رضا حجازي: التعليم قضية أمن قومي وخط الدفاع الأول عن الوطن    تعزيزات عسكرية مصرية تزامنا مع اجتياح الاحتلال لمدينة رفح    حماية المنافسة: تحديد التجار لأسعار ثابتة يرفع السلعة بنسبة تصل 50%    رئيس «مصر العليا»: يجب مواجهة النمو المتزايد في الطلب على الطاقة الكهربائية    نشرة منتصف الليل| الحكومة تسعى لخفض التضخم.. وموعد إعلان نتيجة الصف الخامس الابتدائي    محافظ بني سويف: الرئيس السيسي حول المحافظة لمدينة صناعية كبيرة وطاقة نور    بعد الانخفاض الكبير في عز.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد بالمصانع والأسواق    شهداء وجرحى في غارة إسرائيلية على منزلين برفح ومخيم البريج (فيديو)    حزب الله يستهدف عدة مواقع لجيش الاحتلال الإسرائيلي.. ماذا حدث؟    «قطع في وتر اكيليس».. التشخيص المبدئي لإصابة علي معلول    فيريرا يدعم الزمالك: بالروح والعزيمة سنفوز بكأس الكونفدرالية لإسعاد الجماهير    اسكواش - وأخيرا خضع اللقب.. نوران جوهر تتوج ببطولة العالم للسيدات    عماد النحاس: وسام أبو علي قدم مجهود متميز.. ولم نشعر بغياب علي معلول    محمود أبو الدهب: الأهلي حقق نتيجة جيدة أمام الترجي    باقي كام يوم على الإجازة؟.. موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024    الأرصاد الجوية تحذر من أعلى درجات حرارة تتعرض لها مصر (فيديو)    حقيقة تعريض حياة المواطنين للخطر في موكب زفاف بالإسماعيلية    شافها في مقطع إباحي.. تفاصيل اتهام سائق لزوجته بالزنا مع عاطل بكرداسة    مصطفى قمر يشعل حفل زفاف ابنة سامح يسري (صور)    حظك اليوم برج العذراء الأحد 19-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    أصل الحكاية.. «مدينة تانيس» مركز الحكم والديانة في مصر القديمة    باسم سمرة يكشف عن صور من كواليس شخصيته في فيلم «اللعب مع العيال»    "التصنيع الدوائي" تكشف سبب أزمة اختفاء الأدوية في مصر    بعد ارتفاعه.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأحد 19 مايو 2024    وظائف خالية ب وزارة المالية (المستندات والشروط)    إجراء من «كاف» ضد اثنين من لاعبي الأهلي عقب مباراة الترجي    قفزة جديدة ب160 جنيهًا.. سعر الذهب اليوم الأحد 19 مايو 2024 بالصاغة (آخر تحديث)    أوكرانيا تُسقط طائرة هجومية روسية من طراز "سوخوى - 25"    رئيس الموساد السابق: نتنياهو يتعمد منع إعادة المحتجزين فى غزة    رقصة على ضفاف النيل تنتهي بجثة طالب في المياه بالجيزة    نقيب الصحفيين: قرار الأوقاف بمنع تصوير الجنازات يعتدي على الدستور والقانون    مدافع الترجي: حظوظنا قائمة في التتويج بدوري أبطال أفريقيا أمام الأهلي    دييجو إلياس يتوج ببطولة العالم للاسكواش بعد الفوز على مصطفى عسل    صرف 90 % من المقررات التموينية لأصحاب البطاقات خلال مايو    اليوم السابع يحتفى بفيلم رفعت عينى للسما وصناعه المشارك فى مهرجان كان    ماجد منير: موقف مصر واضح من القضية الفلسطينية وأهداف نتنياهو لن تتحقق    أخذتُ ابني الصبي معي في الحج فهل يصح حجُّه؟.. الإفتاء تُجيب    رغم تعمق الانقسام فى إسرائيل.. لماذا لم تسقط حكومة نتنياهو حتى الآن؟    تزامناً مع الموجة الحارة.. نصائح من الصحة للمواطنين لمواجهة ارتفاع الحرارة    بذور للأكل للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    الهبوط والعصب الحائر.. جمال شعبان يتحدث عن الضغط المنخفض    حريق بالمحور المركزي في 6 أكتوبر    مصرع شخص في انقلاب سيارته داخل مصرف بالمنوفية    مسلم يطرح أحدث أغاني ألبومه الجديد «اتقابلنا» (تعرف على كلماتها)    «فايزة» سيدة صناعة «الأكياب» تكشف أسرار المهنة: «المغزل» أهم أداة فى العمل    إعادة محاكمة المتهمين في قضية "أحداث مجلس الوزراء" اليوم    الأزهر يوضح أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة    تعرف علي حكم وشروط الأضحية 2024.. تفاصيل    وزير روسي: التبادلات السياحية مع كوريا الشمالية تكتسب شعبية أكبر    البيت الأبيض: مستشار الأمن القومي الأمريكي سيبحث مع ولي العهد السعودي الحرب في غزة    على متنها اثنين مصريين.. غرق سفينة شحن في البحر الأسود    هل يعني قرار محكمة النقض براءة «أبوتريكة» من دعم الإرهاب؟ (فيديو)    نقص أوميغا 6 و3 يعرضك لخطر الوفاة    أدعية مستحبة خلال مناسك الحج.. تعرف عليها    وزير التعليم: التكنولوجيا يجب أن تساعد وتتكامل مع البرنامج التعليمي    نموذج إجابة امتحان اللغة العربية للصف الثالث الإعدادي محافظة الجيزة    إطلاق أول صندوق للطوارئ للمصريين بالخارج قريبًا    مفتي الجمهورية: يجوز التبرع للمشروعات الوطنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القابلة ( قصة )
نشر في شباب مصر يوم 20 - 01 - 2012

في يوم دفنها وقف القسيس أمام تابوتها وقال موعظة طويلة باللغة الإسكتلندية .. ثم أخذ أهالى القرية يمرون واحداً واحداً أمام التابوت الحاوي لجسدها الهامد ليقول كلمة طيبة في حق هذه المرأة التي كانت سيرتها حسنة مع كل الناس طوال أيام حياتها .. هكذا عاشت " فرانسيس إجلاتيون " أيامها المديدة البسيطة في هدوء ورحلت في هدوء .. ولكن برغم ذلك فإن هذه المرأة قد مرت بتجربة مريرة ليس من السهل على الإنسان أن يمر بها ويعبرها بسلام .. والأصعب أن يستطيع نسيانها .. كانت تجربة مريرة مريعة ومخيفة وان كانت " إجلاتيون " لم تستطع نسيانها بالطبع .. إلا إنها طوتها في أعماق قلبها وصانتها سراً مقدساً لم تبح به لأحد سوي لراعي الكنيسة الطيب الصالح الذي كان أميناً على السر فلم يخبر به أحد على الإطلاق .. الأهم أنه صدقها بالفعل ولم يخامره أدني شك في قواها العقلية .. وقد ابتدأ كل شيء في ليلة كهذه .. ليلة رمادية باردة غائمة ممطرة !
************
في إحدي ليالى شهر آذار الباردة ؛ وبالتحديد بعد منتصف الليل ؛ سمعت الآنسة " فرانسيس إجلاتيون " طرقاً متواصلاً على باب منزلها الصغير الذي تعيش فيه برفقة أمها العجوز الضريرة .. وكانت الإبنة وأمها معتادتين على هذا الطرق الليلي وذلك بحكم عمل " فرانسيس " الذي كان يتم في أي وقت وفي أي مكان .. لأنها كانت قابلة القرية التي تتولي مساعدة نساء القرية على الولادة والإشراف عليهن حتى يستردن صحتهن .. كما كانت ترعي الأطفال وتصف الدواء المناسب لهم في حالة إصابتهم بأي أمراض أو جروح خطرة .. وقد حصلت " فرانسيس " على ترخيص بمزاولة مهنة التمريض رسمياً بعد نجاحها في إجتياز تدريب لمدة أربع سنوات في أحد مستشفيات أدنبرة العريقة ..وكانت " فرانسيس " تحب عملها كثيراً خاصة لحظة خروج طفل جديد إلى العالم ؛ بمساعدتها ؛ وكانت تردد دائماً أنها الأم الروحية لكل أطفال القرية .. فهي أول من حملهم وقد كانت صرختهم الأولي في حجرها !
ولكن أم " فرانسيس " كانت تشفق عليها بسبب مشاق عملها الكثيرة ومتاعبه .. وإضطرارها كثيراً للتأخر خارج المنزل لأوقات متأخرة أو حتى المبيت في الخارج في بعض الحالات .. كما كانت كثيراً ما تُستدعي إلى البيوت بعد منتصف الليل .. كما حدث في هذه الليلة المشئومة !
كان الواقف على باب منزل " فرانسيس إجلاتيون " رجل مهيب يرتدي ملابس فخمة ويعتمر قبعة غالية الثمن كما أن حصانه الأسود الفاحم الذي كان واقفاً خلفه في ضوء المصباح الواهن كان مسرجاً بأغلي أنواع السرج وأغلاها .. ولكنه برغم ذلك كان غريباً على القرية .. عرفت " فرانسيس " ذلك بمجرد نظرة واحدة إلى وجهه الغامض المختفي ثلثاه أسفل القبعة المائلة ..
ظلت " فرانسيس " واقفة ممسكة بالباب في يدها تتفرس في وجه الرجل دون كلام .. مرت لحظة صمت بعدها نطق الرجل بجملة واحدة :
" أتبعيني من فضلك ! "
هكذا بكل بساطة ثم أستدار ذاهباً إلى حيث يقف حصانه .. تعجبت " فرانسيس " من أسلوبه المقتضب ، وتعجبت أكثر لأنها يأمرها هكذا بأن تتبعه دون أن يعني بتوضيح أي شيء لها .. ولكنها قدرت أن الأمر متعلق بحالة ولادة عاجلة متعسرة على الأرجح .. وهكذا تناولت حقيبة أدواتها الطبية من الركن وقبلت أمها واعدة إياها بألا تتأخر عنها .. وخرجت " فرانسيس " من البيت وأمها تلاحقها سائلة إياها عن البيت الذي يطلبونها فيه الآن .. فأجابتها أبنتها بصراحة :
" لا أعرف ! "
وبالفعل لم تكن " فرانسيس " تعرف هذا الرجل أو تعرف أين يقع منزله أو ماذا تسمي أسرته !
************
مشت " فرانسيس " خلف الرجل الغريب مسافة طويلة .. في البداية أجتازا ساحة القرية ثم عبرا منطقة الوادي الضيق ليدخلا في أحراش وبراري واسعة مليئة بالضباب .. الأمر الذي آثار دهشة " فرانسيس " هو إن الرجل لم يدعها لركوب الجواد معه .. بل إنه هو نفسه لم يركبه وظل يمشي على قدميه أمامها ممسكاً بعنان الجواد دون أن يبدوعليه أنه يفكر مجرد تفكير في إستخدامه !
وظلت " فرانسيس " تمشي وتمشي حتى كلت قدماها فتجرأت وهتفت مخاطبة الرجل الذي يسير أمامها دون أن يفتح فمه بكلمة :
" يا سيد .. يا سيد "
توقفت " فرانسيس " عن السير وأخذت تنادي الرجل ولكنه ظل يسير وكأنه لا يسمعها حتى أبتعد عنها مقدار عشر خطوات ثم توقف فجأة وسألها بصوته الغريب دون أن يستدير وينظر إليها :
" لماذا توقفت عن المسير ؟ "
فأجابت " فرانسيس " وهي تبدأ في خلع حذائها لتدعك قدميها المتورمتين :
" لقد تعبت .. نحن نمشي منذ أكثر من ساعة وأنت لم تسمح لي بإستخدام الحصان .. لقد تورمت قدماي ! "
فرد الرجل بإقتضاب ودون أن ينظر إليها أيضاً :
" هاك الحصان .. إستخدميه ! "
وأفلت عنان الجواد من يديه بحركة سريعة .. فتراجع الجواد إلى الخلف حتى حاذي " فرانسيس " .. وكانت " فرانسيس " تهم بإخبار الرجل بحقيقة هامة وهي أنها لا تعرف كيف تركب حصاناً وحدها .. عندما فوجئت بالحصان يقوم بتصرف غريب .. فقد حاذاها حتى صار بجوارها تماماً ثم نخ فجأة وأنحني على قوائمه حتى أصبح بإمكانها إمتطاء ظهره بسهولة .. تعجبت " فرانسيس " كثيراً فلم يسبق لها أن رأت جواداً يقوم بتصرف مماثل .. المهم أن الرحلة غدت أسهل الآن وإن لم يبدو أنها موشكة على الإنتهاء .. ورفيقها كذلك كان صموتاً مملاً حتى عندما حاولت إستدراجه للحديث وسألته عما إذا كانت هذه أول ولادة لزوجته فأجاها برد قاسي غريب .. قال لها بصوته الغريب المخيف :
" وأخر ولادة كذلك !! "
وعند ذلك الحد توقف الحديث بينهما .. والى الأبد !
************
بعد مسيرة طويلة مملة ؛ أستغرقت أكثر من ساعتين ؛ لاح على البعد منزل كبير قائم على صخرة ضخمة مرتفعة تحتل الجانب الأيمن لتل صخري صغير .. كانت الأضواء تشع من باب المنزل نصف المفتوح ومن نوافذه الأمامية .. وعندما صاروا بالقرب من التل أرادت " فرانسيس " أن تهبط من فوق ظهر الحصان لتتسلق التل إذ كانت تعرف إنه لن يستطيع أن يتسلق بها .. ولكن رفيقها الصموت الغريب الأطوار أشار لها إشارة لم تفهمها أشفعها بقوله :
" أبقي كما أنت .. سيتسلق بك " فابيوس " التل ! "
وبالفعل فقد أندفع الحصان برعونة حاملاً " فرانسيس " فوق ظهره .. ووثب بها وثبة جعلت قلبها يهبط في قدميها ليعتلي بها مقدمة صخور التل .. ثم أخذ يتسلق بها التل الوعر المنحدر برشاقة وكأنه فراشة ترقص على الماء !
ووصلوا أخيراً أمام باب المنزل .. فنخ الحصان ثانية ؛ ودون أن يأمره أحد بذلك ؛ وسمح ل" فرانسيس " بالنزول من فوقه .. ثم تراجع وكأنه تمثال إلى الوراء حيث يقف سيده بعيداً عن بقعة الضوء الموجودة أمام الباب .. أبتعلت " فرانسيس " ريقها الذي جف بعد كل ما مرت به الليلة وتبعت الرجل إلى داخل المنزل .. ولكن لم يفتها أن تلاحظ أن الحصان المدعو " فابيوس " قد أختفي تماماً .. ولم يعد له أثر إطلاقاً !
************
دفع الرجل باب المنزل بساقه لينفتح على مصراعيه .. ثم أتجه مباشرة إلى السلم الملتوي الواقع بوسط الرواق الضخم الذي أستقبلهم ومضي يرتقي درجاته بصمت منتظراً من " فرانسيس " أن تتبعه .. وبالفعل فقد تبعته القابلة فوراً .. ولكنها توقفت في منتصف السلم .. كانت تشعر بتعب شديد وظمأ أشد .. وتجاسرت على أن تقول له بصوت مؤدب :
" هل لي بكوب من الماء من فضلك ؟ "
فأجابها الرجل وهو يواصل إرتقاء السلم بهدوء وبرود قائلاً ببرود تام :
" عندما تصلين إلى غرفتها ستجدين الماء موضوعاً بجوار الفراش ! "
************
دخلت " فرانسيس " خلف الرجل الغامض إلى حجرة واسعة كثيراً .. ومؤثثة بأثاث فخم عتيق به كثير من الذهب والفضة .. ولكن الذي آثار دهشة " فرانسيس " هو حجم الغرفة وإتساعها الهائل ، حتى أنها قدرت أنها توازي إتساع ساحة القرية مرة ونصف على الإقل !
كانت الغرفة مضاءة بمجموعات كبيرة من الشموع موضوعة فوق حوامل وشمعدانات ذهبية وفضية يلمع معدنها الثمين بشغف في ظلال أضواء الشموع الذهبية .. وفي الركن الأيسر للغرفة كان هناك سرير ضخم وثير للغاية وكبير للغاية ترقد عليه شابة حسناء ذات شعر أشقر طويل هايش حول وجهها .. وكانت عيني الشابة منتفختين ومحمرتين من أثر البكاء ربما أو الألم .. وكانت تتنفس بصوت عالى سريع وأنفاس متقطعة لاهثة .. فأدركت " فرانسيس " على الفور أنها في حالة وضع وأنهم أستدعوها لأجل مساعدتها في الولادة !
أقتربت " فرانسيس " بحذر من الفراش وهي تحاذر في كل خطوة خوفاً من إتلاف السجادة الضخمة الفاخرة التي تسير عليها أو ترك أقل أثر فوق خيوطها الذهبية اللامعة .. أقتربت " فرانسيس " من الفراش ، ثم أمسكت بيد الشابة وجست نبضها ، ففوجئت بأن نبضها غريب ، سريع جداً جداً وكأنها تركض حول ميدان ( آشبي ) منذ عامين .. تعجبت " فرانسيس " وتركت يد الشابة ثم سألتها برقة وهي تستخدم منديلها لمسح العرق المتكاثر على جبين الشابة :
" هل هذه أول ولادة لك ؟! "
فأجابت الشابة وهي تضحك ضحكة كريهة رغم جمالها الفاتن :
" لا .. إنها المرة الخامسة والستين ! "
ذهلت " فرانسيس " للحظة .. ولكنها لم تلبث أن أبتسمت وقالت للشابة في مرح :
" يبدو أنك تتمنين أن تنجبي خمساً وستينً طفلاً لزوجك ! حسناً .. لنري إن كان بإمكانك تحمل الولادة الأولي فحسب ! "
وأنتبهت " فرانسيس " لوجود إبريق ذهبي ملئ بالماء فوق منضدة صغيرة بجوار الفراش تماماً .. فتناولته بلهفة ومعه كوب زجاجي بللوري براق موضوع بجواره ولم تشعر بالراحة ولا السعادة .. لا بعد أن تناولت ثلاثة أكواب متوالية من الماء لتطفئ ظمأها !
************
لم تستغرق عملية الولادة أكثر من دقيقتين أثنتين !
فبمجرد أن صارت يدي " فرانسيس " داخل رحم الشابة حتى أنزلق الوليد من بين يديها وكأنه ذئبق !
ذهلت القابلة المتمرسة لذلك .. وأخرجت يديها لتفاجأ بأنهما نظيفتين تماماً وغير ملطختين بالدماء ولا يعلق بهما أي شيء !
أبتلعت القابلة ريقها بصعوبة بالغة ورفعت يديها وأخذت تتفرس فيهما بدهشة عارمة وهي تقلبهما وتعدلهما وتضغط على عينيها وتبربش بهما خشية أن تكون في حلم أو تكون قد أصابها العمي !
وصرفتها دهشتها للحظة عن الوليد الذي يلبط بين ساقي أمه .. فأمسكت به ورفعته بيديها لتجد غلاماً بالغ الصغر لم تري مثل جماله من قبل .. ولكنه نظيف تماماً ولا يعلق به أي شيء من مخلفات الرحم !
كادت " فرانسيس " تصاب بالجنون .. ولكن عقلها وحكمتها التي طالما تمتعت بها وأثني عليها الناس هدتها إلى أن تحاول الفرار من هذا المكان فوراً .. فلتلقي بالوليد لأبيه ولتفر بجلدها فوراً .. لا والله ولا حتى الأجر تريده منهم !
حملت " فرانسيس " الوليد دون أن تجرؤ على النطق بكلمة أو النظر إلى وجه أمه التي غاصت تحت الغطاء .. وغطت وجهها ويبدو أنها راحت في نوم عميق دون حتى أن تحاول إلقاء مجرد نظرة صغيرة على مولودها !
كان هناك عند قدمي الفراش بضعة خرق من أقمشة ملونة صارخة الألوان قدرت " فرانسيس " أنهم أعدوها للف الغلام بها .. فقامت بلف الصغير بها ببراعة ثم حملته لتقدمه إلى أبيه !
************
كان الرجل الغامض ما زال في الردهة خارج غرفة زوجته جالساً على مقعد ضخم هزاز أمام مدفأة حجرية تتلظي فيها نيران حمراء كالجحيم نفسه !
أقتربت منه القابلة بحذر وخوف وقالت له بصوت مرتعش خوفاً واضطراباً :
" ها هو ابنك يا سيدي .. إنه غلام ! "
هنا نهض الرجل من فوق المقعد .. كان ما يزال يرتدي قبعته المائلة على عينيه مخفياً ثلثي وجهه .. شعرت " فرانسيس " بالذعر عندما صار على بعد خطوة منها .. ولكنها مد يده في جيبه وأخرج بدرة مكتنزة طوحها لها في الهواء .. فسقطت فوق مهد الطفل وأنفك رباطها وتناثرت منها قطع ذهبية براقة تغشي الأبصار !
ثم مد يده وتناول منها الطفل بهدوء .. سعدت " فرانسيس " لأن الرجل ؛ لأول مرة منذ أن رأت وجهه ؛ يقوم بتصرف طبيعي .. حمل الرجل الطفل بين يديه برقة متناهية وتأمل وجهه الجميل الصغير لحظات .. ثم أبتسم بإستهانة وقال بصوت غريب عميق ذو صدي :
" غلام جميل ! لوكان لدي وقت لأبقيته حياً .. ولكنني للأسف مشغول الآن ! "
ولم يكد ينته من قوله حتى .. فجأة .. وبدون مقدمات .. طوح بالمهد في الهواء فسقط في المدفأة !
صرخت " فرانسيس " وتراجعت إلى الوراء وعيناها اللتين عجزت عن إغلاقهما تتابعان الطفل الذي سقط وسط النيران المتأججة .. فذابت خرق الأقمشة المحيطة به في لمح البصر .. ثم أخذ الغلام ؛ الذي صدرت منه صرخة هائلة ؛ يذوب ويذوب وسط النيران .. وكأنه تمثال من الشمع الطري .. حتى أختفي تماماً !
************
أخذت " فرانسيس إجلاتيون " تعدو وتعدوكالنمر الجامح محاولة الإبتعاد لأقصي مسافة ممكنة عن هذا البيت الملعون ..
" شياطين .. لابد أنهم شياطين يسكنون هذا البيت ! "
قالت " فرانسيس " مذعورة وهي تجري بجنون وسط الغابات والبراري المليئة بالضباب وقلبها يدق خوفاً وذعراً .. وكان خوفها أن يلحق بها ذلك الرجل الشيطان .. فأخذت تبكي خوفاً وتدعو الله قائلة :
" إنقذني يا إلهي .. إنقذني ! بحق يسوع إنقذني منهم ! "
وأخذت " فرانسيس " تجري وتجري وتجري حتى كاد قلبها يتوقف .. ولكنها تحاملت على نفسها وأستمرت في الجري حتى لم تعد قادرة على المقاومة بعد .. وحتى لم تعد قدماها قادرتين على أن تحملاها بعد ذلك .. فأحست بهبوط مفاجئ وضاق صدرها فجأة وشعرت بأنفاسها كسكين يمزق رئتيها .. فتهاوت فاقدة الوعي .. ولم تكن قد أبتعدت أكثر من ألف متر عن منزل الشياطين !
************
فتحت " فرانسيس إجلاتيون " عينيها ببطء لتجد نفسها راقدة وسط فراشها وأمها إلى جوارها تتحسسها بيديها لتطمئن عليها .. كانت ذكريات الليلة الماضية السوداء ما زالت ماثلة أمامها وكأنها لا زالت تعيشها .. ولكنها حمدت الله على أنه استجاب لدعائها وأنقذها .. لم تكد أم " فرانسيس " تحس بحركتها وعودتها لوعيها .. حتى ظهر البشر والفرح على ملامح وجهها المغضن الطيب ومدت يدها لتمسد على شعر أبنتها بحنان وقالت لها بلهفة :
" فرانسيس .. فرانسيس طفلتي .. هل عدت لوعيك .. هل أنت بخير ؟! "
فأجابت القابلة بتعلثم وهي تبتلع ريقها بصعوبة :
" نعم يا أمي .. أنا بخير ، اطمئني "
فسألتها أمها بقلق :
" ماذا حدث يا بنيتي ؟! لقد وجدك " سيمون " الحطاب ملقاة بالقرب من الغابة فاقدة الوعي في الصباح ! "
ففهمت " فرانسيس " كيف عادت إلى منزلها .. ولكنها لم تفهم بعد كيف أفلتت من قبضة الشياطين الذين شاء سوء حظها أن تقضي الليلة الماضية برفقتهم .. على أنها ؛ حتى وهي في قمة حالة الإضطراب هذه ؛ كانت قد عزمت على ألا تخبر أمها بشئ مما حدث الليلة الماضية !
************
بعد ثلاثة أيام وفي وضح النهار كانت " فرانسيس إجلاتيون " والقس " إدموند هارجودار " راعي الكنيسة يمتطيان ظهر جوادين أقترضهما القس من صديقه الحوذي " إدجار " في طريقهما إلى البراري !
أستمرت المسيرة نحو ساعتين كان القس خلالهما يطلب من " فرانسيس " ويذكرها دائماً بأن تكون يقظة وتلاحظ علامات الطريق بدقة لئلا يفقدا طريقهما ويضلا وسط البراري الواسعة التي لا نهاية لها !
كانت " فرانسيس " قد لجأت إلى القس الطيب وصارحته بما حدث معها راجية إياه أن يساعدها في التأكد أن ما مر بها في تلك الليلة المشئومة كان حقيقياً وليس مجرد كابوس أو هذيان .. بالحقيقة كانت القابلة تخشي أن تكون قد أصيبت بالجنون فأردات أن تعود للمكان المشئوم لا لشئ إلا للتأكد من سلامة عقلها .. وأن المنزل موجود بالفعل !
وبالفعل وبعد مرور نصف ساعة إضافية لاح لهما ؛ من بعد ؛ المنزل العتيق رابضاً فوق التل .. إنه هو نفس المنزل .. بضخامته وواجهته الغريبة ونوافذة الأمامية الضخمة !
تنفست " فرانسيس " الصعداء ووضعت يدها على صدرها من فرط الإثارة .. وأشارت إلى الأب " إدموند " بيدها إلى المنزل قائلة :
" ها هو ذا المنزل يا أبتي !"
فهز القس رأسه ثم واصلا التقدم نحو المنزل .. ولكنهما عندما وصلا أمام التل بالضبط صُدمت " فرانسيس " !
فالمنزل يبدو مهجوراً تماماً !
واجهته ونوافذه محطمة .. وبابه مهشم ونوافذه زجاجها مكسور ومعتم وقذر !
أبتعلت " فرانسيس " ريقها بصوت مسموع جعل القسيس يلتفت لينظر إليها في قلق بالغ ..
فها هو المنزل .. ولكنه مهجور تماماً .. مهجور بشكل واضح حتى للأعمي نفسه !
أصاب القلق القسيس وشعر بأنه يمضي مع القابلة الطيبة إلى ما هو أكثر من الجنون .. إلى فخ شيطاني مخيف ولكنه عزم ألا يتخلي عن المرأة الطيبة .. ولم يفعل !
أقترب القس " هاجودار " من " فرانسيس " وربت على كتفها مطمئناً وقال لها :
" لنتسلق التل ونقترب أكثر لنري أفضل ! "
ولما وجدها واقفة متصلبة في مكانها شبه عاجزة عن الحركة كرر لها بهدوء :
" لنتسلق التل ونقترب أكثر لنري أفضل .. هيا يا بنيتي !"
وأمسك القس الطيب بيد " فرانسيس " وقادها نحو التل ..
ورغم كبر سن القس إلا أنه بذل جهداً مضنياً ليتمكن من تسلق هذا التل الوعر المنحدر .. بل وساعد " فرانسيس " نفسها على التسلق وأنقذها من السقوط أكثر من مرة ..
المهم أنه بعد ساعة من المحاولات الشاقة والتراجع وتكرار السقوط وصل الرفيقان أمام المنزل اللعين مباشرة !
كان باب المنزل محطماً وخشبه شبه مفتت .. ولكن كان هناك لوحين متقاطعين من الخشب مثبتين بمسامير صدئة كبيرة يغلقان الباب ويمنعان فتحه ..
نظر الأب " هارجودار " إلى اللوحين الخشبيين وتأملهما طويلاً .. ثم ظهرت عليه علامات القلق وخيبة الأمل .. وفي صمت أشار ل" فرانسيس " إلى العلامات التي تركها لوحي الخشب على الباب الأصلي والخطوط الخضراء والأتربة الغزيزة المحيطة باللوحين والتي تؤكد أن هذين اللوحين لم يُنتزعا من مكانهما منذ سنوات طويلة !
كان لرؤية هذه العلامات والدلائل وقع الصاعقة على " فرانسيس " ..
فشعرت بصدمة هائلة جعلتها تترنح وكادت تسقط على الأرض .. ولكن الأب " هارجودار " أسرع بنجدتها .. فمد يديه وتلقاه قبل أن تسقط على الأرض ... وفجأة أصيبت " فرانسيس " بحالة هستيريا هائلة .. بحلقت بعينيها طويلاً في لوحي الخشب والعلامات المحيطة بهما .. ثم أخذت تضرب الباب بقبضتيها وتصرخ بجنون وبعد ثانيتين بلغت بها حالة الإهتياج مبلغها .. فأخذت تركل الباب العملاق بقدمها وتدق عليه بكل ما أوتيت من قوة .. حتى تفجر الدم من يديها وأصابها إعياء جعلها تكاد تسقط على الأرض .. وبالفعل كانت القابلة مهيأة في هذه الساعة للسقوط والموت كمداً والإصابة بالجنون .. لولا القس الطيب " هارجودار " الذي تلقاها بين يديه وحماها من السقوط .. وقرب موعد الغروب عاد راعي الكنيسة إلى القرية بصحبة " فرانسيس إجلاتيون " التي لا تكاد قدماها تحملانها !


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.