البابا تواضروس يصلي عشية عيد القديس الأنبا أبرآم بديره بالفيوم    نقيب الصحفيين: لابد من إصدار قانون حرية المعلومات والمستشار محمود فوزى: محل توافق    "صحة الشيوخ" توصي بوضع ضوابط وظيفية محددة لخريجي كليات العلوم الصحية    نقيب الصحفيين: نحتاج زيادة البدل من 20 إلى 25% والقيمة ليست كبيرة    الآن يرتفع في 8 بنوك.. سعر الدولار الرسمي أمام الجنيه المصري اليوم الإثنين 10 يونيو 2024    محافظ جنوب سيناء يعتمد المخطط التفصيلي للمنطقة الصناعية بأبو زنيمة    الحج السياحي | 1298 شركة تتنافس لتقديم خدمات مميزة للحجاج    أمر ملكى سعودى باستضافة 1000 حاج من ذوى شهداء ومصابى غزة استثنائياً    قوات الجيش الإسرائيلي تعتقل 4 أطفال فلسطينيين من الخليل والقدس    سقوط 150 شهيدا.. برلمانيون ينددون بمجزرة النصيرات    زعيمة اليمين المتطرف الفرنسية مارين لوبان: مستعدون لتولى السلطة    صافرات الإنذار تدوى فى عكا وبلدات عدة شمالى إسرائيل    القنوات المفتوحة الناقلة لمباراة منتخب مصر.. معلق وتاريخ مواجهات ونتائج الفريقين    ضياء السيد: عدم وجود ظهير أيسر في منتخب مصر «كارثة»    رئيس منظمة مكافحة المنشطات يكشف آخر مستجدات رمضان صبحي: يخضع للتحقيق    اتحاد الكرة يكشف تطورات أزمة مستحقات فيتوريا    استعدادا ل«يورو 2024».. سلوفاكيا تكتسح ويلز برباعية وديا    حقيقة اقتراب مروان عطية من الدوري السعودي    منتخب فرنسا يسقط في فخ التعادل مع كندا    مجدي عبد الغني: الفوز على غينيا لا يُقرب الفراعنة من التأهل لكأس العالم    بالأسماء.. إصابة 14 شخصا في انفجار أنبوبة بوتاجاز بالمنيا    مقتل مزارع على يد ابن عمه بالفيوم بسبب الخلاف على بناء سور    برقم الجلوس.. رابط نتيجة الشهادة الإعدادية الترم الثاني محافظة الفيوم (استعلم الآن)    خبير تربوى يقدم نصائح لطلاب الثانوية: نم مبكرا وابتعد عمن يبثون طاقات سلبية    بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم الإثنين: هدوء ما قبل الموجة الحارة (تفاصيل)    «مصطفى مش متحرش».. مفاجأة في نص أقوال الفنانة هلا السعيد بواقعة «سائق أوبر» (مستند)    «بعد قلم عمرو دياب».. عمر كمال ينشر فيديو ساخر لطريقة تعامل الفنانين مع الجمهور    عمرو الفقي: المؤسسات العالمية نقلت عن القاهرة الإخبارية تغطيتها لأحداث غزة    لميس الحديدي تعلن إصابتها بمرض السرطان منذ 10 سنوات.. التفاصيل    عمرو الفقي: نخطط للاستثمار في السينمات و80% من إيراداتها تخص 13 سينما فقط    القطاع الديني بالشركة المتحدة يوضح المميزات الجديدة لتطبيق "مصر قرآن كريم"    المستشار محمود فوزي: أداء القاهرة الإخبارية مهني والصوت المصري حاضر دائما    حلو الكلام.. إنَّني أرقص دائمًا    «بنضم للمنتخب عشان صاحب صلاح؟».. عمر جابر يخرج عن صمته بتعليق ناري    دعاء تيسير الامتحان.. «رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري»    تعرف على فضل مكة المكرمة وسبب تسميتها ب«أم القرى»    عوض تاج الدين: الجينوم المصرى مشروع عملاق يدعمه الرئيس السيسى بشكل كبير    مصر في 24 ساعة| لميس الحديدي: أصيبت بالسرطان منذ 10 سنوات.. وأحمد موسى يكشف ملامح الحكومة الجديدة    شعبة الدواجن: حرارة الجو السبب في ارتفاع أسعارها الأيام الماضية    بعد وفاة 40 مواطن لارتفاع الحرارة.. نائبة تطالب بوقف تخفيف الأحمال في أسوان    لميس الحديدي تكشف تفاصيل تهديدها بالقتل في عهد الإخوان    انتحار مديرة مدرسة بحبة حفظ الغلال بالمنوفية    الكويت وقطر تبحثان القضايا الإقليمية والدولية والحرب على غزة    50 مليون جنيه سنويًا.. حوار بين خالد البلشي وضياء رشوان حول زيادة بدل الصحفيين    قنصلية فرنسا تطلق مشروع الاقتصاد الدائري بدعم الاتحاد الأوروبي    كوريا الجنوبية تستأنف البث الدعائي ضد حملة "بالونات القمامة" لكوريا الشمالية    محافظ المنوفية يفتتح أعمال تطوير النصب التذكاري بالباحور    "ابدأ": 70% من المشكلات التي تواجه المصنعين تدور حول التراخيص وتقنين الأوضاع    مصرع طفل في حريق سوبر ماركت بالفيوم    دعاء وفضل العشر الأوائل من ذي الحجة    الأول على الإعدادية الأزهرية بالإسماعيلية: مثلي الأعلى عمي وأتمنى أن أصبح طبيبا للقلب (فيديو)    العاهل الأردني: صمدنا في مواجهة التحديات بالعزيمة والصبر    الكشف على 1346 مواطنا بقافلة طبية مجانية بقراقص في دمنهور    الإفتاء توضح أعمال الحجّ: اليوم التاسع من ذي الحجة "الوقوف بعرفة"    الطالبات يتصدرن.. «أزهر المنيا» تعلن أسماء أوائل الشهادة الإعدادية 2024    زيادة أكثر من 200 جنيه، ارتفاع سعر دواء شهير لعلاج مرضى الصرع    كم عدد أيام التشريق وحكم صيامها؟.. تبدأ من مبيت الحجاج بمنى    بشرى سارة بشأن توافر نواقص الأدوية بعد عيد الأضحى.. فيديو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بنت مدارس
نشر في أخبار الأدب يوم 15 - 05 - 2010

فوجيء سكان الشارع ذات صباح برجل غريب يتفقد بيت المعلم سعد الله، ثم علموا بعد ذلك انه اشتراه.
مسكين المعلم سعد الله!..
أين ذهب؟..
ولماذا باع البيت؟..
ولماذا ارتضي هذا الثمن؟..
فقد علم سكان الشارع انه باع البيت بأبخس الاثمان ولم يكن أحد من سكان الشارع يعرف جوابا علي هذه الاسئلة حتي ولا الرجل الطيب ابراهيم الأيوبي صديق المعلم سعدالله، وان كان قد خمن وهو يستعرض قصة المعلم سعدالله في المقهي انه ربما ارتحل الي بعيد، الي بلده في الصعيد الجواني، لينسي الفضيحة التي هزت اعماقه بعد ان شاب وبلغ الستين.
وكان الجمع الذي احتشد في المقهي ذلك المساء يعرف فضيحة المعلم سعدالله، سواء الذين يعرفونه، والذين يسمعون به فقط.. فقد كان فضيحة تملأ الجو، وكانت حديث كل مجلس في الشارع، وفي الحي، وفي أحياء اخري مجاورة.
وأصل الحكاية ان المعلم سعدالله تزوج، والزواج ليس عيبا وليس بدعة، وليس مما يغضب الله، وهو قادر علي الزواج.. رغم انه بلغ الستين، فهو يحس في نفسه بفوران الشباب يعود اليه من جديد، وهو يشعر في أعماقه بأنه مرهق وهو علي استعداد تام لأن يسعد امرأة، يسعدها بقوته ويسعدها بماله، فهو ايضا غني.. والحمد لله.
صحيح أن المسألة بايخة ومستنكرة، وصحيح ايضا انه أب لشبان كالعجول بعضهم لم يدخل دنيا بعد، وصحيح مرة اخري انه جد، وانه زوج وله زوجة، ولكن هل هي حقا زوجة، وهل في الامكان ضمها الي صف النساء.
لقد تزوجها منذ اربعين عاما مضت يوم ان كان حافي القدمين يصارع بذراعه في سوق السمك، ويوم تزوجها لم يشعر يومها فقط انه أضاف قيدا جديدا الي قيوده، ثم مالبثت ان شاخت وهرمت ثم جفت فأصبحت مثل عود الحطب الجاف.
ونشف ريقه وتمزق كبده، وتحطم قلبه قبل ان يتمكن من الوقوف علي قدميه ويصبح المعلم سعدالله. ولم يجد وسيلة سوي الكأس ليغرق فيه همومه ويدفن فيه احزانه، ولكنه لم يغفل ابدا عن حقيقة ما بنفسه، وكان أكثر ما ينيره في الحياة منظر فتيات المدارس، وكان أحيانا عندما يسرف في الشراب يتخيل نفسه ملكا فيدخل مدرسة بنات ويأمر باغلاق الأبواب عليه، ثم يصنع ما كان يصنعه هارون الرشيد في حريمه.
وكان الوحيد الذي يعرف ما يدور في أعماقه هو ابراهيم الأيوبي، وفي الليالي التي كان يسر فيها لابراهيم بما يساوره من أفكار، كان الأيوبي يضحك كثيرا وهو يجرع الكأس ويقول وهو لايزال يضحك:
-وتقدر عليهم يامعلم سعدالله؟..
وتهتز الكأس في يد المعلم وهو يجيب عن حزن شديد:
-ولو يومين ياصاحبي، نعوض اللي فاتنا..
كانت هذه أحلاما، ولكنه الآن يريد أن يترجم أحلامه الي واقع، وهو يعرف ما يريد تماما، المال عنده بلا حساب والقوة يشعر بها في نفسه كأنه أسد، والبنت التي يريدها يعرفها جيدا ويكاد يجن بها، ولا احد يعرف سره سواه.
والبنت لطيفة وظريفة وفي شكل القطة، وهو أحياناً يراها في زي بنات المدارس، وهي ربما في السادسة عشرة، وربما في السابعة عشرة، ولكنها ابدا لاتزيد.. واحلامه يمكن ترجمتها بسهولة.. ابوها الأسطي بيومي النجار، وهو رجل المعلم سعدالله، بل ان الموضوع سيكون بالنسبة له فخرا ما بعده افتخار..
وتوكل المعلم سعدالله علي الذي لاينام وفاتح الأسطي بيومي.. وشاعت السعادة في وجه الرجل وهو يستمع للمعلم.. يحدثه في خجل ولم تنفض الجلسة الا وقد اتفقا علي المهر وعلي الموعد.. وكل شيء سيتم علي سنة الله ورسوله، والزواج قسمة ونصيب، وهذه قسمة البنت، والخيرة فيما اختاره الله.. هكذا قال الأسطي بيومي للمعلم سعدالله، وهكذا أيضاً راح يحدث نفسه وهو في طريقه الي البيت، واصابعه العشرة تقبض علي لفافة ضخمة من السمك الممتاز..
وسرح الأسطي بيومي كثيرا وهو يتململ فوق فراشه تلك الليلة، هل هو مصيب؟ هل هو مخطيء؟ هل هو خسران؟ هل هو كسبان؟ وربما فكر في أشياء اخري كثيرة، في المعلم سعدالله، في الأعوام الستين التي سلخها في كفاح مرير هد قواه وانهكه. وفي الأعوام القليلة التي ربما عاشها، ثم يصبح كل شيء فجأة للأسطي بيومي وبنته وابنها.
واسبوع طويل مضي بعد ذلك والبنت لا تنقطع عن البكاء، انها لاترفض ولا تقبل، ولكنها تبكي فقط، فهي تخيلت كثيرا في أحلامها عرسانا من كل نوع، تخيلت ضابطا وعسكرياً وطالباً وأفندي موظف، وحتي النجار الشاب الذي يعمل مع ابيها، ولكنها ابدا لم تتخيل هذا العجوز السكير.. المعلم سعدالله.
وتذكرت البنت كل المرات التي التقت فيها به، وعيناه المحمرتان الذابلتان المتحركتان دائماً كأنهما عينا ثعبان، وسعاله الدائم الخشن المتكسر، وأسنانه الصفراء المتآكلة ووجهه ذو اللحية المشعثة والندوب.
حظ أغبر.. ولكن لا مناص، وحكم بالاعدام لاسبيل الي نقضه بأية حال، فالأب راض كل الرضا، والأم تسجد لله شكرا، وكل من في البيت مبتهج كأنه عثر علي كنز!
وشهد الشارع فرحا.. ولا كل الأفراح.. وسهر الحي حتي الفجر، ورقصت الغوازي حتي داخت، وانتشرت رائحة الحشيش في الحي حلوة كالمسك وأفرغ الناس في حلوقهم مئات الزجاجات، وأنفق المعلم سعدالله عدة مئات في تلك الليلة.
وعندما خلا البيت الا منه وعروسه كانت الشمس تتسلق الأفق، وهو يحس في نفسه اعياء من اثر الخمر، وصداعا يسحق عظام رأسه من أثر الضجة وحمي شديدة تلهب جسمه.
واقتحم الحجرة يتلمظ كأنه وحش، ولكنه أفاق حين وجد البنت نائمة، ووجهها أصفر لم تستطع الأصباغ أن تخفي اصفراره، ومد يده اليها فهزها بعنف، ولكنه لم يظفر منها بجواب فتسلق السرير وجلس علي حافته يدعك في ساقيه وفخذيه ويسعل سعالا متقطعا، ويختلس النظر اليها أحيانا وفي حركات خاطفة. ثم فجأة ألقي بنفسه عليها واحتضنها بشدة، وكانت مفاجأة شديدة له حين أفاقت البنت مذعورة وابتعدت عنه متكورة حول نفسها في ركن بعيد، وايقن المعلم سعدالله انها لم تكن ابدا نائمة وانها تتصنع النوم لتبعده عنها، فنظر اليها نظرة ماكرة، وابتسم ابتسامة بلهاء. ربما هي مذعورة لانه يومها الأول، وهو يسمع أن البنات تخشي هذا اليوم كأنه يوم حساب، وان كان هو لم يجرب ذلك علي الاطلاق.
وارتاح المعلم سعدالله الي هذا التفسير، وكان الارهاق قد استبد به فانقلب علي جنبه وراح يغط في نوم عميق، وشخيره يتصاعد كأنه حشرجة ميت.
استيقظ المعلم بعد الظهر بقليل، فأكل لقمة وصلي ركعتين ثم جلس بجوار الراديو وفتح زجاجة كونياك ونادي علي زوجته فاجابت علي ندائه وهي في مكانها ثم كرر النداء. ولكنها لم تتحرك ولم تظهر وسكت هو اخر الأمر، وراح يشرب كأساً وراء كأس ويسلي نفسه بما في الراديو من ضحيج يسميه المذيع موسيقي، وهو لايفهم لها معني ولايري فائدة من تصديع الناس بها.
وعندما انتهي من الزجاجة كانت الشمس تنحدر خلف الأفق ونسمات طرية تهب من النافذة، والجو رايق وعال، والوقت مناسب جدا ليبدأ جولته، ونهض المعلم وغادر مكانه الي الداخل كانت البنت منكفئة علي وجهها فوق الكنبة، وأدرك المعلم عندما اقترب منها انها تبكي في صوت مكتوم، ووقف هو علي رأسها يمسح علي شعرها في حنان، ثم سألها في رفق شديد..
-بتعيطي ليه؟
ولما لم تجبه علي سؤاله، رفع يده عن شعرها، وجلس علي الكنبة المقابلة، واعاد عليها سؤاله في شيء من الغلظة.
-لزوم البكا ايه دلوقت؟
وأجابت اخيرا في صوت رفيع تخنقه العبرات.
-مافيش حاجة.
-فيه حاجة ناقصه يابنت الحلال؟
-لأ.. مافيش حاجة.
-امال ايه لزوم البكا، السمن عندك، والعيش عندك، والفلوس كتيرة والحمد لله، يبقي ايه لزوم البكا.
وعاد صوت الفتاة الرفيع المخنوق بالعبرات يكرر نفس العبارة..
-لأ.. مافيش حاجة..
وعلي الفور نهض المعلم من مكانه وقال وهو يغتصب ضحكة ماتت قبل ان تحتل مكانها علي شفتيه.
-طيب قومي معايا..
ومد يده فجذبها من ذراعها، ولكنها تشبثت بمكانها وانتزعت ذراعها بقسوة من يده، واستفزته هذه الحركة فبان الغضب علي وجهه، ولكنه جاهد كثيرا حتي سيطر علي نفسه، وبدا وكأنه غير مكترث لما يحدث.
-طيب قومي معايا وخليكي عاقله، قومي بس.
وانخرطت البنت في بكاء عنيف اهتز له جسدها كله اهتزازا شديدا، ومد المعلم يده في حركة عصبية بالغة فجذبها من شعرها والقي بها علي الأرض فوق ظهرها.
وصدم المعلم سعدالله، فقد كانت عيناها متورمتين حمراوين في لون الدم، وكان وجهها كله غريبا لم يكن هو الذي يعرفه حتي الأمس، ولم يتمالك المعلم نفسه، ولأول مرة يرتفع صراخه.
-حلوه دي، أنا جايبك تعيطي، أنا ماعنديش حد يعيط، انا ادبحك وآكل لحمتك نية..
ورفع يده وصفعها صفعة قوية وبقسوة شديدة وحقد لامثيل له، ثم هرول نحو الباب وخرج.
لم يكن أحد من الجيران يدري بشيء مما يدور داخل شقة المعلم سعدالله الا حين رفع صوته، ورنت صفعته علي وجه زوجته. ولقد اندفعت اكثر من امرأة نحو الباب وطرقته بشدة بعد خروج المعلم، ولكن البنت التي بالداخل لم تنهض من مكانها ولم تفتح لأحد.. وتحدث الناس في همس أول الأمر، ثم ارتفع لغطهم بعد ذلك.
وامتدت الرقاب خارج النوافذ تحكي ما حدث، واضاف البعض عيها ما جاء به خيالهم وحذف البعض منها ما رأوا انه لايفيد، واتجهت تعليقاتهم واتجاهات شتي متنافرة.
-دا راجل شايب وعايب.
-دي من دور عيال عياله
-يمكن كانت بتحب.
-ماهو بنات اليومين دول مقصوفين الرقبة.
ونام الشارع، وهو يتوقع أحداثا جديدة في الغد..
عندما عاد المعلم سعدالله الي المنزل كان الوقت متأخرا. ورائحة الخمر تفوح منه وتسبقه، يخطو خطوة، ويسقط بعدها، ثم ينهض في صعوبة ليعاود السير من جديد، وكان قد أمضي وقته كله يشرب في نفس المكان الذي اعتاد الشرب فيه عمره كله. وبدا تلك الليلة واجما يائسا لم يتكلم ولم يثرثر كعادته ظل يفرغ الكأس تلو الكأس في جوفه في حركات عصبية، وتهامس الذين كانوا حوله في سخرية لادعة:
-المعلم بيستعد للمعركة.
-ربنا يعينه.
-دا الي هيفتح عكا.
-بكره يغير اسمه، ويبقي المعلم نابليون..
وعندما وصل اليه بعض الهمس ظن انهم يعرفون مأساته.
وفكر في طريقة ليعالج الموقف، هل يحطم الكؤوس والزجاجات علي رؤوس الجميع؟ هل يضرب رأسه في الحائط؟ أم ينسحب في هدوء ثم وجد في النهاية ان الانسحاب خير طريقة، فافرغ الكأس الأخيرة وانسحب..
وعندما راح يصعد السلالم في اعياء لعن في سره هذا الزواج المشئوم.. سيجلب عليه الفضيحة والعار، وسيكون سببا في تحطيمه، ولكنه عندما دخل الشقة نسي كل شيء الا التي تزوجها ليستمتع بها، ووقف برهة في الصالة واضاء النور وخلع نعليه، وجري وثبا الي الداخل، والقي نظرة علي السرير فالقاه فارغا، وخفق قلبه بعنف، هل هربت؟ أم خرجت لتقتل نفسها وصرخ كالمجنون وهو يجري في انحاء البيت، ويصطدم أثناء جريه بالمقاعد والموائد والآنية. واطمأنت نفسه عندما وجدها تفترش الأرض في حجرة الجلوس وقد تعري نصفها، ووقف ينظر اليها وهو يلهث كالكلب، ويبتلع ريقه في صعوبة بالغة، وجلس عند رأسها وراح يوقظها بلكزات حادة من أصابعه، عندما افاقت نهض خارجا بعد ان طلب منها ان تعد عشاءه. واحس بالخمر تلهب بطنه وتخنقه فاتجه نحو النافذة وفتحها، وأحس بحركة غريبة خلف النافذة المواجهة، فأعاد اغلاق النافذة من جديد وجلس في صمت يفكر في هذا الذي شعر به يدور خلف النافذة.. هل هو شاب وسيم؟ ولماذا اختارت هي النوم هنا؟ انه لم يصبح اضحوكة الناس فقط، انه اصبح قوادا وستنبت له قرون في رأسه غدا.
لم يبق الا هذا يا معلم سعدالله، وبعد هذا العمر الطويل، ولكن عزاءه انه قادر علي قتل هذه البنت المفعوصة الدايخة، وقادر علي ان يشرب من دمها، ولكن كل شيء وله اوان، كفاه انه التقط طرف الخيط، وعما قريب سيصل الي نهايته.
وافاق من تخيلاته المحمومة علي الطعام معدا علي المائدة، ونظر المعلم علي الأطباق المرصوصة، ثم جز علي أسنانه وطوح بها في شدة فألقي بها حطاما علي الأرض، واقبلت البنت مذعورة وكان المعلم يرتجف وحلقه المفتوح كأنه باب مقبرة تسده عشرات الكلمات التي راح يقذفها كالحمم.
-دا ترتيب ناس معلمين، دا نظام شحاتين، انا راجل نزيه في لقمتي، احب لقمة نضيفه.. انا ليه خمسة جنيه كل يوم مصاريف عشان مزاجي، فاهمه عشان مزاجي.
وتراجعت البنت مذعورة الي الخلف.. وهدأ المعلم وهدأت ثورته ولكنه عاد فنظر اليها نظرة حادة، وقال وهو يشير الي ثيابها.
-ايه اللي انت لابساه دا، انت راحة تمسحي البلاط والا ايه، انا الشغل دا مش عاوزه، اللهم طولك ياروح.
ونهض مسرعا واتجه نحوها، وهم بأن يقبض علي عنقها، فتراجعت الي الخلف وفرت مذعورة الي دورة المياه واغلقتها علي نفسها واحتمت بها ووقف المعلم كالمجنون وسط الصالة وعيناه تقدحان شررا، وجسمه كله ينتفض، وقال لها متوعدا بصوت كالرعد:
-طيب علي الطلاق مانا ماشي من هنا، وراح اشوف هاتيجي والا لأ..
ومضت فترة صمت لم يتلق فيها جوابا علي وعيده، فأعاد التحذير مرة اخري وثالثة ورابعة. وعندما ادرك انه لا جدوي من تهديده، اندفع نحو الباب بأقصي قوة يريد تحطيمه، وخافت الفتاة ان ينجح في تحطيم الباب، وتوهمت انه لا محالة قاتلها في الحال، فصرخت تطلب النجدة، وتدافع الجيران نحو الباب الخارجي، وراحوا يطرقونه بعنف، ثم حاولوا تحطيمه ورأي المعلم انه من الخير مواجهة الجماهير المحتشدة عند الباب قبل ان يصفي حسابه، وتقدم بخطي ثابتة نحو الباب، وفتحه في اعتداد وغرور.. وعندما شعر الناس ان الباب سيفتح فعلا، اختفي بعضهم، ونزل البعض الآخر الي تحت، وواجه الموقف قلة كان من بينها امرأة.
وأطل عليهم المعلم سعدالله بسحنة مقلوبة، وتساءل في برود شديد.
-نعم؟!
-ايه الحكاية يامعلم سعدالله؟
-ولا حاجة، راجل ومراته، عرفتو الحكاية.
-ايوه بس..
-بس ايه، حلالي، اضربه، اقتله، انا حر، حلالي وربنا حلله، عاوزين حاجة؟
-طيب، بس الفضايح والدوشة.. و...
-اللي مش عاجبه يعزل.
-طيب وآخرتها؟
-آخرتها سودة، باذن الله.
وعندما طلبت المرأة ان يسمح لها بالدخول لعلها تستطيع اقناع البنت بالخروج، اقسم المعلم بالطلاق من دينه انه لن يسمح لأحد بالدخول ابدا، وانه وحده سيتولي تصفية هذا الحساب:
-ماهو لأعرف آخد حقي من حلالي ليبقي الشنب ده علي واحدة ست.
ثم صفق الباب في وجوههم بشدة، وصاح الناس وهللوا وعندما فتح الباب بعنف مرة اخري، فر الجمهور حتي الذين صمدوا له أول مرة.
وخلا الجو من جديد للمعلم سعدالله، فوقف يصرخ في الصالة متهددا مقصوفة الرقبة بالقتل، وانقلبت المأساة الي مهزلة، وتجمهر الناس في الشارع وقذف بعض الصبية نافذة المعلم سعدالله بالطوب، وصاح البعض الآخر:
-سيب النعجة يا..
ودارت الأرض بالمعلم، فهو سكران، وهذا الصياح يثير اعصابه، وصوت ارتطام الطوب بزجاج النافذة يلهب الدم في عروقه، وهو رغم هذا كله يحس بالرغبة تجتاح جسمه وترهقه، والسبب كله في الفضائح وفي الوكسة العريضة التي حطت عليه هي البنت بنت الأسطي بيومي الجعان بن الجعان.
واندفع المعلم ثائرا الي الباب الذي تختفي البنت خلفه، وراح يدق عليه بقطعة حديد ضخمة يريد تحطيمه، وسحق الذعر قلب البنت وتأكدت من ان النهاية قد حلت، فصرخت بالصوت الحياني، تطلب النجدة، ولما ادركت انه سيتمكن منها قبل ان تصل النجدة هددت بحرق نفسها، وجاء التهديد كدش بارد القي فوق جسد المعلم الثائر، وتراجع الي الخلف يفكر في طريقة لمعالجة الموقف، وظنت البنت انه يستجمع قواه ليقوم بهجوم ساحق يمكنه من غرضه، فعادت تصرخ وتهذيء وتستغيث ثم هدأت هي الأخري وسمع المعلم صوت اشعال كبريت، ورائحة نار.. فجن جنونه، واندفع نحو النافذة ففتحها علي مصراعيها واطل علي الجماهير التي كانت تسد الشارع، وراح المعلم يصرخ بقوة:
-اطلبوا بوليس النجدة، خليكو شاهدين، عاوزه تحرق نفسها وتوديني في داهية..
وانبري له عسكري الداورية الذي كان قد جذبته الضجة.
وتساءل في ثقة:
-ايه العبارة دي؟..
واجابه اكثر من واحد من الذين كانوا يلتفون حوله ولكن لم يفهم شيئا، وهنا أمر الجميع بأن يلزموا الصمت فامتثلوا واعاد سؤاله علي المعلم، وراح الرجل يهذي وهو سكران وهو منهار ومهزوم:
-ولا حاجة، حلالي وعاوز حقي منه، مش عاوزه بنت الدايخة عاوزه تلميذ مسبسب شعره..
ونفش الجندي شاربه وقال وهو سيد الموقف:
-طيب بلاش دوشة احنا بقينا الفجر..
ومال المعلم سعدالله بنصفه الأعلي الي الخارج، وقال في صوت هاديء رقيق:
-انت مش حكومة؟ اديني حقي، انا عاوز حقي من حلالي، انا عوز اعرف حلال والاّ حرام..
واندفع العسكري الي فوق، واندفع خلفه اكثر من واحد واكثر من واحدة، وفتح لهم المعلم سعدالله، واستطاعوا اقناع البنت بفتح الباب، وتركها المعلم مع واحدة من الجيران ودخل الحجرة واغلقها عليه ونام..
وشهد الناس في الصباح الأسطي بيومي يجر زوجته، ثم سمع الناس صراخا في الشقة، وايقنوا ان البنت تنال جزاءها علي يد ابيها، وسمعوا صوته يرتفع بين الحين والحين بنصائح وحكم:
-المعلم سعدالله، الراجل اللي يسوي دهب، دا احنا خدامين خدامينه، واحدة غيرك تبوس ايدها وش وضهر، احمدي ربنا اللي انت في العز ده..
ويبدو ان النصائح لم تفد فقد غادر الأسطي بيومي البيت ومعه زوجته.. وابنته ايضا..
ومضي اسبوع قبل ان يعود الأسطي بيومي مرة اخري الي البيت ومعه زوجته، وجمعوا ملابس البنت ومضوا، وعلم الناس في الشارع ان البنت ماتت محروقة، وقيل انها احرقت نفسها وقيل ان امها هي التي اشعلت النار فيها، ولكن محضر البوليس اكد ان النار اشتعلت فيها قضاء وقدرا.
ومضت الأيام التالية علي المعلم سعدالله عصيبة رهيبة، الحزن يعصر قلبه، والهزيمة تسحق نفسه، والقلق يعذب ضميره، ومع انها ليست أول هزيمة الا انها أكبر مما يستطيع احتماله، وهو عندما كان يلقي الهزيمة والفشل في سوق السمك، كان ينهض مرة اخري ليعاود، وكان دائما ينتصر، ولكنه الآن يحس احساسا مريرا بانه سحق، بانه انتهي، بان النهاية التي انتظرها طويلا وارتعد لها بدنه دائما.. قد دانت.
وتذكر فجأة ام شلبية، الجافة البائسة كعود الحطب، لقد ذهبت بعيدا منذ اليوم الأول لزواجه، كأنما ارادت ان تعلن سخطها وتحتج في صمت، فذهبت الي الصعيد الجواني.
وهو الآن لايقنع بان يدفن همومه، انه يريد ان يدفن نفسه والخمر كانت دائما خير ملجأ للهروب من احزانه، وهو الان لايبرح مكانه في خمارة الخواجا اسحق، حتي الطعام اذا اشتاق اليه فهو يرسل في طلبه وهو مكانه، واحيانا قليلة كان يأكله، وفي اغلب الأحيان، كان يلقي به للكلاب.
ولكن حتي وهو في مكانه في خمارة الخواجا اسحق يجتر احزانه وآلامه. كان جسمه كله ينتفض وعيناه تتسعان كلما مرت به تلميذة من بنات المدارس.. والذي كان يحيره انهن جميعا سواء، ليس بينهن قبيحة، ولا جميلة ولا طويلة ولا قصيرة، يبدو ان شغل المدارس يجعل منهن جميلات ومقبولات.
ولكن الذي يحيره ويغيظه انهن جميعا مخبولات، يردن افندي شعره لامع وشنبه مقصوص، ووجنتاه منتوفتان بالفتلة..
وهو يعرف افندية كثيرين من هذا النوع لايملكون شيئا، والواحد منهم لايكسب عشرة جنيها كاملة في الشهر ويجد من بنات المدارس من تقتل نفسها من اجله..
ظواهر غريبة في هذا الكون ليس لها من تفسير الا في علم الله.. سبحانه.
وهو نفسه يكسب العشرة جنيهات ماهية المستوظف في ليلة ويلعب بالفلوس، ويلعب بالسوق، ويلعب بالرجال، ويرفض افندية مستوظفين ويحرجهم احيانا ويمسح بهم الارض في بعض الاحايين، ورغم هذا كله فهو لايستطيع الاستمتاع بواحدة من بنات المدارس.
حكمة تغيب عن بال أمثاله، ولكن ناس زمان قالوا- فيما قالوه- ان الله سبحانه يعطي بعض الناس شيئا ويحرمهم اشياء. وهو الحمد لله معه الصحة ومعه المال ومعه العمر الطويل ولابد ان حرمانه من هذا النوع من مخلوقات الله تعويض مما اعطاه.
وتجرع المعلم سعدالله كأسا وكؤوسا اخري كثيرة، وتمني بينه وبين نفسه لو يحرم شيئا عزيزا ويستمتع بواحدة من هذا النوع شهرا من عمره، لو سلب بعض المال، او بعض الصحة، او لو فقد عينا وبقيت له الاخري وتمني ما يريد، لصفت الحياة يامعلم سعدالله.. لم يعد يظهر في البيت ولا في الخمارة، ولاعند باب الدكان، وقالوا انه هام علي وجهه في الحياة، وقالوا انه اعتزل الدنيا والناس، وقالوا انه لحق بام شلبية في اعماق الصعيد.
ثم فوجيء الناس بالرجل الغريب ذات صباح يعاين البيت ثم علموا انه اشتراه.
كانت المقهي التي علي رأس الشارع لاتزال مضيئة رغم ان الكل هجروها تلك الساعة، ولم يبق هناك الا الرجل الطيب ابراهيم الأيوبي وثلاثة اخرون من خاصة الصحاب، وكان الصمت قد ران عليهم بعد ان انتهوا من قصة المعلم سعدالله.
وعندما هموا بالنهوض هتف أحدهم:
-الله يمسيه بالخير، كان عاوز يمتع نفسه..
ورد عليه الآخر في حماس:
-وهي دي متعة.. دا شغل جنان..
ثم ران الصمت عليهم وفي أعماقهم كانت ثمة امنية تراود كلا منهم ان يفوز ببنت مدارس، وان يقضي بقية العمر معها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.