لا ينبغى لعاقل أن يفوت فرصة ذكرى عظيمة كذرى الهجرة دون أن يسعد ويتدبر بقراءتها من وجوهها المتعددة حتى يعلم كم لا قى الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام البررة من الشدة والعذاب وكيف صبروا على ما أوذوا وجاهدوا فى سبيل نشر الإسلام ورفع راية التوحيد عالية خفاقة على ربوع العالم حتى وصل إلينا دين الإسلام غضا طريا كأنه مازال ينزل . وعموما ، فلنمض سويا لعلنا ونحن نضرب فى الحياة نستكشف أبسط الطرق وأيسرها حاملين راية التوحيد ومحافظين على الأمانة التى حملناها فنكون أهلا لها ، تلك التى وصلت إلينا ممن سبقونا على الضرب من الجاهدين فى سبيل الله ؛ من أجل إعلاء كلمة التوحيد على ربوع العالم. وأول ما يطالعنا فى تلك الأحداث والمواقف العالية إعداد الرسول صلى الله الخطة والعدة للخروج سرا دون علم مشركى مكة بالأمر ، فكان من أهم ذلك انه أمر أولا أصحابه الكرام بالهجرة إلى الحبشة بسبب ما لاقوه من صنوف العذاب من كفار قريش. ولك أن تفهم هذه الخطوة لو مررت يوما ما بسفر ما طلبا الرزق فى بلد غير بلدك بعيدا فتركت أهلك وأبناءك وأصحابك وراءك فإنك عن كان لك قلب رؤوف تظل مشدوادا لهم ولا تهنا لحظة بطعم الراحة فى الغربة التى اضطررت إليها سعيا وراء لقمة العيش . طبعا النسبة هنا منفكة ، ولكن – لو ادركت ذلك ربما تعرف ما كان الرسول يخطط له جيدا وسبب أمره لأصحابة بالهجرة إلى الحبشة قبل أن يبدأها هو إلى المدينةالمنورة ، فلم يكن يريد ان يترك خلفه ما يحرص عليه عندما يغادر مكة إلى المدينة حتى انه عهد إلى علي رضي الله عنه بأن يبيت فى فراشة ويلبس بردته الشريفة ليرد ودائع المشركين إليهم حتى لا يبقى لهم عنده طلب. وتلك من أخلاقيات ودوروس الهجرة التى ينبغى أن نتعلمها فلا يعنى عداوة الأعداء لنا أن نمنعهم حقوقهم التى فى أعناقنا. قال عز من قائل : " وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ " ( الممتحنة : 11 ) هذا ، ولعل البعض لا يفوته معرفة تفسير هذه الآية . و الدكتور الشيخ / محمد الطنطاوي يعطى بعضا من ذلك فى ( التفسير الوسيط ) ، قال : وحاصل المعنى : إن لحق أحد من أزواجكم بالكفار، أو فاتكم شيء من مهورهن ، فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا من مهر المهاجرة التي تزوجتموها ، ولا تعطوا شيئا لزوجها الكافر، ليكون قصاصا . وعبر عن هؤلاء الزوجات اللائي تركن أزواجهن المؤمنين ، وفررن إلى المشركين ، بلفظ " شيء " لتحقير هؤلاء الزوجات ، وتهوين أمرهن على المسلمين ، وبيان أنهن بمنزلة الشيء الضائع المفقود الذي لا قيمة له. والآن ناتى إلى بيان ما اخترناه مما وقع من احداث فى هجرة المسلمين إلى الحبشة . كانت الهجرة إلى الحبشة فيما قيل بداية خروجهم في شهر رجب من السنة الخامسة من النبوة. وكانت على مرتين ؛ فقد ذكر كتاب السير أسماء من هاجر فى كل مرة وهم عدد كثير ، فلا يحتمله مقال مثل هذا ..! وعموما ، فقد كان قبل أن يهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكةالمكرمة إلى يثرب التى أصبحت المدينهالمنورة بدخول رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم إليها مع صديقه أبا بكر الصديق رضي الله عنه ؛ فقد أمر السلمون أن يهاجروا إلى ارض الحبشة بسبب ما لاقوه من صنوف العذاب من كفار قريش . يقول صاحب ( عيون الأثر ) رواية : فلما كثر المسلمون وظهر الايمان اقبل كفار قريش على من آمن من قبائلهم يعذبونهم ويؤذونهم ليردوهم عن دينهم . قال : فبلغنا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمن آمن به : تفرقوا في الارض فان الله تعالى سيجمعكم . قالوا : إلى أين نذهب ؟ قال : إلى هاهنا . واشار بيده إلى ارض الحبشة. ولم تكن هجرة الصحابة مرة واحدة بل مرتان كما قلنا فى كل مرة جماعة من الصحابة . أ- الأولى : هاجر ناس ذوو عدد منهم : 1- من هاجر بأهله . 2- ومنهم من هاجر بنفسه. حتى قدموا أرض الحبشة . • فكان فيما قيل أن أول من خرج عثمان بن عفان معه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعموما ، خرجوا متسللين سرا حتى انتهوا إلى الشعيبة منهم الراكب ومنهم الماشي ، فوفق الله لهم سفينتين للتجار حملوهم فيهما بنصف دينار . وكان أن خرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر من حيث ركبوا ، فلم يجدوا أحدا منهم . و نكتفى فى ذلك بما بالرواية قالها عبدالله بن مسعود فى ذلك الأمر والتى عول عليها صاحب كتاب ( عيون الأثر ) . قال عبدالله بن مسعود : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ثمانين رجلا منهم : 1- عبدالله بن مسعود . 2- وجعفر. 3- و عبدالله بن عرفطة . 4- وعثمان ابن مظعون رضى الله عنهم. وبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية فقدما على النجاشي فدخلا عليه وسجدا له وابتداره فقعد واحد عن يمينه والآخر عن شماله فقالا : إن نفرا من بنى عمنا نزلوا أرضك فرغبوا عنا وعن ملتنا . قال : وأين هم ؟ قالوا بأرضك . فأرسل في طلبهم فقال جعفر رضى الله عنه أنا خطيبكم اليوم ، فاتبعوه ، فدخل فسلم . فقال النجاشي : ما لك لا تسجد للملك ؟ . قال : إنا لا نسجد إلا لله عز وجل . قالوا : ولم ذاك ؟ قال : إن الله تعالى أرسل فينا رسولا وأمرنا ان لا نسجد إلا لله عزوجل ، وأمرنا بالصلاة والزكاة. قال عمرو بن العاص : فانهم يخالفونك في ابن مريم وأمه . قال : فما تقولون في ابن مريم وأمه ؟ قال : كما قال الله عزوجل روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول التى لم يمسها بشر ولم يفرضها (لم يؤثر فيها) ولد . قال : فرفع النجاشي عودا من الارض فقال : يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان ما تزيدون على ما يقولون اشهد أنه رسول الله وانه الذى بشر به عيسى في الانجيل ؛ والله لولا ما انا فيه من الملك لاتيته فأكون أنا الذى أحمل نعليه وأوضئه . وقال : انزلوا حيث شئتم . وأمر بهدية الآخرين فردت عليهما . أقام المهاجرون بأرض الحبشة عند النجاشي في أحسن جوار . فلما كان شهر ربيع الاول وقيل المحرم سنة سبع من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي كتابا يدعوه فيه إلى الاسلام وبعث به مع عمرو بن أمية الضمرى فلما قرئ عليه الكتاب أسلم ( أسلم النجاشي ملك الحبشة ) ، وقال : لو قدرت أن آتيه لاتيته . وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجه أم حبيبة بنت أبى سفيان ففعل ؛ وأصدق عنه تسعمائة دينار ، وكان الذى تولى التزويج خالد بن سعيد ابن العاص بن أمية. وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه من بقى عنده من أصحابه ويحملهم ففعل فجاءوا حتى قدموا المدينة فيجدون رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر فشخصوا إليه فوجدوه قد فتح خيبر فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يدخلوهم في سهمانهم ففعلوا. ( وعلى الله قصد السبيل ) دكتور / عبد العزيز أبو مندور