ثلاث طرقات متلاحقة أيقظت "حسن القط" من شروده. خطا نحو الباب في حذر وأنفاسه تصطخب: "من؟" تسرب من ثقب صغير صوت هامس: "سبع". فتح الباب . مرقوا إلي الداخل بلهاث متقطع، وتساقطوا علي الأرض الرطبة وهم ينزلون البطانية القديمة بحرص. ما بداخلها كان يتلوي بينما هو يمعن بشبق. انبعثت اشارات طمأنته بأن كل شيء تمام. أقفل الباب الصفيحي بعد أن مسح الطريق ووجه البركة الساكن بعينين غائرتين تشعان مرحا. لم يقاوم "حسن القط" حرارة العطش في حلقه فرفع غطاء الزير المنتصب فوق قاعدة حديدية مثلثه الأرجل في أقصي الركن. مد الكوز النحاسي. تراجع مبغوتا (نشرت الجرائد يوما أن رجلا سقط ميتا بعد أن شرب من زير موضوع بمنتصف شارع في احدي القري، ثقلت خطاه كسكير، ثم سقط مغشيا عليه وحين وصلوا به إلي المستشفي وهو يترنح فوق أكتافهم خمدت أنفاسه. الشرطة اكتشفت حية نافقة في باطنه). لقد تحسس باطن الزير برؤوس أصابعه قبل أن يملأه بالماء، وجده خاليا إلا من طحالب لزجة اشتبكت بأصابعه طوقته. قاوم بعناد. عصرته الأمواج الهادرة وعلا رأسه الزبد ثمة بحر بلا شطآن بدت له حينئذ وطفلة تصرخ بفزع فوق إطار منفوخ: "يا ابا" أمسكها بقوة وخبأها بحضنه، ثم قذفهما الموج وهما خائري القوي. لا يعلم كيف كان يجدف بتلك الشجاعة والسرعة. كبرت تلك البنت ابنته كثيرا فازداد خوفه هذه الأيام ليس من البحر وحده. شرب وشربوا. دلف إلي ملحق صغير فصله حاجز خشبي يرتفع لنصف قامته. زحفت إلي اذانهم قرقرة المياه مثل لحن راع قديم فتثنت أجسادهم طربا، والدقائق التي قضاها "حسن القط" في الداخل عبرت فوق رؤوسهم ثقيلة ودون أن يخرج حرفا واحدا من بين الشفاة المتلهفة كأنهم أنهوا كل الكلمات. هل بجسده النحيل الطويل تتقدم الجوزة الملفوفة عند انبعاجها النحاسي بشرائط زرقاء وحمراء (وقد ورثها عن صديق لهم مات في عركة طاحنة خاضها رجال القرية برؤوس الفئوس، ونساؤها بالحجارة في نوبة جنونية بعدما استطاعت الفتاة التي دبر لاغتصابها الهرب من قبضته وجرت باتجاه الدور تلملم ملابسها الممزقة) وبالمجمرة في اليد الأخري. اشتعلت بعيونهم رقصة صاخبة حين برق الفحم الملتهب. قال صوت: أول مرة يقع في ايدينا الجمال ده. لحق به آخر: حاسس اننا متراقبين سكون حط كيمامة في الكوخ الذي أقامه "حسن القط" بحوائط طينية مدعمة بسدابات من الغاب والأخشاب، ثم سقفه وصنع له بابا من صفيح. خصص المكان في قطعة الأرض التي يملكها في ركن تظلله أشجار الكافور. لا يلفت انتباه أحد حتي الضحايا لا تعلق بذاكرتهم سوي نظرات نهمه، وأياد تجوس ببراعة في اللحم الشهي، وجدران لا حد لقتامتها، ونونوة الأصحاب وهم يداعبون صديقهم مالك البناء، ثم سحابات غليظة من الدخان الراكد. انفرجت الدائرة فجلس "القط" في مكانه المعتاد كقائد. قطع صمتهم المترقب بضحكة صفراء يكرهونها لكنهم لا يقدرون علي اسكاتها. سحب صندوقا عتيقا مضمخا برائحة كنز (تواري سنوات أسفل جدار متهدم وذات ليلة حفر رجل ضاقت به الحيل بعد تهديد الدائنين له بالسجن حفرة عميقة يواري بها نفسه وأسرته قبل أن يداهمهم الموت جوعا، وفي ضربة واهنة صك سمعه رنين معدني. انحني قابضا بيديه علي الجسم الثقيل وسحبه لأعلي بعدما أخلي التراب من حوله. حاول فتحه بحذر فأخفق. أحضر عتلة وضغطها بين احدي فواصله لأسفل فلمعت عيناه فجأة ببريق ذهبي خالص. حينها صرخ ك"علي بابا" والرغبة تتقافز في عينيه: "أحمدك يارب" باعه جميعا في أماكن متفرقة وبني قصرا زاخرا بالبهجة وقد داهمهم الموت بعد انتقالهم إليه بأشهر قليلة اثر وباء جارف أطاح بكثيرين). قال "القط" لأصحابه انه اشتراه من خان الخليلي لما رأي في حفريات غطائه النحاسي بقايا طموح. كان البائع صندوق حكايات عتيقة كطقاطيقه التي تتراص فوق أرفف سميكة وقد حكي له حكاية الصندوق والرجل. قال "القط" لأصحابه أيضا أنه رغم اضطرابه البادي في مقلتيه اللتين لا تتوقفان وحركات يديه وهذيانه الذي أصبح شبه دائم يدرك كل شيء يحدث حوله، لكن مدير المدرسة لا يثق به فقد قال له ذلك الصباح وهو ينظف أرضية مكتبه: سأكون رحيما بك وسأقدم طلبا للإدارة بتسوية معاشك يا "قط" فاهم. دائما ما يداعبه الجميع بكلمة قط أو بالنونوة أمامه، لكن المدير لم يكن يداعبه إذ كانت سبابته المرفوعة فوهة بندقية. ادار "القط" ظهره ومشي متجاهلا الرصاصة الوهمية التي يمكن أن تطلق في لحظة. "حسن القط" يعرف أيضا ذلك المقاول الذي أتي بخلاطاته الضخمة، وعماله لصنع أساسات أحد المباني الحكومية في القرية فاستحال فرد من ابنائها ثم غادرها بعدما اكتملت مهمته وبعدما سرق زوجة "القط" التي التقي بها مرات ليعيشا سويا في مكان بعيد حيث لم يعثر عليهما بعد ذلك. ضجت القرية بالاندهاش والسخرية حينها فهرب من أعين الجميع وأسئلتهم في كوخه. أحيانا يترك ابنته ذات العمر الناضج في جسدها حتي تستغرق في أحلامها ثم يغلق الباب بالمفتاح، ويمضي إلي كوخه ويعود كما اعتاد إلي ابنته قبيل الفجر بساعة حيث تكون غارقة في أحلامها القلقة. يزفر بارتياح ويقرر أن لا يتركها وحدها بعد ذلك. يمر يوم واثنان وأسبوع. الحاح أصدقائه يهزمه في النهاية فيقرر أن يعود لسهرة الكوخ الصاخبة لمرة أخيرة. يستطيع بداخله ان يفتح أبواب روحه: يضحك/ يبكي/ يتشنج في اللحظة نفسها منتشيا كشيطان يعرف ما يريد. كانت همسات أصدقائه المكتومة تؤلمه كاضاءة قوية مسلطة في حدقتيه، لكنه يصر علي تجاهلهم إلي أن تستكين غريزته المنفلتة في الجسد الطري الذي يتلوي ألما وذعرا أمامه. ربما ساورته الشكوك في أنه سيزفر أنفاسه الأخيرة فوق صدر امرأة قدت من شبق لا نهائي وبعد أن يملأها شعور بالشبع. فتح الصندوق بهدوء فوثبت أحجار البوري. سال لعابهم وهو يخرج القطعة ويفردها، ثم يقطعها لحبيبات صغيرة ويدسها بعناية. دارت الجوزة دورات عدة تبدأ بفمه ذي الأسنان الصفراء المتآكلة. سحابات الدخان تلوت وتشكلت معارك صغيرة وامتصها السقف. ندت من أحدهم ضحكة خفيفة سرعان ما اشتبكت بها أخري، حتي انتشر طوفان من قهقهات ممزوجة بالسعال والبلغم. عاد صمت مريب فحلقت طيور ورؤوس مبتورة تحت السقف وغابت لتحل دوائر مصمتة مكانها. تلاشت أصواتهم فلم يشعر إلا بدبيب الفريسة/ شهقاتها/ سخونة أطرافها وانتظارها المفزوع للمصير المجهول. "القط" وحده كما كان من قبل: يحف بقايا شمعة فوق لوح خشبي ويشعل أخري فيما السؤال يعاود دورانه؟: هل يجيئون ظافرين؟ ويجيئون، بجوار الباب يتمدد حين يمس أذنيه دبيب ويغوص لحظات بعيدا. هو الآن معها. قام نافضا رطوبة الأرض عن جلبابه القاتم ويشدها إليه. كانت اياديهم تشده للخلف كطريقة لمشاكسته فهم يعرفون أنه لا يقبل إلا بالدور الأول لأن البناء ملكه والدخان والصندوق النحاسي، والعار الذي يلاحقه اينما حل. طوحها أمامه كاشفا عن وجه مستدير ناضج ما أن صعقه بنظرة حادة ومرعوبة حتي غطاه مرة أخري وهبط بنفسه إلي أسفل وتوقف تماما مستسلما للشعاع المميت. (وحشية هي البراءة المنسابة من وجهها كأنها.) مسح جبينه المندي ولعنهم فاتحا فمه عن آخره، مطلقا صوتا فجا من فمه ومنخريه، وكان قد كشف طرف فستانها فارتج تماما فوق زلزال مدمر. استدار ومد قبضة مفاجئة سريعة لا إرادية إلي رأس أحدهم. توالت الصفعات المفاجئة علي رأسه وجسده الذي عجز توا عن الوقوف. التقط سكينة من الأرض وطاردهم. لم يصدقوا ما يحدث لكن الوقت كان غير ملائم لأن يستحثوا عقولهم التي طار منها رحيق السطل فغاصوا في أحذيتهم بسرعة واندفعوا خارجا. تحامل علي قدميه المرتجفتين وجري وراءهم. أطاحت قدمه بلمبة الجاز، لكنه لم يلتفت وجري إلي الخارج. انزلقت اقدامه في البركة فطش ماؤها الآسن في وجهه. زحف علي أربعة حتي وقف مرة أخري وجري خلفهم وهو يحدق في أشباحهم النحيلة التي تختفي شيئا فشيئا ليحل مكانهم رغما عنه ذلك البناء الذي يوشك أن يحترق. الدقهلية: فكري عمر