منذ فترة من الزمن، قرر أحد العاملين فى ميريل لينش فى توقيت مناسب أن يعيش حياة بسيطة. اشترى كوخا متواضعا يطل على مناظر خلابة لغابات الصنوبر وقمم جبال روكى. ومازال الغرب الأمريكى الذى تُُعد أجزاؤه هذه قليلة السكان إلى حد كبير يحمل شيئا من الوعود اللا محدودة التى تبشر بها أرض عذراء. بعد ذلك بفترة، جاء لزيارته زميل سابق فى العمل استطاع تكديس ثروة أكبر كثيرا من ثروته. وذهب الرجلان فى نزهة. ونظر السيد ميلو صاحب الكوخ الذى أصبح آنذاك وجهه متوردا إلى قمة الجبل المغطاة بالثلوج قائلا: «يتمثل الاختلاف بيننا فى أن لديك كل ما يمكن أن يشتريه المال، وأنا لدى كل ما لا يمكن أن يشتريه المال». فعندما يتعلق الأمر بالمال، فإن التوقيت هو أهم شىء. وعندما يتعلق بالحياة، من المفيد أن يكون لدى المرء ما أسماه المستكشف ريتشارد بيرتون «قلب الجوال». ومازالت الولاياتالمتحدة مثلها مثل ملاكم وزن ثقيل تلقى الكثير من اللكمات، تترنح جراء حُمى المال التى التهمت صناديق المعاشات، والأوراق المالية السامة، وموجات الاستدانة الجنونية. وأشعر أن العالم، مثله مثل ميريل لينش، كان يفصل بينه وبين الانهيار الكامل نانو ثانية. وتم تجنب هذا الانهيار. غير أن الأمريكيين أصبحوا فى حال عقلية مختلفة. فهم يسددون الدين، ولا يستأجرون عمالا، وسوف يعتادون الحياة بدون مجلة جورميه لفنون الطهى. يبدو منظر الكوخ الموجود وسط الغابات الذى تحيط به حدائق واسعة جميلا وبسيطا جدا. لكن أمريكا تكره الانكماش، حيث تنفر منه طبيعتها المرتبطة بشكل وثيق بالحدود الجديدة. لكن ذلك هو ما ورثه الرئيس أوباما الذى يعبر عن روح العصر. ويتمثل التحدى الذى يواجهه أوباما فى كيفية التعامل مع تراجع التوقعات. وفى ظل الرحابة التى تتسم بها كولورادو، حيث تستدعى الجبال والمروج صورا بدائية عن الإمكانية الأمريكية ألم يكن انتخاب أوباما ذاته يعود إلى إحياء الخرافة بشأن هذه الإمكانية؟! وجدت نفسى أتمعن فى حالة التوتر تلك بين المثالية التى يتم إسقاطها على الرئيس، وبين الواقعية التى يجد نفسه ملزما بها؛ أى التوتر بين المجد الذى تراه أمريكا فى نفسها وبين المستنقع الراهن. وقد ذكرنى هذا الجمال البرى بجاتسبى الذى يقول: «لا بد أن الإنسان قد كتم أنفاسه للحظة عابرة ساحرة فى حضرة هذه القارة الرائعة، ووجد نفسه ملزما بممارسة تأمل جمال لم يفهمه أو يرغب فيه، حيث يقابل وجها لوجه لآخر مرة فى التاريخ شيئا يجعله قادرا على الانبهار». غير أن أوباما يستخف بالانبهار. وأظن أنه بذلك يتواءم مع العقود المقبلة التى سوف تشهد تراجعا نسبيا فى قوة أمريكا الاقتصادية. وقد كانت كلماته فى الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضى مهمة، حيث قال: «أولئك الذين اعتادوا تأنيب أمريكا لانفرادها بالعمل وحدها فى العالم لا يستطيعون الآن التنحى جانبا انتظارا لأن تحل أمريكا مشكلات العالم وحدها. فقد سعينا قولا وفعلا من أجل عهد جديد من التواصل مع العالم. والآن آن الأوان لنا جميعا كى نشارك بنصيبنا فى الاستجابة العالمية للتحديات العالمية». ويرى أوباما أن القيود المفروضة على أمريكا نتيجة تفاعلها مع العالم أكبر بكثير من أمريكا باعتبارها دولة شديدة البأس. وتمثل هذه لغة حديثة العهد إلى حد ما بالنسبة لرئيس أمريكى. ذلك أن الفكرة التى ترى أن الولاياتالمتحدة قوة استثنائية ومنارة للبشرية قد ظلت فى قلب خطاب البطولة الأمريكى. فمنذ لينكولن إلى ريجان وبوش، مرورا بويلسون، نجد تكرارا لمفردات تعبر عن الخلاص الذى يستمد الإلهام من أمريكا. وقد تضمنت الاستثنائية الأمريكية نزعة تتمثل فى الإيمان بدولة تحمل إلى العالم دعوة الارتقاء. ويمثل أوباما تخليا عن هذا التقليد. وقد قال توم بين: «تعد قضية أمريكا إلى حد كبير قضية البشرية جمعاء». غير أن الرئيس يتجنب هذه العظات الرنانة. بل إنه يتجنب حتى استخدام التوصيف الذى تبنته حقبة كلينتون بشأن الولاياتالمتحدة باعتبارها «الأمة التى لا غنى عنها». وعلى العكس من ذلك، يقر أوباما بإخفاقات أمريكا. وبينما لا يقول بالضبط إن أمريكا دولة مثلها مثل أى دولة أخرى، فإنه يطرح بوضوح أنه ليس باستطاعتها حل جميع مشكلات العالم وحدها. وقد أعلن عن الانسحاب الأمريكى من العراق بالطريقة التالية: «لن نسمح للسعى إلى الكمال بأن يعوق تحقيق الأهداف الممكنة. لا نستطيع أن نخلص العراق من جميع الذين يعارضون أمريكا ويتعاطفون مع أعدائنا». وقال إن العراق يجب أن يكون «ذا سيادة، ومستقرا، ومعتمدا على نفسه»، فى ظل حكومة «عادلة، ونيابية وخاضعة للمحاسبة». لاحظوا غياب الكلمات التى تعبر عن جوهر المُثل الأمريكية على غرار الحرية والديمقراطية. ولا توجد أوهام لدى أوباما حول إمكانية تصدير الديمقراطية. وتجعلنى هذه الأشياء كلها اعتقد أنه حينما يقوم أوباما بإدارة عملية تراجع التوقعات، فإنه لن يقع بعد اليوم أسير إغواء «السعى للكمال» فى أفغانستان، أكثر من وقوعه أسير هذا الإغواء فى العراق. واعتقد أنه سوف يتجنب فى الوقت الراهن القضية الجدلية بشأن إرسال المزيد من القوات إلى أفغانستان، حيث إنه لن يرفض فورا مطالب العسكريين بزيادة القوات، لكنه لن يقدم التزامات ضخمة فى هذا الشأن. ولن نسمع من الرئيس كلاما زائدا على اللازم بشأن الديمقراطية الأفغانية. لقد أجبرت الأوضاع أمريكا على أن تعيش حياة بسيطة. وهى تقوم بتغيير منظورها، وتتكيف مع عالم القرن الواحد والعشرين بمراكز القوى الجديدة فيه. وهناك حاجة إلى خطاب أوباما الجديد. لكنه إذا لم يقم بتجسيد هذه الإمكانية عن طريق خفض حقيقى للنفقات، والتركيز على «كل ما لا يمكن أن يشتريه المال»... أشك فى أنه يمكن أن يقود البلاد. New York times syndication