فى بلاط ذوى الجاه والسلطان، أو طلبهم عند مهمات الأمور، عادة متبعة فى ذلك الزمان، وكان ذوو الجاه والسلطان يسألون المنجمين عن العمل قبل الإقدام عليه. فيُقدمون أو يُحجمون امتثالا لقولهم. واتباع المنجمين والعرافين أمر محرم شرعا. والمباح، بل المأمور به، هو الاستخارة فى جليل الأمور وحقيرها، وما ييسره الله للمستخير بعدها تكون فيه المصلحة. وفى الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن الطيرة، أى التشاؤم ويحب الفأل الحسن. أقول كان المنجمون قد حكموا جازمين أن المعتصم لا يفتح عمورية فى عامه ذاك، وراسلته الروم بأن منجميهم أخبروهم بأنه لا يفتح مدينتهم إلا فى وقت إدراك التين والعنب (أى نضجهما)، وذلك فى الصيف، وقالوا إن بينك وبين ذلك وقت طويل يمنعك من انتظاره البَرَدُ والثلج. فضرب المعتصم بذلك كله عرض الحائط وأبى أن ينصرف عنها ففتحها الله عليه وتبين كذب المنجمين. وخلَّد هذا الواقع أبوتمام بقصيدته العظيمة التى مطلعها: السيف أصدق أنباء من الكتب فى حده الحد بين الجد واللعب ومنها: أين الرواية أم أين النجوم وما صاغوه من زخرف فيها ومن كذب تخرصًا وأحاديثًا ملفقة ليست بنبع إذا عدت ولا غرَب وصيروا الأبْرُجَ العليا مرتبةً ما كان منقلبا أو غير منقلب يقضون بالأمر عنها وهى غافلة ما دار فى فلك منها وفى قطب لو تبينت قط أمرا قبل موقعه لم تُخْفِ ما حل بالأوثان والصلب فتح الفتوح تعالى أن يحيط به نظم من الشعر أو نثر من الخطب فتحٌ تفتح أبواب السماء له وتبرز الأرض فى أثوابها القشب يا يومَ وقعةِ عموريةَ انصرفت منك المنى حُفَّلاً معسولةَ الحَلَبِ وقد كان المعتصم رجلا شديد البأس قوى الشكيمة قاسيا فى غضبه كل القسوة، رحيما عند الرضا غاية الرحمة، وقد اتخذ من الجند ما ضاقت عنه بغداد، فبنى لهم مدينة سُر من رأى وسكنها مع جيوشه. قال الحافظ الذهبى: من أحسن ما سمع من المعتصم إن صح عنه قوله: «اللهم إنك تعلم أنى أخافك من قِبَلى ولا أخافك من قِبَلِكَ، وأرجوك من قِبَلِك ولا أرجوك من قِبَلى». وهو لم يكن قد أتم تعليمه. وقد وصف الخطيب البغدادى فتحه عمورية فقال: «إنه أنكى فى العدو نكاية عظيمة ونصب عليها المجانيق، ولما فتحها جاء ببابها إلى العراق. قال، وهو باقٍ حتى الآن، أى وقت كتابته كلامه، منصوب على أحد أبواب دار الخلافة، وهو الباب الملاصق للمسجد الجامع فى القصر. وقد حكوا عنه أنه لما استتم عددا كافيا من الجنود الأتراك، ومن عدة الحرب، وذل عدوه فى كل نواحى البلاد، أتته المنية فجأة فقال فى حُمَّاهُ قبل الموت: {حتى إذا فَرِحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون إن المعتصم كان واحدا من الحكام العظماء، عليه مآخذ وله حسنات، فمن أشد المآخذ عليه استمراره فى فتنة العلماء الكبار الذين أبوا أن يجيبوا إلى القول بخلق القرآن وسجنهم وتعذيبهم. ومن أهم مآثره هذا الفتح العظيم لمدينة عمورية الذى تقدمت به جيوش المسلمين فى بلاد الروم ما لم تتقدم قبله، والذى ترك فى نفوس الروم شعورا صادقا بقوة المسلمين ومنعهم زمنا طويلا من العودة إلى العدوان على بلادهم. ومن مآثره المهمة قضاؤه على بابك الخرمى وإنهاء فتنته التى استمرت نحو 20 سنة وأضلت ما لا يحصى من الخلق فكانت نهايتها على يد المعتصم. وميزان تقويم الرجال يجب أن يكون عادلا يزن الحسنات ويزن السيئات، ويقضى فى النهاية بالحق. والحمد لله رب العالمين