كنا نتوقع منهم قليلاً من الحياء، كما كنا ننتظر منهم حُمْرة الخجل، ولكنهم كانوا على ظنِّهم بأن الثورة لَعِبُ عيالٍ، وأن الشعب المصري بلا وعي، وإرادته بضاعة رخيصة، وأن التغيير وهم، وأن مجلس الشعب يمكن أن يسعهم من جديد فوق كراسيه، ولذلك رشحوا أنفسهم، وإذا كان من حقهم أن يرشحوا أنفسهم فإن من حقنا ألا ننتخبهم، وحسنا فعل الشعب عندما حال دون تسلل رعاة الفساد في مصر إلى ما تحت القبة. وكنا نتوقع محاكمات ثورية لهؤلاء، كما كنا نتوقع أن تصبح حياتنا نظيفة من ثقافة مبارك ونظامه، ولكن هكذا شاءت الإرادة السياسية منذ الثورة وحتى اليوم، أن نظل هكذا في مواجهة مع ألاعيب المفسدين المضللين الذين يلعبون علنًا حينا، وحيناً في الخفاء، ممارسين ثفافتهم المباركية التي قادت البلاد نحو التخلف والفقر والفساد، وانتهت من الحكم ولم تخلِّف غير كوادر الفوضى والفساد والتهليب والبلطجة والتزوير. ولقد ظهرت ثقافة برلمانيّ عهد مبارك من الفلول بعد رسوبهم في الانتخابات البرلمانية، وأخص الدائرة الثالثة بمحافظة قنا حيث التغوُّل القبلي، وحيث الغوريلات النائمة على مصطبة القبيلة، هؤلاء الذين ورَّثهم مبارك كراسي البرلمان مقابل دوام ولاء القبيلة لحزبه الحاكم. ماذا فعلوا؟ .. خرجوا إلى شريط السكة الحديد!! ، وكأن شريط السكة الحديد هو الذي أخرجهم من البرلمان، وليس محكمة القضاء الإداري التي أثبتت التزوير، ومن ثَمَّ ألغت نتائج الجولة الأولي على مقعد الفردي.. التزوير هو ثقافة نظام مبارك، وكان هو الفعل الوحيد الذي يمكنهم ممارسته، عادوا إليه بنفس الحماس القديم بعد الثورة!! وهكذا ، كما يقول المثل : "يموت الزمار وصوابعه بتلعب" أو كما يقول مثل آخر: " ديل الكلب ما يتعدلش حتى لو علقوا فيه قالب" !! كنا نتوقع منهم أن يستوعبوا العِبرة من التاريخ، ويتفهموا أن إرادة الشعب غير قابلة للغش، وأن رغبة الشعب في عدم رؤية أفعالهم ووجوههم يجب أن تُحترم، وكنا نتوقع منهم أن يبدأوا مع الشعب لحظة تاريخية نبيلة من التغيير.. كنا وكنا ولكنهم كانوا كما كانوا، ذهب مبارك والبلاء باقٍ، ولم يزل داؤنا العياء!! خرجوا إلى شريط السكة الحديد وأوقفوا حركة القطارات، وهذا في حد ذاته فعل إجرامي يستحق مَن يرتكبه السجن المؤبد بموجب القانون، ولكن هذه هي ثقافة نظام مبارك التي لم تكن تحترم قانونا أو عدالة، ولم يكن يهمها تعطيل مصالح العباد، بقدر ما كانت مهمومة بنهب ثروات البلاد، ودون أن يسألوا أنفسهم ما ذنب القطارات، وما علاقة حركة القطارات بإرادة الجماهير؟، استمروا في إجرامهم بلا عقل؛ مؤكدين أن هذه هي ثقافتهم، وثقافة النظام الذي تربوا في كنفه. وأغلب الظن أنهم توهموا أن الفعل الثوري لم يصل بعد إلى الصعيد، أو أن الصعيد لا يزال عزبة مملوكة لهم ، يمكنهم أن يعزلوها عن سياق التغيير السياسي الحاصل، هذه هي حدود ثقافتهم القبليَّة التي لا تفرِّق بين هيئة السكة الحديد باعتبارها هيئة وطنية للمواصلات وبين الإرادة الوطنية للجماهير، غير أن الظن الأوجه قبولا وأقرب إلى العقل أنهم توهوا أن حركة الإرادة الجماهيرية الثورية هي نفسها حركة هذا القطار الكاسح فأرادوا أن يعطلوها. وكان من المزمع أن يلتقوا بالجماهير في مؤتمر صحفي جماهيري في نفس اللحظة التي صدر فيها قرار محكمة القضاء الإداري بإلغاء نتائج الانتخابات التي أسفرت عن فوزهم بالتزوير، غير أن أُذن الجماهير التقطت عبارات صدرت من أحد عجائزهم يُعرب فيها أنه ( سلفي ابن سلفي)، ليتضح وجه آخر من وجوه ثقافة التلون والمداهنة السياسية الخبيثة التي لا تعرف ملة ولا مذهباً وكل ما يعنيها مصلحتها، حتى أن أحد الظرفاء علق بالقول: لو حكمت إسرائيل مصر لخرج هذا العجوز وأعلن أنه إسرائيلي وابن إسرائيلي!! .. كان من المفترض أنهم بحكم خبرتهم السياسية أن يكونوا قدوة في احترام إرادة الجماهير، وفي التمثيل السياسي الصحيح، وقدوة في معاني الوطنية، هذا على افتراض جدلي أنهم تربوا في نظام سياسي وطني نظيف غير نظام مبارك البغيض. غير أن الأوقح من أفعالهم أنهم قطعوا الطريق العام ليمنعوا وصول الصناديق إلى مقار اللجان في جولة الإعادة !! ماذا يريد هؤلاء؟! .. نعم يريدون نصيبهم من تكيَّة السلطان، نصيبهم الذي ورَّثه مبارك لهم بغير عدالة، وبغير إرادة جماهيرية، ولكن كان يجب عليهم أن يتوقفوا قليلا ليدركوا أن مورِّثهم هناك خلف القضبان، ثم ليخشعوا للحق ويدركوا أن مكانهم الحقيقي أيضاً هناك، لولا كرم الشعب المصري وتسامحه. لقد كنا نعيش في عصر ملئ بالأعاجيب السياسية، وانقضى زمن النظام ولكن فلوله لم ينقضوا بعد، ويقينا سوف يحاولون إفساد حياتنا مرة أخرى، وسوف يمارسون كثيرًا من أحقادهم، وشرورهم وفسادهم الذي لا يجيدون غيره، ولا يعيشون إلا بنسائمه، ربما لذلك نطالب البرلمان القادم وكافة الهيئات المدنية والرسمية، وكل مؤسسات الدولة ووزاراتها بالتركيز على التنظيف، وأعني التنظيف الثقافي، إذ لا يكفي أن ننتظر فقط تنظيفاً قانونيًا ومحاكمات للفساد ورموزه، بل علينا أن نعيد تأهيل الفلول وزمرتهم وقبائلهم وبلطجيتهم وأتباعهم ، نعيد تأهيلهم ثقافيا ليدركوا أن شرط المواطنة هو احترام القانون، وأن شرط العيش فوق أرض مصر بسلام مرهون بنظافة عقولهم وضمائرهم من أدران النظام السابق، وأن المرحلة القادمة لن تكون إلا للوطنية الصادقة، والضمائر النظيفة. [email protected]