احتفال الآلاف من الأقباط بأحد الشعانين بمطرانيتي طنطا والمحلة.. صور    جامعة بني سويف تستقبل لجنة المراجعة الخارجية لاعتماد ثلاثة برامج بكلية العلوم    محافظ بني سويف يُشيد بالطلاب ذوي الهمم بعد فوزهم في بطولة شمال الصعيد    تأجيل محاكمة 11 متهمًا بنشر أخبار كاذبة في قضية «طالبة العريش» ل 4 مايو    «التنمية المحلية»: قنا الأولى في استرداد الأراضي الزراعية وأملاك الدولة    مساعد وزير التموين: أزمة السكر لم تكن مشكلة إنتاج ولكن «سوء التوزيع» السبب    فرق 60 دقيقة عن المواصلات.. توقيت رحلة المترو من عدلي منصور لجامعة القاهرة    «التنمية المحلية»: 40 ورشة عمل للقائمين على قانون التصالح الجديد بالمحافظات    مدير صندوق النقد الدولي: ندعم إجراءات مصر للإصلاح الاقتصادي    ارتفاع عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34 ألفا و454 شهيدا    دخول 176 شاحنة مساعدات غذائية عبر معبر كرم أبو سالم|فيديو    «أبو مازن»: اجتياح إسرائيل لرفح الفلسطينية سيمثل أكبر كارثة في تاريخ شعبنا    السفير الروسي بالقاهرة: الدولار تحول إلى وسيلة للضغط على الدول |فيديو    عبد الرازق خلال لقائه رئيس الشيوخ البحريني: حريصون على تنمية العلاقات بين البلدين    تغريم عمرو السولية وحسين الشحات ماليا بسبب مباراة مازيمبي.. اعرف السبب    مواعيد مباريات اليوم والقنوات الناقلة لها    «حميد حامد» رئيسا للإدارة المركزية لامتحانات المعاهد الأزهرية    «الداخلية»: ضبط 15 طن دقيق مدعم قبل بيعها في السوق السوداء    الطقس في الإسكندرية اليوم.. انخفاض درجات الحرارة واعتدال حركة الرياح    ضبط 4.5 طن فسيخ وملوحة مجهولة المصدر بالقليوبية    لماذا غير الفنان الراحل نور الشريف اسمه في وثيقة الزواج؟.. سر بذكرى ميلاده    عالماشي يحقق 127 ألف جنيه إيرادات في يوم واحد ويحتفظ بالمركز الثالث    لن أغفر لمن آذاني.. تعليق مثير ل ميار الببلاوي بعد اتهامها بالزنا    بحضور محافظ مطروح.. قصور الثقافة تختتم ملتقى "أهل مصر" للفتيات بعد فعاليات حافلة    أجمل دعاء للوالدين بطول العمر والصحة والعافية    أعاني التقطيع في الصلاة ولا أعرف كم عليا لأقضيه فما الحكم؟.. اجبرها بهذا الأمر    «الصحة»: المبادرات الرئاسية كشفت عن 250 ألف مريض بسرطان الكبد في مصر    بنك QNB الأهلي وصناع الخير للتنمية يقدمان منح دراسية للطلاب المتفوقين في الجامعات التكنولوجية    انطلاق فعاليات البرنامج التدريبى للتطعيمات والأمصال للقيادات التمريضية بمستشفيات محافظة بني سويف    اعرف مواعيد قطارات الإسكندرية اليوم الأحد 28 أبريل 2024    جدول امتحانات التيرم الثاني 2024 لصفوف النقل والشهادة الإعدادية (القاهرة)    نجم الأهلي: أكرم توفيق انقذ كولر لهذا السبب    تشكيل إنتر ميلان الرسمي ضد تورينو    إدارة الأهلي تتعجل الحصول على تكاليف إصابة محمد الشناوي وإمام عاشور من «فيفا»    البنية الأساسية والاهتمام بالتكنولوجيا.. أبرز رسائل الرئيس السيسي اليوم    أحمد مراد: الخيال يحتاج إلى إمكانيات جبارة لتحويله إلى عمل سينمائي    أول تعليق من مها الصغير على أنباء طلاقها من أحمد السقا    رئيس هيئة الدواء يجتمع مع مسؤولي السياسات التجارية في السفارة البريطانية بالقاهرة    المصري الديمقراطي الاجتماعي يشارك في منتدى العالم العربي بعمان    واشنطن بوست:بلينكن سيتوجه إلى السعودية هذا الأسبوع لعقد اجتماعات مع الشركاء الإقليميين    29 جامعة مصرية تشارك في مهرجان الأنشطة الطلابية في ذكرى عيد تحرير سيناء    مراجعة مادة علم النفس والاجتماع ثانوية عامة 2024.. لطلاب الصف الثالث الثانوي من "هنا"    الصحة: تقديم الخدمات الطبية لأكثر من مليون مواطن لمن تخطوا سن ال65 عاما    وزير الصحة: «العاصمة الإدارية» أول مستشفى يشهد تطبيق الخدمات الصحية من الجيل الرابع    ما هي شروط الاستطاعة في الحج للرجال؟.. "الإفتاء" تُجيب    قضايا عملة ب 16 مليون جنيه في يوم.. ماذا ينتظر تُجار السوق السوداء؟    "بتكسبوا بالحكام".. حسام غالي يثير الجدل بما فعله مدرب المنتخب السابق ويوجه رسالة لشيكابالا    المصري والداخلية.. مباراة القمة والقاع    بسبب وراثة غير طبيعية.. سيدة تلد طفلا ب 12 إصبعا    ألفا طالبة.. 4 محافظات تحصد المراكز الأولى ببطولة الجمهورية لألعاب القوى للمدارس -تفاصيل    خلال افتتاح مؤتمر كلية الشريعة والقانون بالقاهرة.. نائب رئيس جامعة الأزهر: الإسلام حرم قتل الأطفال والنساء والشيوخ    غدًا.. تطوير أسطول النقل البحري وصناعة السفن على مائدة لجان الشيوخ    شكوك حول مشاركة ثنائي بايرن أمام ريال مدريد    إعلان اسم الرواية الفائزة بجائزة البوكر العربية 2024 اليوم    التصريح بدفن جثة شاب لقى مصرعه أسفل عجلات القطار بالقليوبية    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الأحد 28 أبريل    سعر الدولار الأحد 28 أبريل 2024 في البنوك    تصفح هذه المواقع آثم.. أول تعليق من الأزهر على جريمة الDark Web    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شبح القطة ( قصة )
نشر في شباب مصر يوم 13 - 02 - 2012

في صقلية في العصور الوسطي .. حيث الظلام يخيم على عقول الناس وأفئدتهم .. حدثت قصتنا هذه !
************
امتلأ المسرح الكبير القائم في وسط مدينة " راغوزا " بالرواد .. وكانوا خليط من الطبقات العليا المرفهة والفلاحين والحرفيين الغلاظ الحفاة المعدمين .. ولم يكن تنوع فئات الحضور مما يثير دهشة أحد .. فقد يأنف سراة القوم من المجيء إلى هذا المسرح وحضور عرض برفقة أولئك الدهماء .. إلا الليلة .. فعرض الليلة لا يمكن تفويته مهما كانت الأسباب والمبررات .. خاصة أن كل الحضور يشتركون في خصلة واحدة تجمعهم كلهم أكثر مما تفرقهم كل عوامل الإختلاف والتميز وهي خصلة التزمت الديني المبالغ فيه .. بل التزمت الذي يصل لحد الغباء !
وكان عرض الليلة يمكننا أن نلخصه في كلمتين فقط .. " حرق الشيطان " !
************
دقت ثلاث دقات رتيبة ثم انفتحت ستارة سوداء رثة سميكة وظهر من خلفها رجل بدين غليظ الأجناب فارع الطول يبدو كفحل الإبل من فرط ضخامته وكان هو مدير المسرح السيد " دون فيتو ابولينوس " الذي كان يقف وسط خشبة المسرح حيث كل شيء ملون باللون الأحمر
وعندما تكلم خرج صوته ضخماً أجش مزعج كدقات طبول الإنذار .. قال السيد " أبولينوس " مبتسماً ابتسامة عريضة بلا مناسبة :
" سادتي الأعزاء .. وسيداتي لو كانت هناك سيدات وسطنا الليلة .. الليلة ليلة خاصة جداً ... "
وأثارت هذه الكلمات حماس الحضور فانطلقوا يهتفون ويصفقون بينما المدير يواصل :
" نحن المؤمنين جميعاً نعيش في حماية الكنيسة .. ونسير في هدي يسوع ولكن هناك عدو لدود يترصدنا .. أتعرفونه ؟! "
فأجابه الحضور بصوت عالى مختلط :
" نعم .. إنه الشيطان ! "
فرد مدير المسرح بابتسامة عريضة :
" نعم .. الشيطان "
ثم لوح بقبضته بضراوة وواصل :
" والليلة سنتخلص من هذا العدو .. سنحرقه .. سنحرق الشيطان ! "
وفي هذه اللحظة علا هتاف وصراخ الجماهير الهستيري حتى وصل لعنان السماء وكاد المسرح يرتج بكل ما فيه من عنف الصوت .. وفي اللحظة التالية أختفي مدير المسرح وارتفع ستار آخر أحمر اللون وبرز من خلفه مشهد غريب !
كان هناك عدد من الأقزام المشوهين يحتلون خشبة المسرح ويحيطون بقفص حديدي عملاق مملوء بالقطط السوداء !
************
كانت القطط المسكينة تموء بصوت غريب وبشكل يمزق القلوب وكأنها تحس بالخطر الذي يحدق بها .. وحول القفص كانت هناك سلاسل وأسلاب حديدية معلقة من كل جانب .. وبعد ارتفاع الستار أنضم الأقزام لبعضهم واندفعوا في رقصة مضحكة غريبة تثير السخرية من هذه المخلوقات الغريبة وتعالت ضحكات الجماهير الثملة بالنشوة .. وواصل الأقزام رقصتهم على إيقاع صاخب عجيب حتى دق الصناج دقة واحدة رهيبة فتوقف الأقزام عن الرقص على الفور وقفزت قلوب المشاهدين رعباً .. فهذه الدقة معناها بدء العرض الحقيقي !
تجمع الأقزام حول القفص وفتح أحدهم كوة صغيرة في جانبه ومد يده ذات المخالب السوداء القذرة وتناول قطاً صغيراً أسود اللون وقيد أرجله الأمامية والخلفية بشرائط مطاطية .. ثم تقدم قزم آخر ودلق كمية ضخمة من سائل غريب اللون كريه الرائحة فوق كمية من الحطب موضوعة في قدر حديدي واسع الفوهة وأخذ يعبث بالحطب حتى أشتعلت النيران .. نيران حمراء شرسة أخذت تزأر مطالبة بوجبتها المعهودة .. وبعد ذلك قام قزم قبيح الخلقة جداً بربط الأقدام الموثقة للقط المسكين في أحد الأسلاب الحديدية وأدار بكرة فارتفعت السلسلة إلى أعلى حاملة معها القط الصغير وظلت السلسلة تتحرك حتى وقفت بالضبط فوق القدر الحديدي الذي تتلظي النيران داخله .. وهنا ثارت حماسة الجماهير فأخذوا يهتفون بجنون ووقف معظمهم حتى لا تفوتهم لحظة من المشهد الرهيب الذي جاءوا الليلة خصيصاً لرؤيته .. والاستمتاع به !
أما القزم القبيح فظل متصلباً مكانه لدقائق طويلة .. بغرض إثارة المزيد من حماس الجماهير وجنونهم .. ثم بدأ في إنزال السلسلة ببطء مقترباً بالقط المسكين من حر النيران اللاهبة .. وظلت السلسلة تهبط وتهبط حتى أصبح القط قاب قوسين من ألسنة النيران .. وفي لحظة غطست السلسلة في أتون النار .. وفي اللحظة التالية ارتفعت وقد تحول القط الصغير في طرفها إلى كتلة من النار !
وللمرة الثانية غطست السلسلة ثانية في قدر النار .. وخرجت ثانية أيضاً وفي هذه المرة كان القط قد تعري من الفراء وظهر لحمه الأحمر وخطوط عظامه .. وعادت السلسة تغطس للمرة الثالثة ثم خرجت .. ولم يتبقى من القط في هذه المرة سوي هيكل متفحم .. ثم ما لبث أن تفتت وتطاير في الهواء !
وتعالت صيحات الجماهير وأشتعل جنونهم أكثر فأكثر .. وكانت الصيحات تتعإلى أكثر فأكثر مع كل قط مسكين جديد يحرقه الأقزام المشوهين الذين عينتهم إدارة المسرح في وظيفة زبانية جهنم !
وظلت المحرقة فاغرة فاها .. حتى لم يتبقى في القفص سوي قطين .. قط أسود مشوه مقطوع الذيل .. وقط آخر أسود جميل الشكل وله عيون براقة بشكل غريب كان يحدج بها الجماهير المجنونة طوال الوقت وكأنه يهددهم !
وقبل أن تبتلع المحرقة الضحيتين المتبقيتين برز مدير المسرح بجسده الضخم من خلف المسرح وتقدم نحو القفص الحديدي ووقف فارداً ذراعيه طالباً الصمت من الجماهير .. وعندما صمتت الجماهير أخيراً أشار المدير إلى أحد الأقزام ففتح القفص وأخرج القط المشوه مقطوع الذيل وألقاه مباشره في القدر المشتعل .. وهكذا لم يتبقى في القفص سوي القط الغريب الجميل !
عندما أصبح وحيداً في القفص شب القط الغريب على أقدامه ؛ بعد أن ظل جالساً طوال الوقت منذ بدء المذبحة ؛ وأخذ ينظر للجماهير بعيونه البراقة نظرات غريبة .. وكأنه يخيفهم ويهددهم ، ولم يكتفي بالنظرات المهددة بل أيدها بمواء خفيض منذر غريب يمزق الأمعاء !
أثار القط بعيونه البراقة ونظراته الغريبة ومواءه المخيف رعب الجماهير وخوفهم .. ووقفوا كلهم على مقاعدهم يتطلعون إلى هذا المخلوق الغريب الصغير الذي يقف في داخل محبسه يهددهم جميعاً .. تركهم السيد " أبولونيوس " ينضجون على مهل ، وأنتظر حتى يبلغوا أقصي مدي خوفهم وجنونهم وتعصبهم الأسود .. ولما تأكد أنهم وصلوا إلى آخر مداهم أشار إلى القزم المشوه .. فأتجه نحو القفص وفتح الكوة الصغيرة ومد يده ليتناول القط الأسود الجميل .. ولكن القط أطبق أنيابه على يد القزم ، صرخ القزم وأخذ يحاول تخليص يده من بين فكي القط القاسيين ولم يفلح في تخليص يده إلا بعد أن كانت سبابته وابهامه قد طارتا من بين أصابعه !
جن جنون القزم وأخذ يصرخ بجنون ويحاول اقتناص القط واخراجه من داخل القفص .. إلا أن القط واصل هجومه وعضاته الشرسة لأصابع الرجل حتى تحولت يدي القزم إلى كتلة من الدماء !
واثار هذا الموقف مزيد من الذعر والخوف بين الجماهير الحاشدة .. إلا أن المدير بدا عليه غاية الاستمتاع بمقاومة القط الشرسة .. وهتف في جذل بصوت مدوي :
" سادتي .. لا تتعجبوا لما ترون فهذا القط ليس قطاً عادياً .. بل إنه ليس قطاً على الإطلاق .. سادتي أنتم ترون أمامكم الآن آلهة من آلهة المصريين القدماء العظماء .. إنها القطة باستت الآلهة المقدسة ! "
وهنا أرتفع دوي صوت الجماهير حتى أرتج المسرح بالفعل من علو صوتهم .. وكان رد فعل هذا الإعلان الغريب عجيباً على الجماهير التي جن جنونها ولم تطق صبراً لمشاهدة منظر حرق آلهة وثنية كان يعبدها أعظم شعب في العالم !
ولم يبالي " أبولونيوس " بالإثارة البالغة التي يعاني منها جماهيره بل واصل كلامه رافعاً صوته أكثر وأكثر :
" لقد أحضرناها من ممفيس موطن القطط المقدسة ! وأشتريناها بثلاثمائة درهم ذهبي.. وسنحرقها الليلة كعقاب لها على الروح الشيطانية التي تسكنها .. أيها السادة لنحرق الشيطان ! "
وبينما كان الأقزام يحدقون بالقطة المسكينة في قفصها ويعدون لها محرقة جديدة على شرفها أخذت الجماهير تردد في جنون على إيقاع تصفيقهم الرتيب ودقات أرجلهم على الأرض :
" إحرق الشيطان .. إحرق الشيطان .. إحرق الشيطان ! "
أخرج الأقزام القطة من القفص وحاولوا تقييد أقدامها .. ولكنها فجأة أطبقت أنيابها على يد أحدهم وأنشبت مخالبها في ساعد آخر وجرحت ذقن ثالث جرحاً بالغاً أخذ يقطر دماً .. ثم أفلتت من بين أيديهم وأخذت تجري باتجاه الجماهير .. جن جنون الناس واخذوا يصرخون رعباً وفزعاً عندما مرقت القطة من بين أقدامهم .. وأشار " أبولونيوس " إلى الأقزام فانطلقوا لملاحقة القطة الهاربة .. واغلقوا باب خيمة المسرح الخارجي وشدوا الأحزمة بين ضلفتي الباب القماشى .. وأخذوا يبحثون عن القطة وهب الجماهير كلهم من أماكنهم وأخذوا يجرون هنا وهناك في رعب وهم يصرخون كالمجانين .. حتى السيدات الأرستقراطيات تخلين عن غطرستهن وظهرن على حقيقتهن ؛ مجرد دجاجات مذعورة ؛ ورحن يجرين بدورهن .. ووسط هذه الفوضى عثر أحد الفلاحين من الحضور على القطة مختبئة تحت أحد المقاعد في الظلام .. عرفها عندما وجد عينان تبرقان في ظل أحد المقاعد المرتفعة .. فأشار نحوها وصرخ بصوت عالى :
" ها هي ذي القطة .. القطة هناك "
أندفع الأقزام نحو المقعد الذي أشار إليه الفلاح وحاولوا اصطياد القطة .. ولكنها حاورتهم وناورتهم وأخذت تندفع وسط المقاعد مثيرة المزيد من الرعب بين الجماهير .. وفي هذه الأثناء كان المدير يصرخ بأعلى صوته :
" أحضروها .. أقتلوها .. لا تدعوها تغادر المسرح والا ستجدون الشيطان كل ليلة على أسرتكم ! "
واستمرت عملية الملاحقة وقتاً طويلاً حتى تمكن الناس في النهاية من القبض على القطة المارقة !
والفضل يعود إلى أحد الصيادين الماهرين الذي كان من ضمن الحضور في هذه الليلة .. فقد أخرج سكينه العملاق الذي لا يفارق جيبه الداخلي .. وظل يرصد كل حركات القطة الثائرة وانتقالها من مكان لآخر .. حتى مرقت بجوار يده فهوي عليها
بسكينه بضربة واحدة .. شقت جانبها !
هوت القطة على الأرض بين صرخات الهستيريا من الجماهير التي جن جنونها .. واسترد الأقزام أنفاسهم الهاربة .. فتقدموا نحوالقطة المترنحة وامسكوا بها وشددوا قبضاتهم عليها .. وحملوها صعوداً إلى خشبة المسرح حيث يقف مديرهم يتفصد عرقاً ويرتج كرشه السمين انفعالا .. وأضرم الأقزام ناراً جديدة أخري أشد هولاً ؛ إذ كانت الأولي قد خبت ؛ زودوها بالمزيد من قطع الأخشاب والكثير من سائل الإحراق كريه الرائحة .. وعلقوا القطة التي يتدفق الدم من جانبها بغزارة ودفنوها في أتون الجحيم هذا للحظات .. بينما كانت الجماهير تصيح وتردد في صوت واحد :
" بعلزبول .. بعلزبول .. بعلزبول ! "
وبعد لحظات لم يعد لقطة باستت المقدسة وجود .. ولم يتبقى منها سوي هيكلها المتفحم .. وانتهي الخطر !
دوي تصفيق الجماهير وارتفعت تحياتهم .. ولملموا أشياءهم بعد انتهاء العرض المثير وعادوا لبيوتهم مسرورين شاعرين أنهم قد أدوا دوراً عظيماً في إقرار السلام على ظهر الأرض وفي هزيمة الشيطان وأعوانه !
كان الجميع مسرورين .. ما عدا الصياد الجسور الذي عاد لبيته وهو يشعر أنه قد أرتكب خطاً جسيماً الليلة .. خطأ سيكون له عواقب وخيمة !
************
وقفت " سيبيلا " على باب بيتها المتواضع قرب منتصف الليل ترقب عودة زوجها الحبيب .. إنه ليس معتاداً على أن يبقي خارج البيت لهذه الساعة المتأخرة .. ولكنه ألح عليها في الذهاب معه إلى مسرح " إبولونيوس " لمشاهدة عرض " حرق الشيطان " فرفضت رفضاً باتاً وقالت له :
" يرتعش قلبي كلما أحرقوا قطاً مسكيناً لا ذنب له .. ما ذنب هذه المخلوقات البريئة لتُحرق .. إن الشيطان لا يسكن أجسادها بل يسكن عقولنا نحن ! "
ورغم إباءها الذهاب فلم تعترض على رغبته في الذهاب وتركته يذهب بمفرده .. ولكنها الآن تشعر بالقلق الشديد عليه وتتمني لو أنه لم يذهب !
وظلت " سيبيلا " تعاني القلق طويلاً .. حتى لمحت زوجها أخيراً في بداية الشارع الذي يقع بيتهما فيه .. فانطلقت نحوه وعندما وصلت إليه طوقت رقبته بذراعيها وعانقته بحنان فياض .. وبعد لحظة عاد الزوجين إلى بيتهما الصغير المتواضع الخالي من الأثاث الفخم والجواهر والنقود الذهبية والخدم .. ولكنه ممتلئ بالحب والوفاء والصدق والسعادة !
بينما كانت " سيبيلا " تقوم بإعداد العشاء كان " جلاسيوس " زوجها جالس إلى المائدة الخشبية الصغيرة في حالة وجوم واطراق كامل .. وقامت " سيبيلا " بوضع أطباق العشاء المعتاد على المائدة ثم جلست بجوار زوجها الصامت وسألته بقلق :
" ما بك يا " جلاسيوس " ؟ "
ولكنه حاول التهرب من الإجابة والادعاء بأنه بخير .. ولكنها ألحت عليه حتى أعترف لها بما حدث الليلة في المسرح .. لم تصدق " سيبيلا " أذنيها وهتفت في رعب :
" ماذا ؟! "
فأجابها زوجها ويده الممسكة بكوب النبيذ ترتعش :
" أقول لك شققت بطنها ! "
" وهل طاوعك قلبك يا " جلاسيوس " .. ما ذنب هذه القطة المسكينة .. هل خرب الشيطان عقولكم إلى هذا الحد ؟! "
فأغضبت كلماتها " جلاسيوس " وصاح في وجهها وهو يلوح بذراعيه :
" لماذا لا تفهمين ! إن الشيطان يسكنها بالفعل .. لو رأيتها وهي تركض وتهاجم الناس وتمزق أيديهم لعرفت أنها لا يمكن إلا تكون إلا صورة للشيطان ! "
فأجابته " سيبيلا " بنفاذ صبر :
" أنتم الذين لا تفهمون ! لقد كانت تدافع عن نفسها .. مثل أي مخلوق يجد نفسه محاصر بمن يهاجمونه .. أنت نفسك لو وجدت نفسك في مثل هذا الموقف لركضت وهاجمت الناس ومزقت أيديهم مثلها ! "
وهنا هب " جلاسيوس " من على مقعده وبحركة مفاجئة قلب المنضدة ؛ بما عليها من طعام ؛ على الأرض وصاح بجنون :
" أنت تهرطقين ! ولا تريدين أن تعترفي بجهلك وهرطقتك .. لقد أكد القديس " باسيليوس الصليبي " أن بعلزبول يسكن أجساد القطط .. ثم تأتين أنت وتهذين بمثل هذا التجديف الخطير ! "
ذهلت " سيبيلا " لما فعله زوجها ولما قاله لها وهو الهاديء الرقيق الذي لم يوجه إليها كلمة غاضبة منذ يوم زواجهما .. وبدون أن يتبادلا كلمة واحدة أوي الأثنين إلى فراشهما .. ولأول مرة في حياتهما المشتركة تنأي " سيبيلا " بعيداً عن " جلاسيوس " في الفراش تاركة مسافة عريضة بينهما وتعطيه ظهرها !
************
ظل " جلاسيوس " يحدق في الظلام طويلاً وقد جافاه النوم وأحزنه ابتعاد زوجته الحبيبة عنه للمرة الأولي .. وظل يصغي لصوت صرار الليل بالخارج حتى شعر بأنه أذنيه تحدبتا وصارتا بارزتين كأذني الخفاش .. وفجأة أحس بأنفاس حارة لاهبة تلامس وجهه .. للحظة أعتقد أنها أنفاس " سيبيلا " فمد يده ليلمس وجهها عندها شعر بأنياب حادة رفيعة تطبق على إبهامه .. صرخ " جلاسيوس " فزعاً ، فهبت زوجته من نومها وأضاءت الشمعة والتفتت إلى زوجها في قلق سائلة إياه عما به .. وفي الضوء كان وجهه شاحباً شحوب الموتى وراح يردد في فزع :
" الشبح .. شبحها جاء يهاجمني ! "
فسألته " سيبيلا " بقلق :
" أي شبح يا عزيزي ؟! "
فأجابها وصوته يرتعش خوفاً :
" القطة ! الآلهة التي قتلتها الليلة .. جاءت تثأر مني ! "
مدت " سيبيلا " يدها وربتت على كتف زوجها وقالت له :
" لقد كنت تحلم يا عزيزي .. إن هو إلا كابوس .. نم واهدأ "
فصاح زوجها بجنون :
" ألا تصدقيني ؟! لقد عضتني .. عضت يدي .. أنظري ! "
ومد " جلاسيوس " يده " ليريها لزوجته في ضوء الشمعة .. وتطلعت " سيبيلا " ليد زوجها طويلاً ثم هزت رأسها في أسف .. وعرف " جلاسيوس " سبب أسفها .. فقد كانت يده سليمة تماماً ولا توجد أي آثار عض عليها !!
************
في الصباح تلقي " جلاسيوس " تحيات كثيرة من مواطني قريته ولاقي اهتماما أكثر مما تعود طوال حياته .. فقد كان أهل القرية ؛ خاصة ممن كانوا متواجدين في مسرح " راغوزا " بالأمس ؛ ينظرون إليه كبطل عظيم .. قتل القطة المخيفة التي تلبستها روح الشيطان وخلصهم من شرورها .. ومن يدري .. فربما لولا براعة أبن قريتهم الجسور البارع لكانت الجزيرة كلها قد دخلت في حوزة " بعلزبول "
اليوم !
أما " جلاسيوس " نفسه فقد كان يتلقى تحيات أهل قريته بحزن وفتور .. حسب بعضهم أن " جلاسيوس " الصياد البارع قد ركبه الغرور والتيه بما صنعه الليلة الماضية !
ولم يهتم " جلاسيوس " بكل ذلك بل أتجه نحو الغابة حاملاً قوسه وسهامه وبلطته القصيرة عسي أن ينجح في الفوز بصيد ثمين ينسيه القلق الذي يعانيه ..وكانت الشمس المشرقة تملأ جنبات الغابة الرحبة المليئة بالأشجار الكثيفة المتشابكة .. وأختار " جلاسيوس " بقعة خضراء مرتفعة تشرف على أرض الغابة وجلس فوقها مترقباً ظهور أرنب أو خنزير بري ضخم يمثل معيناً غذائيا يكفيه هو وأسرته أسبوعين على الأقل .. وطال انتظار " جلاسيوس " حتى جنحت الشمس إلى الغروب دون أن يظهر أمامه هدف يشجعه على اصطياده ..
وغربت الشمس بالفعل خلف أجمات الغابة العالية دون أن يبرح " جلاسيوس " مكانه .. فهو متعود على الصبر وانتظار الرزق مهما طال الوقت .. كما أنه لم يكن ممن يخشون الظلام أو يخافون هجمة مباغتة من حيوان متوحش من حيوانات الغابة الليلية ..
وبعد أن تسمرت قدماه من طول الجلوس ومن الصقيع لمح حيواناً كبيراً يمرق بسرعة البرق من أمام البقعة التي يجلس فوقها ويهرع ليختبئ في ظلام الأشجار الكثيفة .. فغادر " جلاسيوس " مكانه على الفور وأسرع ليلحق بالحيوان الهارب الذي ظنه أرنباً ضخماً .. وتلمس الصياد الجسور طريقه وسط أشجار الغابة ومخاطرها بحذر .. ودار من حول البقعة التي كان يجلس عليها حتى وصل إلى الموضع الذي اختبأ فيه الصيد المنشود .. وطفق " جلاسيوس " يقترب ويقترب حتى صار على بعد خطوة من مخبأ الحيوان الذي صار أقرب وأكثر وضوحاً .. وظهرت قوائمه الأمامية في ضوء القمر المبهر .. واقترب " جلاسيوس " تماماً من الهدف وفجأة ...
************
شعرت " سيبيلا " بالقلق الشديد لتأخر " جلاسيوس " لهذا الوقت .. فلم تعتد أن تطول رحلات صيده إلى ما بعد غروب الشمس .. وزاد من قلقها وتوترها الحالة الغريبة التي يعانيها طفلهما " موريس " منذ الصباح .. فقد ظل الطفل في حالة بكاء مستمر منذ الفجر ورفض الرضاعة أو تناول اللبن حتى الآن .. ولم تطق " سيبيلا " صبراً على طول تأخر " جلاسيوس " فوضعت شالها على كتفيها وغادرت الكوخ ؛ بعد أن أطمأنت إلى أن " موريس " يغط في نوم عميق ؛ وأغلقت الباب وراءها بهدوء وانطلقت للبحث عن زوجها .. ولكنها لم تكد تغادر البيت حتى وجدت زوجها أمامها تملأ السعادة ملامحه وهو يجر وراءه خنزير بري عملاق أصطاده من الغابة .. وعندما وصل عندها أبتسم لها وقال بسعادة :
" صيد وفير يا " سيبيلا " .. يمكننا الآن ألا نقلق بشأن طعامنا لعام قادم ! "
وضحك " جلاسيوس " بسعادة وابتسمت له زوجته وعانقته .. ولكن فجأة انطلقت صرخات الطفل من داخل الكوخ !
هرع الأبوين إلى كوخهما ليطمئنا على صغيرهما الذي يصرخ بصورة مروعة .. وسبق " جلاسيوس " زوجته ودفع باب الكوخ بعنف فأنفتح كاشفاً عن منظر مخيف !
كان الطفل راقداً في مهده المبتل يصرخ بفزع .. وعند رأسه يقف قط أسود قبيح ذوعينيين براقتين تلمعان لمعاناً غريباً وقوائمه الأمامية فوق وجه الطفل تماماً !
ذعر " جلاسيوس " لهذا المشهد ولحقت به زوجته وعندما وقع بصرها على المشهد المخيف ذعرت أكثر منه وسدت فاها بيدها لتمنع نفسها من الصراخ .. وتجمد الأبوان لدي الباب غير قادرين على التحرك لنجدة طفلهما .. و " جلاسيوس " بالذات لم يجرؤ على الحركة قيد أنملة لأنه كان يعرف أن أي حركة طائشة قد تكلف طفلهما حياته .. وظل القط الأسود القبيح يموء مواءً غريباً يجمد الدم في العروق وهو يتفحصهما بعينيه اللتين تلمعان لمعاناً عجيباً .. وطال الموقف وأشتدت وطأته على أعصاب الأم الشابة وافلتت منها أعصابها واوشكت على التحرك من مكانها لنجدة طفلها .. واحس " جلاسيوس " بعزم زوجته على التحرك فأمسك يدها بحزم وقال لها في صوت خفيض آمر :
" لا تتحركي .. إنها تريدني أنا ! "
وببطء بدأ " جلاسيوس " ينتزع قدميه من الأرض ويتحرك حركة هادئة للغاية نحو
مهد أبنه الذي تقف عند رأسه القطة مهددة متوعدة .. وظلت القطة هادئة في مكانها ترقب حركة " جلاسيوس " التي تكاد لا تُلحظ .. وظل الصياد يقترب رويداً رويداً من المهد حاسباً أن شبح القطة المخيفة لن يقدم على التحرك .. ولكن فجأة تحركت القطة .. وقبل أن يدرك الزوجين ما يحدث أمامهما وثبت القطة في الهواء عدة أمتار .. ثم هوت على وجه الصغير مباشرة وأبرزت مخالبها الحادة وأنشبتها في فتحتي عينيه !
صرخ " جلاسيوس " وطار ليمسك بالقطة ولكنها وثبت مرة أخري وقابلته في منتصف الهواء وأطبقت أنيابها على أذنه .. ثم سقطت على الأرض واختفت !
طارت " سيبيلا " نحو مهد طفلها .. وكان الطفل يصرخ صراخاً ملتاعاً يمزق القلوب .. ولكن صراخ أمه كان أعلى عندما رأت عيناه وقد تحولتا إلى مجرد فجوات سوداء تتدفق منها الدماء !
************
لم تمر على " جلاسيوس " ليلة أسوأ من هذه في حياته .. ظل طوال الليل جالساً على عتبة الكوخ محدقاً في السماء وقد بدا عليه أنه لا يعرف من هو ..
.. أما " سيبيلا " فقد قضت ليلتها تعوي على الأرض وتصرخ وهي تحاول وقف نزيف الدم المتدفق من عيني طفلها المظلمتين .. وعندما أشرق الصباح لفت طفلها في خرقه الكثيرة ووضعت شالها على كتفيها وحملت الطفل شبه الميت وخرجت تجري من الكوخ نحو بيت الطبيب .. حاول " جلاسيوس " مرافقتها ولكنها أبعدته عنها بعنف وصاحت في وجهه وهي تبدو كالمجنونة :
" أبتعد عنا ! أبتعد .. لقد جلبت علينا اللعنة بفعلتك ! لن ننجو برفقتك .. تريد مجداً أيها الصياد الذي لا يخطئ هدفاً ؟! فأسعد بمجدك الآن ! "
وحملت " سيبيلا " طفلها ولم تلبث أن اختفت في ظلال الأشجار .. أما " جلاسيوس " فقد بكي في هذا اليوم أكثر مما بكي طوال عمره !
************
في بواكير الصباح فوجئ مدير مسرح " راغوزا " السيد " أبولونيوس " بأحد الأقزام الذين يعملون في خدمته يدخل عليه خيمته ويوقظه ليخبره بأن الصياد " جلاسيوس " يطلب لقاءه الآن بإلحاح !
تململ " أبولونيوس " البدين في فراشه وسأل قزمه التابع بصوت ناعس :
" ومن يكون الصياد " جلاسيوس" هذا ؟! "
فأجابه القزم :
" إنه الصياد الذي قتل الآلهة المصرية يا سيدي الليلة قبل الماضية .. صياد ماهر فيما أسمع "
فرد " أبولونيوس " حانقاً :
" وماذا يريد ؟! هل يريد أجر قزم على اشتراكه في العرض ؟! فلتخبره بأنني نائم الآن .. وإذا أحب مقابلتي فليعود في العصر ! "
أومأ القزم برأسه وهم بالعودة إلى " جلاسيوس " ليخبره بما قاله سيده .. ولكن " جلاسيوس " أقتحم الخيمة فجأة وأزاح القزم من أمامه وانتزع المدير من فراشه وصاح في وجهه :
" يجب أن تساعدني.. قطتك الملعونة أرسلت روحها لتطاردني .. يجب أن تخبرني كيف أتغلب عليها ! "
************
غادر " جلاسيوس " خيمة السيرك وهو شاعر بخيبة أمل مريرة .. لم يفده " أبولونيوس " البدين بشيء ذو قيمة وقال له أنه لم يشتري القطة من مصر بنفسه ، بل أبتاعها من تاجر فارسي في فينيسيا أخبره أنها أحضرها من " ممفيس " الشهر الماضي .. ولا يعرف شيء سوي أن المصريون قالوا له أنها قطة إلهية مقدسة وحذروه من المساس بها.. وعندما توسل إليه أن يخبره كيف يتلخص من لعنتها أجابه البدين بدون اهتمام :
" أذهب إلى مصر واسأل المصريون وهم سيخبرونك ! "
يذهب إلى مصر ؟! كيف ؟!
إنه يمكنه الذهاب .. ولكن ليس إلى مصر .. بل إلى الكنيسة !
************
عاد " جلاسيوس " إلى كوخه آخر النهار وقد هده التعب والحزن .. وأرهقه الجولان في المدينة وعدم الأكل أو الشرب .. وهناك وجد زوجته قد عادت !
وجدها جالسة على الأرض وراء الباب المغلق وقد وضعت طفلها فوق ساقيها وأخذت تربت عليه بحنان .. بينما الدموع تتدفق من عينيها المظلمتين حزناً وجزعاً ووجهها أصبح كوجه سيدة في الثمانين .. دخل " جلاسيوس " بهدوء وتطلعت إليه " سيبيلا " من تحت طرحتها السوداء التي تغطي نصف وجهها .. لم يجرؤ على الكلام ولم تفتح هي فمها ولكنها أزاحت الغطاء عن وجه الصغير لتريه الضمادات البيضاء التي تغطي فجوات عينيه .. تصلب لب قلب " جلاسيوس " وأحس بسكين حامية تنخر قلبه .. فجلس جوار زوجته على الأرض وضمها إليه في صمت !
************
بعد أيام تحسنت صحة الطفل " موريس " ونجا من مرض الموت الذي ألم به .. ولكن الأبوين لم يسعدا بنجاته .. وكان منظر تجاويف عينيه المظلمة تنغص ليلهما ونهارهما !
ولكن " جلاسيوس " لن ينس ثأره مع القطة الشبح .. فلتكن آلهة أو شيطانة .. فلن يردعه شيء عن الانتقام منها !
أما " سيبيلا " فقد ركبها الخوف والفزع وكانت تحس أن من حدث لصغيرهما ليس إلا مقدمة لفواجع أخري ستتوالى !
************
ازدهرت الغابة في الربيع وامتلأت بصغار الحيوانات الوليدة التي لم تلبث أن شبت وأكتنزت باللحم مبشرة بموسم صيد طيب .. وخرجت جموع الصيادين في مجموعات كبيرة للانتفاع ببشائر الصيد الوفيرة .. ولكن " جلاسيوس " لم يخرج معهم كعادته .. فقد فضل أن يبقي في كوخه الصغير ليحرس زوجته وابنه من أية هجمة غادرة من عدوته التي لم تظهر ثانية !
ورغم أن " سيبيلا " طلبت منه الخروج إلا إنه أبي أن يرافق زملاءه الصيادين في رحلة صيد قد تستغرق أسبوعاً على الأقل معتمداً على الصيد الفردي الذي يقوم به في الغابة كل يوم !
وذهب " جلاسيوس " في هذا الصباح إلى الغابة ليحصل على صيد مناسب .. وعندما دخل الغابة فوجئ بأرنب بري ضخم ساقط عند أشجار الدردار العملاقة التي تملأ الساحة الأمامية للغابة .. فرح " جلاسيوس " كثيراً بهذا الصيد غير المتوقع واخذ الأرنب وعلقه من أقدامه في عصا طويلة حملها خلف ظهره .. وبعد بضع خطوات وجد أرنباً ثانياً ضخماً مثل الأول ميتاً أيضاً تحت قدمي شجرة عملاقة .. ويبدو أن " بان " كان راضياً غاية الرضا عن " جلاسيوس " الماهر اليوم .. فسرعان ما امتلأت عصاه بالحيوانات المعلقة دون جهد يذكر !
ولم يفكر " جلاسيوس " كثيراً في أمر هذا الصيد الوفير الذي جاءه يسعى .. بل أهتم بجمع الحيوانات الميتة وحملها ؛ على أن يقوم في البيت بفحصها واستبعاد التالف منها ..
ودون أن يشعر توغل " جلاسيوس " في الغابة أكثر مما يجب .. وبغتة وجد نفسه في جزء مجهول له من الغابة .. جزء ممتلئ بأعشاب صفراء غريبة وأشجار لا يعرف أسماءها مصطفة في صفوف لا تنتهي .. وحاول " جلاسيوس " التراجع والعودة من حيث أتي ولكنه لم يتمكن من معرفة الطريق الذي أتي منه .. وكلما حاول التراجع وجد نفسه يدور حول نفسه ويتقدم أكثر وأكثر في طرق وممرات غريبة لم يعرفها من قبل .. وهنا أنتبه " جلاسيوس " لشيء لم يفكر فيه من قبل .. فهل من قبيل المصادفة أن يجد كل هذه حيوانات الصيد الميتة في طريقه وكأنها تنتظره ؟!
وفجأة تراجع القمر ملقياً ظلالاً غريبة وظلاماً دامساً على الغابة ..
وفي اللحظة التالية أنقض شيء قوي على وجه " جلاسيوس " .. شيء ليس بضخم ولكنه قوي بالغ الضراوة .. أندفع الشيء وهجم على عنق " جلاسيوس " وسقط الاثنان معاً على الأرض والشيء المتوحش يواصل تمزيق عنق " جلاسيوس " ووجهه .. حاول " جلاسيوس " المقاومة ولكن الشيء كان قوياً للغاية وفي غاية القسوة .. حاول " جلاسيوس " الوصول إلى أي شيء يدافع به عن نفسه وبعد محاولات مستميتة تمكن من القبض على سكينه العملاق ودفعها في وجه هذا الشيء البغيض الذي يهاجمه .. ولكن الشيء لم يشعر بالطعنة ولم يتحرك من مكانه .. وكأنه ليس من لحم ودم !
************
قبيل الفجر عاد " جلاسيوس " إلى بيته .. كان وجهه وعنقه وصدره ممزقة ببشاعة وملابسه ملطخة بالدماء .. فزعت " سيبيلا " لمنظره وأندفع الولد الأعمى في بكاء غريب وكأنه يري ويعرف ما حل بأبيه .. دفع " جلاسيوس " الباب في عنف وصرخ في وجه زوجته :
" اهربي .. اهربي .. خذي الولد واهربي .. إنها قادمة ورائي! "
حدقت " سيبيلا " فيه بفزع وعجزت عن النطق .. ولكن " جلاسيوس " حمل الولد ووضعه على كتفها ودفعها نحو الخارج وهو يصيح بيأس :
" اهربي .. اهربي .. لا وقت هناك ! "
لم تتحرك " سييبيلا " من مكانها وتشبثت بذراع زوجها وهتفت به بعينين ممتلئتين بالدموع :
" تعال معنا .. تعال معنا ! "
فأجابها " جلاسيوس " بيأس :
" لو ذهبت إلى آخر الدنيا ستأتي ورائي أذهبوا وعيشوا في أمان .. هيا إلى الدير بسرعة .. إنها قادمة ! "
هرولت " سيبيلا " في الليل المظلم إلى الدير القريب .. وقبل أن يبتلعها الليل كان مواء مخيف يقترب من كوخ " جلاسيوس " الصياد .. واندفعت قوة عاتية لتخلع الباب من مكانه وتلقي به على الأرض بصوت دوي في أنحاء " راغوزا " .. ووقف " جلاسيوس " على قدميه ليواجه المصير المظلم الذي ينتظره .. وعند نهاية ممر الأشجار ظهرت عينان ناريتان تلمعان لمعاناً وحشياً .. وبعد لحظات سُمع صوت " جلاسيوس " الصياد وهو يصرخ طالباً النجدة .. ولم يكن هناك من يجرؤ على نجدته !
************
في الصباح التالي كان كوخ الصياد " جلاسيوس " خالياً من أي آثار سوي معطف ممزق ملقي أسفل الفراش .. ولم يُعرف مصير الصياد البارع بعد ذلك ...
وإن كان حرق القطط قد توقف في صقلية نهائياً !
kassasmanal.blogspot.com


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.