مبدئيا فإن أى فيلم ليسرى نصر الله هو حدث فنى مهم.. وبعد رحيل محمد خان تستطيع أن تقول بارتياح إن يسرى نصرالله وداود عبدالسيد هما المخرجان الأكبر الباقيان لمصر.. وكل له مذاقه الخاص.. ومنطقته المتفردة. على المستوى الشخصى ومنذ بدأت حياتى المهنية كان كل فيلم لنصرالله مناسبة خاصة لى كى التقى به لأتحاور معه.. ولم يكن استمتاعى بالحوار يقل عن استمتاعى بمشاهدة الفيلم.. حيث يسرى نصرالله مثقف كبير وصاحب تجربة ووجهة نظر مختلفة فى الأشياء. بهذه الخلفية شاهدت فيلم «الماء والخضرة والوجه الحسن».. وكان السؤال الأول الذى قفز إلى ذهنى هو.. هل كان لابد أن يعمل يسرى نصرالله مع أحمد السبكى؟ السؤال يلخص أسئلة ومعادلات كثيرة فى حياتنا.. هل تتعامل مع الممكن أم تنتظر المستحيل؟ هل ترفض الواقع كما تقبله محاولا أن تعزف لحنك الخاص وسط الضوضاء والزحام؟ الواقع يقول إن عائلة السبكى هى المنتج الوحيد فى مصر منذ ثورة يناير.. ويقول أيضا أن المعادلات الإنتاجية القديمة التى كانت تمكن مخرجا مختلفا مثل يسرى نصر الله أن يخرج بأفلامه للنور.. لم تعد موجودة. السبكى هو الواقع.. ولا مفر من التعامل مع الواقع هنا.. التعامل مع السبكى ليس جريمة.. وتصديه لإنتاج فيلم مختلف شىء يشكر عليه ويقدر له.. لكن هذا ليس كل شىء.. هناك جريمة مختفية.. وهى أن ينتج السبكى فيلما ليسرى نصرالله بنكهته.. وأن يضفى عليه لمساته.. هنا تقع الجريمة الفنية.. تختلط جينات الإبداع لدى يسرى نصرالله بجينات وتوابل السوق لدى السبكى فتكون النتيجة جنينا له ملامح مختلفة وتبدو الصورة غير واضحة. لم أفهم مثلا لماذا اشترك السيناريست أحمد عبدالله مع يسرى نصر الله فى كتابة الفيلم؟ هل كان هذا شرطا من المنتج؟ هل ثمة رؤية مشتركة بين الرجلين؟ لا أحد يستطيع أن يحجر على حرية أحد بكل تأكيد.. ومن حق الجميع التجريب أيا كانت الدوافع أو الأسباب لكن العبرة دائما بالنتيجة. «الماء والخضرة والوجه الحسن» كما فهمته هو فيلم يحتفى بالحياة.. بالأشياء كما هى فى أصلها.. عائلة من طباخى الأفراح فى الدقهلية.. يجمعها الحب. رسالة الفيلم الأساسية من وجهة نظرى هى تحريض الناس على الحب والحرية دون الاستسلام لقيود المجتمع وأوهامه.. الخط الأساسى فى الفيلم والذى توارى لحساب تفاصيل أقل أهمية هو تمرد الأبطال على مصائرهم وسعيهم نحو حريتهم.. فالبطل باسم سمرة مخطوب بحكم العادات لإحدى قريباته «منة شلبى» لا هو يحبها وهى بدورها تكن حبا مكبوتا لشقيقه الذى كان زوجا لشقيقتها الراحلة.. باسم سمرة يقع فى حب ليلى علوى العائدة من سفر طويل والتى لا تحوز الشروط التقليدية للارتباط بشاب مثله فهى مطلقة وتكبره فى العمر.. الجميع يكبتون مشاعرهم ويستسلمون للأمر الواقع.. وهو ما يحدث كثيرا فى الحياة.. لكن لحظة الانتصار الحقيقية هى اللحظة التى ينساق فيها كل شخص وراء اختياره الحقيقى والصادق.. يسعى باسم سمرة نحو حبه الحقيقى وتسعى منة شلبى نحو الرجل الذى سيسعدها رغم أنه يحتل موقعا أقرب للمحرم الاجتماعى كونه كان زوجا لشقيقتها وشقيقا لخطيبها.. لكنه الحب واستجابة الأبطال لنداء الجسد والروح.. لحظة الانعتاق التى جاءت فى السيناريو بعد وفاة الأب (علاء زينهم) رغم أنه لم يكن يشكل سلطة قمع صريحة على أبنائه.. ينزل الجميع إلى النيل ليمارسوا طقس الفرحة الجماعية أو الحب الجماعى فى مشهد يحيل إلى الأساطير القديمة ويحتفى بالحياة كما يجب الاحتفاء.. لكن حتى هذا المشهد لم يخرج فنيا كما يجب. هذا الخط الرئيسى للفيلم توارى خلف خطوط تقليدية مثل الصراع مع رجل المال الشرير (محمد فراج) ثم اختطاف أحد أبناء الأسرة (محمد الشرنوبى) وذبحه عقابا له على زواجه عرفيا من شقيقة رجل الشر.. ثم لحظة ذروة أكثر من تقليدية وأكثر من ساذجة حين يتجمع الأخيار ليفضحوا رجل الشر أمام المحافظ!!! وينتصر الخير فى النهاية فى الجزء الأول من الفيلم والذى نتابع فيه مشاهد الفرح.. بدا السرد متلعثما وبدا الإيقاع وكأنه يعانى من بعض البطء.. بشكل عام بدت كاميرا يسرى نصرالله وكان أمامها غلالة خفية تمنعها من أن تقول كل ما تريد.. وبدا لى يسرى نصرالله وكأنه كتب فيلمه الكبير بلغته الأصلية ثم تركه لآخرين يحاولون ترجمته بلغة السوق.. وبدت الترجمة وكأنها مسيئة للنص الأصلى.. لا يعنى هذا أننى لم أحب الفيلم ولكن يعنى أننى كنت أعرف أنه فى ظروف إنتاجية مختلفة كان يمكن أن يكون أروع. سعيد لأننى شاهدت فيلما ليسرى نصرالله وإن كنت لا أتمنى أن يكرر تجربته مع السبكى بشروط السبكى.. بدا لى يسرى نصرالله مع السبكى مثل بيتهوفن حين تعزف ألحانه فرقة شعبان عبد الرحيم.. أو مثل فيروز حين تغنى أغنية من أغانى المهرجانات.. سيبقى صوته كما هو بكل تأكيد لكن رسالة الصوت لن تكون كما هى.. سعيد بعودة يسرى نصرالله وأتمنى ألا يكرر التجربة.. لأنه مخرج كبير جدا . ربما أكبر مما يتصور عن نفسه.