لم يكد يمر شهر واحد على أحداث مهرجان الصورة التابع للمركز الفرنسى للثقافة والتعاون الذى قاطعه المخرجون المصريون لتقديمه فيلما إسرائيليا جنبا إلى جنب مع الأفلام المصرية، حتى ثار اتهام جديد بالتطبيع مع العدو الإسرائيلى فى الساحة الفنية. كانت قاعات قصر الفنون بالجزيرة تضج بالحضور مساء الأحد الماضى فى افتتاح صالون الشباب الحادى والعشرين والذى يضم ما يقرب من 200 فنان شاب، ورغم ذلك طغى الشأن السياسى على الأحداث. حيث أعربت مجموعة من المثقفين والفنانين عن غضبها واستنكارها لاشتراك الفنان خالد حافظ كعضو لجنة تحكيم صالون الشباب فى دورته الحالية، متهمين كلا من حافظ ووائل شوقى بالتطبيع مع اسرائيل، فضلا عن اتهامهما بتقديم أعمال فنية فى قاعات الدولة تسىء لتاريخ مصر وتتضمن إهانة لرؤسائها ورموزها الوطنية. وأدان الموقعون على البيان، الذين يتزايد عددهم حتى الآن، ترشيح خالد حافظ قوميسير الجناح المصرى فى بينالى هافانا المقبل بكوبا وطالبوا نقيب التشكيليين الفنان مصطفى حسين بسرعة التحقيق معهما فيما نسب إليهما من أنشطة تطبيعية وناشدوا وزير الثقافة بإيقاف التعامل معهما خاصة فى مجال تمثيل مصر بالخارج. وعلق الفنان شريف عبدالبديع عبدالحى أحد الموقعين على البيان غاضبا: «لا يمكن أن نسكت على هذا، لأننا إذا سكتنا اليوم على اشتراك فنان مطبع مع إسرائيل فى الفاعليات الفنية التابعة للدولة، سنجد فى اليوم التالى اسرائيليين يشاركوننا معارضنا!». هل الدخان بلا نار؟ المسألة تفجرت حين شارك خالد حافظ فى معرض أقامه قطاع الفنون التشكيلية بعنوان ?why not أو ليه لأ؟ فى مارس الماضى والذى اعتمد فيه على بعض الألفاظ الخارجة فى عمل يعتمد على فنون الميديا ويصور بشكل ساخر على خلفية صوت جمال عبدالناصر خطاب التنحى يلقيه أبوالهول، بينما شخصية «أنوبيس» وهو الاسم اليونانى للإله «أنبو» صاحب رأس الثعلب ويرتبط بطقوس الموتى وحراسة الموتى تمضى قدما وسط الأطلال ووسط جماعات من المتشددين ليصل نهاية إلى صندوق الاقتراع، وفى مروره على لافتة «الانتخابات الرئاسية» تتحول الحروف لتصبح ذات إيحاءات جنسية لا تخلو من فظاظة. واعترض الكثيرون على هذا العملم، وعلى رأسهم الكاتب الصحفى أسامة عفيفى الذى قدم قراءة لمشروع حافظ الفنى بجريدة الموقف العربى، مشيرا إلى تهكم حافظ على الحضارة المصرية «حيث يطالب أبوالهول عبدالناصر بالرجوع عن التنحى لأن الفرعون لابد أن يبقى على العرش»، كما يفسر أسامة العمل محللا لجوء الفنان إلى شخصية حارس الموتى لتصوير مصر ميتة وشعبها موتى. وسواء اتفقنا أو اختلفنا فى تحليل العمل الفنى الذى يعد بطبيعته كأى عمل فنى حمّال أوجه وعرضة لتفسيرات عديدة لا ينبغى أن تكون الأيدلوجيا أهم أسلحته، فقد راح أسامة عفيفى يؤصل لتنظيرات خالد حافظ المختلفة التى قد تكون المحرك وراء اتجاهاته التفكيكية، مثل نظريته عن كامب ديفيد، والتى تؤكد طبقا لعفيفى أن الفن المصرى الحديث منذ ثورة يوليو وحتى كامب ديفيد كان تابعا لتوجهات الدولة الناصرية، وأن الفنانين كانوا مقيدين ولا يستطيعون التعبير عن آرائهم، ولم يجدوا الحرية الحقة إلا بعد كامب ديفيد. توجهنا بالسؤال إلى الفنان محمد عبلة الذى يتبنى اتجاهات ما بعد الحداثة، بل ويتسع صدره دائما لإبداعات الأجيال الشابة المتعاقبة، لكنه رغم ذلك كان أحد موقعى البيان، رافضا السخرية التى قدمها حافظ حتى وإن كانت إحدى سمات الحداثة: «السخرية فى الفن لها طرائقها المختلفة والبعيدة تماما عن المباشرة وفجاجة الألفاظ التى يتصف بها خطاب الشارع مثلا». وأضاف عبلة أن الفنان إذا اختار تناول ثوابت الوطن فعليه أن يتحمل تبعات اختياره، ويصبح من حق المتلقى أن يعترض أو ألا يشاركه آراءه، أما عن اتهام خالد حافظ بالتطبيع مع إسرائيل، فلا يعيرها عبلة اهتماما كبيرا خاصة أن التطبيع له شروطه كأن يكون الفنان قد سافر إلى إسرائيل رغم أنف الجماعة الوطنية الرافضة لذلك. أبعد من مجرد تطبيع وكان هذا هو موقف قطاع الفنون التشكيلية، فقد نفى الفنان محسن شعلان رئيس القطاع بعد صدور البيان أن يكون أى من الفنانين خالد حافظ أو وائل شوقى قد شارك فى معارض بإسرائيل أو تعامل مع الكيان الصهيونى بشكل مباشر، واعتبر أن الاشتراك فى معارض دولية تشارك فيها إسرائيل ليس تطبيعا بأى حال من الأحوال. ويبدو هذا هو مربط الفرس، هل التطبيع هو مجرد السفر إلى إسرائيل؟ أم هو أيضا المشاركة جنبا إلى جنب فى معارض تخدم الفكر الصهيونى أو فى أحسن الأحوال تمييع القضية الفلسطينية وعولمتها طبقا لأجندة غربية؟ فيؤكد شريف عبدالبديع أن اشتراك وائل شوقى فى معرض بالقدس كان فى إطار احتفالية «القدس عاصمة الثقافة العالمية» الذى أقيم موازيا للقدس عاصمة الثقافة العربية، طبقا لعبدالبديع. فالغضب الذى اعترى الموقعين على البيان لم يكن لفكرة التطبيع بمعناها الحرفى، أى الوجود الفعلى فى الأرض العربية المسلوبة، ولكن ضد العقلية التى تعمل ساعية لأرضاء المتلقى الغربى وجذب انتباهه. «أنا لست ضد النقد، لكنى ضد النظرة الاستشراقية التى يتم بها تناول الموضوعات»، كما يقول الروائى والصحفى سعد القرش، مفسرا انضمامه لكتيبة موقعى البيان. ويضيف القرش أنه ضد التكفير الوطنى أو التكفير الدينى، «لكن قضية رفض التطبيع تعتبر من المسلمات لديه». وأشار القرش إلى أن عدم رد حافظ على كل ما كيل له من انتقادات واتهامات دليل على استفادته من هذا الموقف واستمراره فى إرضاء أطراف بعينها. «أنا لست مطبعا»، يقولها خالد حافظ، حين واجهناه بما نشر عنه، دافعا عن نفسه التهمة، ومشيرا إلى كون والده شارك فى حرب أكتوبر ولا يمكن بأى حال أن يكون مع التطبيع، وأكد أن معرض «حوار الجيران» الذى أقيم فى تركيا لم يكن به إسرائيليون ولم يكونوا هم المقصودين بالجيران، أما عن ستيف سابيلا الذى اعتبرته الصحافة المصرية إسرائيليا فهو فلسطينى مسيحى. عود على بدء ما موقف نقابة الفنانين التشكيليين من هذه الأزمة؟ وهل هناك إجماع على رفض التطبيع كما هو الحال فى النقابات المهنية كاملة؟ يجيب الفنان مصطفى حسين نقيب التشكيليين، مؤكدا أن المسألة لا سابقة لها، أى أن الجمعية العمومية لم تبت فى موضوع التطبيع من قبل، مشيرا إلى خصوصية نقابة التشكيليين التى يعبر فيها كل فنان بشكل ذاتى فردى وليس جماعى. وعلى الرغم من عدم إطلاع مصطفى حسين بعد على العمل الفنى الذى فجر المشكلة، لكنه يرى بشكل عام أنه «لا حكر على حرية الإبداع ولا وصاية على أحد فيما يبدع»، ويضيف قائلا: «قد نعرض الأمر على الشئون القانونية حسب حجم المشكلة، لكنى مع الحوار والنصح لا العقوبة، فإذا كان الفنان يضع الطاقية اليهودية أو مطبعا مثلا لن أفصله من النقابة، لكنى أظهر له أن الأمر يتعلق بعصابة دولية لا يمكن أن نأمن لها، وبالتالى لا يمكن أن نقيم علاقات طبيعية معها». أما فيما يخص الإساءة للرموز الوطنية، فيرفض حسين مبدأ التخوين، مؤثرا حرية الفنان فى النقد أما الكلمات البذيئة فهى طبقا له لا تمت للفن بصلة ويعتبرها النقيب أساليب استعراضية للفت الأنظار، قد تتطلب أحيانا تهميش الفنان وإهماله تماما. ما العمل إذن أمام تزايد أعداد المعترضين؟ فإذا كان الاتهام بالتطبيع يعد من قبيل محاسبة النوايا والأفكار وبخاصة فى هذه الحالة، فإن محاكمة الفنان على المساس بالثوابت قد يعد مساسا بحرية الإبداع. فالمسألة ليست فى استخدام مجازا فنيا، كما يؤكد خالد حافظ نفسه، لنقد منظومة الانتخابات الرئاسية ذاتها واعتمادها على الخداع، بل على العكس فى مباشرتها الزائدة لدرجة استخدام لفظ نابٍ عنوانا لها «بل استخدام قاموس غير فنى بالمرة لجأ إليه حافظ فى نسخة العمل الأولى، كما يؤكد محمد عبلة، وسرعان ما حذف العديد من أجزائها». ولم يتوقف الأمر فقط على حذف بعض المشاهد من الفيديو مفجر المشكلة والذى شارك فى معرض «ليه لأ»، ولكن الفيديو نفسه تم حذفه من مواقع الفيس بوك واليوتيوب بمعرفة الفنان نفسه وباعترافه، وكان تفسيره لهذا الحذف ليس تجنبه لإثارة المشكلات مع كم الألفاظ والتهكم الذى يحويه الشريط، بل كان تعليله هو احترام حقوق الملكية الفكرية التى تملكها جامعة مدريد بإسبانيا. فالمشكلة الأساسية تكمن فى ضعف المنتج الفنى أيضا الذى يتبناه ويدافع عنه قطاع الفنون التشكيلية ويحتفى به، حيث بدت سياسة القطاع الجديدة هى تشجيع الفنانين أصحاب الاتجاهات الحديثة والتى أثبتت نجاحها فى قوائم المعارض الدولية، بدلا من تركهم «فريسة» للمعارض الخاصة وأجنداتها الخاصة، «لماذا لا يرعى القطاع ويكون له فنانون موهوبون يدفعهم إلى الأمام بدلا من الاعتماد على أسماء لمعت مع التاون هاوس وغيره؟»، كما يتساءل شريف عبدالبديع مستنكرا. ويلخص عبدالبديع قلقه ومخاوفه من تنجيم الدولة لهذه النماذج من الفنانين بحيث يصبحون هم المتحكمين فى اتجاهات الساحة الفنية سواء فى المعارض الداخلية أو فى التمثيل خارج مصر فى المعارض الدولية.