قد تبدو مهمة هذا التحقيق سهلة.. فقط الجلوس مع بعض الأجانب لاحتساء القهوة أو الشاي أو أي ما كان والحديث معهم عن مشاركتهم في أحداث 52 يناير وعما صادفوه طوال هذه الفترة لكننا اكتشفنا أن المهمة أكثر تعقيدا مما تصورنا، وذلك لأن العديد منهم أخبرنا أن سفاراتهم في مصر حذرتهم من الحديث في الموضوع بشكل علني أو إبداء رأيهم، وهو ما يثير العديد من علامات الاستفهام.. قابلنا «إلين» فرنسي الجنسية، يعمل بالقاهرة، كان يتجول داخل الميدان ويبدو عليه الانبهار، سألناه عن سبب تواجده في ميدان التحرير، فقال: «آتي كل جمعة لأتابع ما يحدث، وجئت اليوم لأنني أريد معرفة الشعب المصري هل مازال مهتما بمستقبل الثورة أم لا ؟ ومنذ الوهلة الأولي لحضوري إلي الميدان عرفت الإجابة، فالأعداد كبيرة جدا، وتتزايد، وجميعهم مهتمون بمستقبل ثورتهم،لفت انتباهي وجود أطفال وعائلات، والكل يبدو عليه علامات التغيير والحرية، فهم مازالوا في إطار تغيير بلادهم، وأعتقد أن وجودي في الميدان حدث تاريخي بالنسبة لي سأحكي عنه لأولادي».. يواصل : «أري مصر حرة والناس لديهم الآن حرية، والحرية أصبحت أكثر اتساعا للمرأة المصرية، فهناك مساواة واضحة بين الناس، والكل له هدف يسعي وراءه حتي ولو اختلفت السبل للوصول لهذا الهدف، وأتمني أن تستمر هذه الحرية، وتزداد أكثر بدون قمع للرأي، وأن تصبح الحرية في مصر بلا سقف وبلا حدود». رغم أن السيد «جوناثان» والسيدة «نايسون» البريطانيين في العقد السادس من العمر، إلا أنهما أتيا من المملكة البريطانية ليذهبا إلي غزة، ومرا علي القاهرة صدفة،«جوناثان» قال لنا : «جئت إلي مصر لكي أتمكن من المرور إلي غزة عبر معبر رفح ومعي شريكتي، فنحن نمتلك مشروعا مهما داخل غزةالمحتلة، وتقدمنا بأوراقنا أمس للسماح لنا بالعبور إلي غزة عبر المعبر، لكن السلطات المصرية رفضت ذلك، وعندها دعاني أحد الأصدقاء للعودة إلي القاهرة والذهاب إلي ميدان التحرير لأري شيئا تاريخيا يحدث الآن وهو ثورة الشعب المصري أكبر الشعوب العربية وأهمها، أحببت البقاء لأراها».. وأضاف : « لا أملك الآن صورة واضحة أستطيع من خلالها تقييم ما يحدث في مصر، ولكن ما آثار دهشتي أنني رأيت الثورة منتشرة بين جميع طوائف الشعب المصري وفي عدة أماكن أكثر مما تخيلت بكثير، وهذه الثورة تؤثر بشكل كبير في الناس، ليس فقط في مجالات الحياة اليومية، ولكن أيضا في تعاملهم مع بعضهم داخل الميدان، فهناك شعور واضح بالمودة والتوافق بينهم، وأنا متحمس جدا لهذه الثورة، لأنها مهمة جدا بالنسبة للعالم بأكمله، وستغير الكثير في العالم المحيط بنا لأن مصر دولة مهمة تاريخيا واستراتيجيا». شريكته «نايسون» قالت : «ثورة مصر من أهم الأحداث التي حدثت في العالم، ليس فقط في هذا العام، بل في سنوات كثيرة ماضية، فكيف أمتلك الفرصة للتواجد وسط هذا الحدث التاريخي المهم ولا أفعل؟.. كان شيئا مهما جدا بالنسبة لي أن آتي لميدان التحرير، وأري مصر بعد الثورة مختلفة تماما عما سبق، فانا زرت مصر من قبل، وهذه المرة التاريخية أستطيع أن أري المصريين، بعد أن رُفعت عنهم أثقال كبيرة كانت علي أكتافهم منذ سنوات طويلة، فأنا أشعر من الوجوه التي أراها هنا في التحرير أن المصريين ولدوا من جديد. •• «يحيي» الأمريكي المسلم، المعيد بجامعة كاليفورنيا، الذي درس اللغة العربية، ويستطيع التحدث بها قال : «جئت لكي أري شعبا يثور.. فأنا لم أر ذلك طوال عمري، وأشعر بانبهار، فالأعداد كبيرة جدا، والشكل العام يجعلك تشعر بالفخر، هذه الثورة سلمية وستغير كثيرا في مصر وشعبها، فيجب أن يتعلم العالم من شعب مصر كيف يحارب الإنسان من أجل حقوق الإنسان؟.. •• «جاروك» مدرس لغة فرنسية بالقاهرة، مقيم في مصر منذ 3 سنوات، وقد شهد ورأي خلال هذه السنوات الثلاث العديد من الأشياء، وأهمها - كما قال لنا - أحداث 25 يناير، فيقول : أتابع ما يجري في الشوارع، وما يحدث مع المتظاهرين، وكنت متضامنا مع المتظاهرين لأنني أعلم ما الذي يقومون به، ولماذا يحاربون الشرطة بكل هذه الضراوة». ويضيف: «من الطبيعي أن يتحرك المصريون في مظاهرة بعد 30 سنة من القمع، لا أن يحركهم فجأة مجموعة من الأجانب، كما أن الصحفيين شهدوا ما الذي حرك الجموع داخل ميدان التحرير، وساعد الثوار علي الثقة بأنفسهم أكثر هو شعورهم بالدعم من الجيش الذي لم يطلق أي رصاصة عليهم، فتجرأوا أكثر، وبالتالي لا حاجة للأجانب هنا». لم أشعر بالخطر، بل شعرت بالأمان، وأردت أن أكون شاهدا علي ما حدث لأحكيه لطفلي، ومن المدهش أن تشاهد ثورة، فما حدث ضرب من الخيال لأنني كنت قبلها أطلق النكات لأنني لم أكن مقتنعا بأن شيئا سيتغير». •• لا ينسي «جاروك» ما حدث : «في اليوم الخامس أو السادس من فبراير بعدما أعلن التليفزيون المصري عن شائعة الأجانب المروجين للثورة المصرية، بدأ بعض المصريين ينظرون لي بريبة، لهذا حاولت أن أحمي نفسه بأن أكون بالقرب من أصدقائي في مقاهي التحرير ك «الندوة الثقافية»، لهذا كنت أشعر بوجود تحول تام من قمة الشجاعة ومواجهة النظام، أن أكون أنا في وجه المدفع كمتهم بأني جاسوس، لدرجة أن سيارة توجهت ناحيتي وقد شعرت أن ركابها يريدون الاصطدام بي لقتلي، وكان هذا ليلا وكنت عائدا لمنزلي، ليخرج منها بعض الأشخاص يسألوني بخشونة عما أفعله في ميدان التحرير؟.. وأقنعتهم بلغتي العربية الركيكة أنني شخص مسالم فتركوني.. وشريكي بالسكن - إيطالي الجنسية - قد تم القبض عليه أكثر من مرة لأنه كان متورطا نوعا ما في تقديم مساعدات للثوار، وكان هناك شخص أمريكي قام مع الثوار بقذف الأشياء والأحجار علي الشرطة تضامنا مع الثوار.. وحينما سألته عن سبب ما قام به كان رده: الثورة المصرية ليست محلية، بل هي أقرب للعالمية، فهي حرب لانتزاع الحرية». يحكي «جاروك» عن مدرس آخر فرنسي عاش هنا في مصر 15 سنة متزوج من مصرية، وأحب أن يخرج للتعبير عن رأيه مثله مثل المصريين فرفع لافتة كتب عليها :Cass-toi pauvre con ومعناها «طير أنت» وهي مزحة بالفرنسية، فرحلته السفارة الفرنسية من القاهرة أو بمعني أصح طُرد منها، وذلك لأنه ليس له الحق في التعبير عن رأيه في البلد الذي يعيش فيه!! ساعدنا «جاروك» علي الوصول إلي «جيرمي» - وهو اسم حركي - لفرنسي آخر ذي أصول جزائرية، مقيم في القاهرة، وتحدث معنا «جيرمي» قائلا : «صديقاتي الفرنسيات الخمس كن خائفات، أثناء الثورة ولازمنا بعضنا طوال الوقت، ونزلت مع جموع الشباب لأكون أحد أفراد اللجان الشعبية، وساعدني علي الاندماج أكثر قرب ملامحي من المصريين وجذوري الجزائرية، وفي أحد الأيام صرخ أحدهم بأنه يريد أن يقتل أي أجنبي في الطريق، فقلت له : هيه.. أنا أجنبي.. اقتلني.. لكنه قال لي : نحن نعرفك وأنت من أهل المنطقة».. كان «جيرمي» مستاء للغاية من شائعة أن الأجانب هم محركو الثورة، وكان رأيه أن هذه الشائعة تعبر عن حالة «السخف» و«اليأس» التي كان النظام السابق يحاول القيام بها.. «جيرمي» أخبرنا بأن ما حدث في مصر غير كثيرا في نظرة الفرنسيين للعرب، فعادة الفرنسيون ذوو الأصول العربية يعاملون في فرنسا معاملة المواطن درجة ثانية».. وأضاف : «ما حدث جعل بعض الفرنسيين يفكرون في عمل ثورة علي الرئيس الفرنسي ساركوزي لأن الكثيرين يكرهونه».. وحينما اعتقدنا أنه يمزح كانت إجابته أن ما يقوله حقيقي لا مزاح فيه. •• «جون» عمره 42 عاما،يقيم في مصر حاليا بشكل منتظم منذ 6 أشهر، لكنه كان يتردد عليها للعمل لمدة 10 سنوات، ويعمل كمدرب لصناعة الأفلام، ويدرسها في إحدي الجامعات، ورغم أنه يقطن في المعادي، لكنه رفض مغادرة ميدان التحرير منذ يوم 25 يناير حتي الخامس من فبراير، وكان يقطن طوال هذه الفترة في «باب اللوق» عند مجموعة من الأصدقاء المصريين.. ويتذكر «جون» ما حدث: «الوضع كان جنونيا.. فمنذ يوم 25 يناير وصلت في تمام الساعة الثالثة، فوجدت هناك العديد من المصريين، والعديد أيضا من ضباط الشرطة، وكانت هناك عربات بها خزانات مياه أيضا تهاجم المتظاهرين.. كنا نظن أن ما سيحدث هو كالعادة أصوات تصرخ بمطالبات مشروعة، ثم يتم قمعها في نهاية الأمر.. لكني حينما شاهدت شابين لا يزيد عمرهما علي 15 عاما يصعدان فوق إحدي العربات التي بها خزانات مياه، قلت لنفسي إن الوضع هذه المرة مختلف، فالناس أكثر غضبا من قبل، فهم لم ييأسوا، لدرجة أنني رأيت أشخاصا يطلق عليهم الرصاص في لاظوغلي من قبل القناصة، وكل هذا لأنهم يدافعون عن حقوقهم». وكان في الأيام الأولي العديد من البلطجية، وكنت أنا وأصدقائي محاصرين في منتصف أحد شوارع وسط البلد،وكان علي الجانب الآخر الشرطة المصرية التي لم نعد نثق بها، فهذا أدي إلي أن نحتمي بأحد المباني بجانب هارديز، واقتحم أحدنا شقة خالية فقط لنمكث فيها بعيدا عنهم، وفور أن دلفنا إلي الشقة وجدنا صورة الرئيس السابق مبارك وكأنه ينتظرنا، فضحكنا.. وهذا كان كل شيء.