ربما كان الخوف من الإيذاء الجسدى هو أكثر ما جعل أعين رفقاء الصبا تنزف كل هذه الكميات الهائلة من الدموع ، فالخوف من الألم نتيجة الضرب أو العقاب كافياً ليجعل أى طفل فى الثامنة من عمره يبكى حتى قبل أن ينال هذا العقاب الذى ينتظره ، لكننى لا أعلم لماذا كانت عيناى الصغيرتان تأبيا دائما أن تجودا ولو بقطرة واحدة من الدمع نتيجة الضرب ، ربما كونى متفوقاً قد جعلنى أتحاشى التعرض له ، لكن لماذا لم أبكى حينما كنت أُعاقب على أخطائى وسذاجتى الطفولية ؟! ، لماذا لم أبكى عندما كان العقاب يلحق بكل تلاميذ الفصل دون تفرقة (من باب الحسنة تخص والسيئة تعمّ) لمجرد خطأ إرتكبه أحدهم ولم تكن لديه الجرأة الكافية ليعترف ؟! أتذكر مدرس الفصل عندما كان ينهرنى أحياناً لعدم بكائى ، ولا يمكن أن أنسى مواقف عديدة كانت تستدعى البكاء والحزن ، فإنهمرت أعين كل من حولى بالدموع لكننى لم أفعل ، و أتذكر أمى عندما كانت تنعتنى قائلة: " انت زى الحجر ، معندكش أى احساس " ، ربما كانت أمى لا تعلم بأن الحجر قد إنفلق لتخرج من بين طياته المياه ،وأن الأحجار أضعف بكثير من أن تصمد فى مواجهة السماء عندما تبكى ليسقط مطرها منهمراً فيحوّل الأحجار إلى فتات ، لكن لأننى لم أكن أملك من الجرأة ما يكفى ومن العلم ما يشجعنى لمعاتبة امى على هذا الوصف .. كنت فقط اكتفى بان أرسم على وجهى صورة عابسة يبدو عليها الحزن المصطنع ، كنت أصمت لعل فى الصمت ما يكفى ليشعر من حولى بأنى حزين . حتى عندما نشب حريق هائل فى منزلنا ، وهرع كل السكان إلى الشارع ، كانت أعين النساء والأطفال تملؤها دموع الحسرة على ما تأكله النيران فى الأعلى ، اعتقدت حينها أنه لا مفر من البكاء مثلهم ، فعدم بكائى جعلنى غريباً فى وسط اخوتى وأبناء الجيران الباكين جميعا ، حاولت أن أذرف دمعة أو اثنتين .. لكن سرعان ما تحول إستجداء البكاء إلى انبهار بسيارة المطافئ التى وصلت لتوها ، إذ كيف لهذا الصندوق الأحمر أن تخرج منه المياه خلال خراطيم طويلة لتندفع بقوة هائلة يمكنها أن تدفع أى إنسان لتسقطه أرضاً ! ، وبّختنى أختى الكبرى لعدم إكتراثى بإحتراق ألعابنا الخشبية فى الأعلى ، لكن لماذا أكترث إذا كانت هى تحرمنى من اللعب بها ؟ ، هى احق بالبكاء منى ، كما ان الانبهار لم يدع لى فرصة كى أفكر فى تلك الألعاب البغيضة . مرّ عمرى سريعاً دون بكاء يُذكر ، كان لدى يقين بأن يوماً ما سيأتى حاملاً لعيونى ما يبكيها ، ربما قد قلّ إنتقاد الآخرين لى على عدم بكائى ، فعدم البكاء هو ما يناسب مرحلتى العمرية ، أنهيت دراستى .. وجدت وظيفة مناسبة .. تزوجت .. أنجبت .. كان بكاء أطفالى وعويلهم يملأ المكان من حولى .. تحقق لى كل شئ كما فى حياة أى إنسان ، بإستثناء أن أب ... ! قصة قصيرة بقلم : أحمد مصطفى الغر