مركز الابتكار يتعاون مع «إكسيد» لتطوير تطبيق أتمتة ضمان الجودة بمراكز الاتصالات    «التخطيط» تعلن خطة المواطن الاستثمارية لمحافظة الإسماعيلية للعام 2023/24    نتنياهو يرفض مطالب حماس بإنهاء الحرب مُقابل إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين    الاحتلال يعتقل 25 فلسطينيا في الضفة الغربية بينهم فتاة من القدس بزعم حيازتها سكين    البطريرك كيريل يهنئ «بوتين» بمناسبة عيد الفصح الأرثوذكسي    إجراء جديد من الأهلي بشأن محمود متولي    وزير الرياضة يتفقد مبنى مجلس مدينة شرم الشيخ الجديد    نفوق 12 رأس ماشية في حريق حظيرة مواشي بأسيوط    البابا تواضروس الثاني يتلقى تهنئة آباء وأبناء الكنيسة بعيد القيامة    «خليك في البيت»..تعرف على خريطة سهرات أعياد الربيع على الفضائيات (تقرير)    «مراتي قفشتني».. كريم فهمى يعترف بخيانته لزوجته ورأيه في المساكنة (فيديو)    هل يجوز أداء الحج عن الشخص المريض؟.. دار الإفتاء تجيب    التخطيط: 6.5 مليار جنيه استثمارات عامة بمحافظة الإسماعيلية خلال العام المالي الجاري    رئيس مدينة مرسى مطروح يعلن جاهزية المركز التكنولوجي لخدمة المواطنين لاستقبال طلبات التصالح    موعد مباراة الأهلي والهلال في الدوري السعودي.. المعلق والقنوات الناقلة    حمدي فتحي: استحقينا التتويج بكأس قطر.. وسنضع الوكرة في مكانة أكبر    «الزراعة» تواصل فحص عينات بطاطس التصدير خلال إجازة عيد العمال وشم النسيم    قبل ساعات من انطلاقها.. ضوابط امتحانات الترم الثاني لصفوف النقل 2024    موعد عودة الدراسة بالجامعات والمعاهد بعد عيد القيامة واحتفالات شم النسيم 2024    ندوتان لنشر ثقافة السلامة والصحة المهنية بمنشآت أسوان    تقرير: ميناء أكتوبر يسهل حركة الواردات والصادرات بين الموانئ البرية والبحرية في مصر    قوات روسية تسيطر على بلدة أوتشيريتينو شرقي أوكرانيا    5 مستشفيات حكومية للشراكة مع القطاع الخاص.. لماذا الجدل؟    اعرف حظك وتوقعات الأبراج الاثنين 6-5-2024، أبراج الحوت والدلو والجدي    جامعة بنها تنظم قافلة طبية بقرية ميت كنانة بطوخ    البابا تواضروس: فيلم السرب يسجل صفحة مهمة في تاريخ مصر    ميسي وسواريز يكتبان التاريخ مع إنتر ميامي بفوز كاسح    اتحاد الكرة يلجأ لفيفا لحسم أزمة الشيبي والشحات .. اعرف التفاصيل    «شباب المصريين بالخارج» مهنئًا الأقباط: سنظل نسيجًا واحدًا صامدًا في وجه أعداء الوطن    بين القبيلة والدولة الوطنية    في إجازة شم النسيم.. مصرع شاب غرقا أثناء استحمامه في ترعة بالغربية    أمن جنوب سيناء ينظم حملة للتبرع بالدم    طوارئ بمستشفيات بنها الجامعية في عيد القيامة وشم النسيم    وفد أمني إسرائيلي يعتزم الاجتماع مع إدارة بايدن لمناقشة عملية رفح    استشهاد ثلاثة مدنيين وإصابة آخرين في غارة إسرائيلية على بلدة ميس الجبل جنوب لبنان    الصحة الفلسطينية: الاحتلال ارتكب 3 مج.ازر في غزة راح ضحيتها 29 شهيدا    حكومة نتنياهو تقرر وقف عمل شبكة الجزيرة في إسرائيل    أنغام تُحيي حفلاً غنائيًا في دبي اليوم الأحد    بالتزامن مع ذكرى وفاته.. محطات في حياة الطبلاوي    جناح مصر بمعرض أبو ظبي يناقش مصير الصحافة في ظل تحديات العالم الرقمي    الليلة.. أمسية " زيارة إلى قاهرة نجيب محفوظ.. بين الروائي والتسجيلي" بمركز الإبداع    "خطة النواب": مصر استعادت ثقة مؤسسات التقييم الأجنبية بعد التحركات الأخيرة لدعم الاقتصاد    الإفتاء: كثرة الحلف في البيع والشراء منهي عنها شرعًا    دعاء تثبيت الحمل وحفظ الجنين .. لكل حامل ردديه يجبر الله بخاطرك    التنمية المحلية: استرداد 707 آلاف متر مربع ضمن موجة إزالة التعديات بالمحافظات    بالصور.. صقر والدح يقدمان التهنئة لأقباط السويس    لتجنب التسمم.. نصائح مهمة عند تناول الرنجة والفسيخ    صحة مطروح تطلق قافلة طبية مجانية بمنطقة أولاد مرعي والنصر لمدة يومين    جامعة بنها تنظم قافلة طبية بقرية ميت كنانة في طوخ    الأهلي يجدد عقد حارسه بعد نهائي أفريقيا    اليوم.. انطلاق مؤتمر الواعظات بأكاديمية الأوقاف    السيطرة على حريق شقة سكنية في منطقة أوسيم    ضبط دهون لحوم بلدية غير صالحة للاستهلاك الآدمي في البحيرة    المديريات تحدد حالات وضوابط الاعتذار عن المشاركة في امتحانات الشهادة الإعدادية    «التعليم»: المراجعات النهائية ل الإعدادية والثانوية تشهد إقبالا كبيرًا.. ومفاجآت «ليلة الامتحان»    مختار مختار: عودة متولي تمثل إضافة قوية للأهلي    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفقه الثورى وحكم ثوار يوليو!
نشر في صباح الخير يوم 11 - 10 - 2011

كان حكم مصر آخر ما يشغل بال ثوار ثورة 23 يوليو سنة 1952، ولم يكن يخطر ببالهم للحظة أن يتحولوا من «ثوار» إلى «حكام»!
لقد اعترف بذلك صراحة ودون لف أو دوران قادة وثوار 23 يوليو من اللواء «محمد نجيب» و«جمال عبدالناصر» و«أنور السادات» و«خالد محيى الدين» و«عبداللطيف البغدادى» عبر ما كتبوه فى مذكراتهم التى صدرت طوال سنوات، أو حتى فى وقت قيام الثورة !
إن تصريحات وكلمات جمال عبدالناصر فى تلك الفترة المبكرة من عمر الثورة تؤكد ذلك وتوضحه، ففى احتفال ذكرى الشهداء بالجامعة يوم 15 نوفمبر سنة 1952 قال بالحرف الواحد :
«إنى لا أود أن أغادر هذا المكان قبل أن أقول لكم إن حركة الجيش ما قامت إلا لتحرير الوطن، وإعادة الحياة الدستورية السليمة للبلاد، وأن كل هدفنا أن نعمل مخلصين على ذلك».
وفى كلمة أخرى ألقاها وسط أهالى «ميت غمر.. «11 أبريل 1953» يقول :
«إن الذين يعتقدون أن ثورتنا قامت لطرد الملك الذى كان يتزعم طبقة الاستغلاليين فقط مخطئون، فإنه هدف تصغر أمامه الثورات، إن هدف الثورة هو تغيير النظام جميعا لمصلحة أصحاب البلاد».
ويقول أيضا : «يوم 23 يوليو لم يكن فى خاطرنا بأى حال من الأحوال أن نستولى على الحكومة، ولكن كنا نعبر عن أمل الشعب فى القضاء على الملكية الفاسدة... و... و..». ويعترف «عبداللطيف البغدادى» - عضو مجلس قيادة الثورة - «كان علينا أن نفكر فى خطة عملنا والخطوات الواجب علينا اتخاذها بعد أن أصبحت المسئولية الأولى تقع على عاتقنا، وكانت مشكلتنا أننا لم نكن قد أعددنا لأنفسنا برنامج عمل تفصيليا قبل الثورة.
ومن الموضوعات التى تناولها المجلس بالمناقشة فى تلك المرحلة الأولى موضوع الأحزاب السياسية فى مصر ودورها فى المستقبل فى ظل الثورة، وهل هى أداة صالحة لقيادة البلاد إلى مستقبل أفضل أو أنه لابد لنا من البحث عن بديل لها مرحليا، ولم يكن يخطر ببال المجلس أن يتولى هو السلطة فى البلاد، ولم يرد هذا فى ذهنى، كما أعتقد أنه لم يخطر فى فكر أحد من زملائى لا قبل قيام الثورة ولا بعد قيامها».
«وحزب الوفد كان يعتقد أنه هو صاحب الحق الأول فى تولى الأمر بحكم أن الأغلبية الشعبية كانت تؤيده من قبل حتى أن مصطفى النحاس عندما علم بقيام الثورة، وكان عند قيامها فى أوروبا فقد هرع إلى القاهرة وتوجه مباشرة من المطار إلى مبنى قيادة مجلس الثورة، وكان يرافقه فؤاد سراج الدين وبعض سياسيى الحزب، وكان اعتقاده أننا لابد سنطلب منه أن يقوم بتشكيل الوزارة، وأن تعيين «على ماهر» للوزارة لم يكن إلا تعيينا مؤقتا».
إن ما جرى فى ذلك اللقاء بين النحاس باشا وفؤاد سراج الدين باشا مع ثوار يوليو يحمل الكثير من الدلالات السياسية البالغة الأهمية، ورغم تناقص هذه الروايات واختلافها فمن المهم التعرف عليها.
يقول اللواء «محمد نجيب» فى مذكراته : «رحبت بهما وتبادلنا عبارات المجاملة ولم نتحدث فى أى شىء لأنهما فضلا العودة للمنزل، وعلى الباب وأنا أودعهما قال «مصطفى النحاس» : إنى أؤيدك وأدعو الله أن ينصرك ويوفقك على الدوام».
أما النحاس باشا نفسه فقد روى ما جرى - فى مذكراته بقوله :
«استقبلنى «محمد نجيب» وتعانقنا وهنأت نجيبا بنجاحهم فى هذا العمل المجيد الخطير الذى سيغير مجرى التاريخ وسيجعل مصر تحيا حياة جديدة تشعر فيها بحريتها وتتمتع بدستورها وسيادتها.. و.. و.. وكنت على سجيتى فرحا مغتبطا مسرورا وبادلنى نجيب التهنئة وشكرنى على هذه الزيارة المفاجئة وأنها ستقوى من عزائمهم وتعينهم على تنفيذ ما بقى من برنامجهم، وقد سألته عن البرنامج الذى رسموه لثورتهم فقال :
إنه التخلص من الملك وحاشيته وقد تخلصنا منه والحمد لله ونرجو الباقى الذى يتلخص فى أن نحقق للبلاد جلاء القوات البريطانية عن مصر فى أقرب فرصة ممكنة ومحاربة الفساد والاستغلال وحكم البلاد حكما دستوريا صحيحا وصيانة الدستور من العبث وتنظيف الإدارة الحكومية من الفساد واستغلال النفوذ.
ولما سمعت هذا البرنامج تضاعف سرورى، وأعلنت فى صراحة تأييدى لهذه الحركة المباركة، كما لاحظت أن «نجيبا» كان متحمسا مسرورا وهو يحدثنى، أما الضباط الذين كانوا فى الحركة - ولم أكن أعرفهم - فقد استقبلوا حضورى بصمت وسكون عزوته إلى المفاجأة وعدم معرفتهم بى». لكن الأغرب والأعجب هو ما ينسبه «إبراهيم فرج باشا» أحد زعامات الوفد وكان حاضرا ذلك اللقاء، حيث قال اللواء نجيب للنحاس باشا :
- إحنا بننفذ سياستك، أنت زعيم بلدنا وزعيمنا !!
ولما عدنا إلى بيت النحاس باشا قال لنا : لست آمل خيرا فى هذا الانقلاب، فالحقيقة أن الدستور والديمقراطية فى مصر يهددهما أبلغ الأخطار».
إن ما نسبه «إبراهيم فرج باشا» للنحاس يحتاج لتأمل، فالمقابلة المذكورة جرت بعد خروج الملك بعدة ساعات - فجر يوم 26 يوليو 1952- ولم يكن فى كل البيانات والتصريحات التى صدرت عن الثورة ما يشير أو يوحى إلى أن الدستور والديمقراطية فى خطر.
لقد جاء فى بيان الثورة الأول الذى ألقاه «أنور السادات» تأكيد اللواء «محمد نجيب» وقوله «إننى أؤكد للشعب المصرى أن الجيش كله أصبح يعمل لصالح الوطن فى ظل الدستور مجردا من أية غاية».
وفى الساعة الرابعة من صباح يوم 24 يوليو دق جرس التليفون فى بيت الكاتب الكبير الأستاذ : «إحسان عبد القدوس - رئيس تحرير مجلة روزاليوسف وصاحب أكبر وأجرأ حملة صحفية عن الأسلحة الفاسدة فى حرب فلسطين - كانت المكالمة من أحد الضباط أصدقاء إحسان الذى أخبره أنهم - أى الضباط - احتللنا القاهرة، ويذهب إحسان إلى مركز القيادة، وباقى القصة يرويها إحسان عبد القدوس والتى جاءت فى المقدمة التى كتبها لكتاب «فاروق ملكا» للأستاذ « أحمد بهاء الدين»، يقول «إحسان» :
.. وحتى بعد أن رأيت القاهرة وقد احتلها الجيش، وبعد أن أصبحت فى مركز القيادة لم أكن متفائلا واختليت بمحمد نجيب فى إحدى حجرات القيادة ومعنا بعض الضباط وسألته : ماذا تريد ؟
قال : الدستور.. والإصلاح !
قلت : هذا كلام عام، إنى أسألك ماذا تريد فى هذه اللحظة ليتحقق فى هذه اللحظة ؟! قال : ماذا تعنى ؟
قلت : إن لك مطالب.. من سيقوم على تنفيذ هذه المطالب، هل ستتولى الحكم بنفسك ؟ أم ستعهد بمطالبك لوزارة الهلالى أم تريد وزارة جديدة ؟
قال : إنى لا أريد أن أحكم.. الدستور لا يتيح لى أن أحكم !
وعدت أسأل محمد نجيب : إذن من تريده أن يتولى الحكم !
قال : أظن من الأوفق أن ندعو البرلمان السابق باعتباره آخر حلقة من حلقات الدستور ! قلت : إن البرلمان السابق يحتاج إلى تطهير ثم إن الحركة يجب ألا تتهم بالحزبية والبرلمان السابق كان حزبيا !».
وطالت المناقشة بين اللواء نجيب وإحسان عبدالقدوس وطرحت عدة أسماء لم يرحب بها كلاهما، وعندما طرح اللواء نجيب اسم «على ماهر» صرخ إحسان عبدالقدوس فرحا : إنه رجل كل أزمة.. أعتقد أنه يصلح !
وقال محمد نجيب : والضباط يعتقدون ذلك أيضا. تول أنت سؤال «على ماهر» هل يقبل تولى الوزارة أم لا ؟!»
وهكذا وافق إحسان عبد القدوس على مهمة إقناع «على ماهر» بتولى رئاسة الوزارة وهو ما حدث بالفعل !!
وفيما بعد كتب أنور السادات مبررا اختيار «على ماهر» الذى كان من أبرز الزعامات السياسية قبل قيام الثورة بقوله :
«لقد كلفنا هذا السياسى - على ماهر - بتشكيل الوزارة بدلا من أن نشكل وزارة من العسكريين لأننا لم نعد أنفسنا لتولى الحكم، وكان هدفنا هو تطهير الحياة السياسية وإقصاء الملك والأحزاب والإنجليز».
ويضيف «جمال عبدالناصر»: «لقد جئنا ب «على ماهر» إلى الحكم فوجدنا رابطة أصحاب الأملاك تطالب بإلغاء مشروع تحديد الملكية الزراعية بكل جرأة وبكل صراحة، فرأينا أن حكم هذا البلد لا يمكن أن يقوم على طبقة محترفى السياسة ومحترفى الحكم».
وفى نفس الصدد يكمل عبدالناصر قائلا: «وبدأنا ننفذ أول خطوة وهى إعادة البرلمان الذى كان منحلا وبدأنا نتصل بهؤلاء الناس، ولكننا فوجئنا بالمساومات والمطالب والمناورات والخداع، وكان الواحد منهم يجىء ويجلس معنا ثم يخرج فيقول : أنا حطيتهم فى جيبى دول شوية عيال !! حينذاك اتجهنا إلى تطهير البلاد وإقامة حكم يمثل المشاعر القومية».
لقد كان «جمال عبدالناصر» يقصد بكلامه السابق «فؤاد سراج الدين» باشا الذى روى فيما بعد للأستاذ «أحمد حمروش» تفاصيل اجتماعه مع جمال عبدالناصر فيقول :
«وفى هذا الاجتماع نوقش موضوع تحديد الملكية وكان رأيى فى ذلك الوقت إقرار مبدأ الضريبة التصاعدية على الأراضى الزراعية واستمر النقاش هادئا وخرجنا على أن نلتقى بعد أسبوع، وعدت يوم الأربعاء، حيث كان محددا للاجتماع يوم خميس.
وفى القطار وجدت أن مصطفى أمين قد نشر خبرا فى مجلة آخر لحظة التى كانت تصدر ملحقة بآخر ساعة يقول فيه : أن فؤاد سراج الدين استقبل رجال الحركة وأعلن أنه وضعهم فى جيبه، وهو خبر لم يحصل ولم أقل مثل هذه الكلمات، وتأكدت أنهم لابد وقد تأثروا بهذه النميمة المدسوسة.
وفعلا اتصل بى «أحمد أبو الفتح» - رئيس تحرير المصرى - ليعلن لى أن الموعد المتفق عليه قد أُجل ، وبعدها بأيام تم اعتقالى مع عدد آخر من السياسيين».
وبسبب قانون الإصلاح الزراعى اصطدم «على ماهر» رئيس الوزارة بالثوار فقدم استقالته فى 7 سبتمبر 1952 وقال للصحافة فى تصريح مهم له دلالته السياسية أنه رأى أن الوقت أصبح مناسبا لأن تجتمع السلطة فى يد واحدة وفى قوة واحدة وأن استقالته تمت بالاتفاق التام مع قيادة الثورة !
وقبل استقالة «على ماهر» شن هجوما حادا على الأحزاب وأن الشعب يضيق ذرعا بالأحزاب وأن الخصومة الحزبية قد وصلت إلى حد الجريمة وأن الحياة البرلمانية لن تتطهر إلا بتطهير الأحزاب!
وكان من أخطر تصريحاته هو تهديده لهذه الأحزاب وقيادتها بقوله :
إن الأحزاب بوضعها الراهن مقضى عليها، فإما تنظيم وازدهار وإما زوال وانهيار. وكان اللواء محمد نجيب قد أصدر بيانه الشهير بعد منتصف ليلة 31 يوليو 1952 بيانا دعا فيه الأحزاب والهيئات إلى تطهير صفوفها.
وفى شهادة مهمة للمؤرخ عبدالرحمن الرافعى (أحد زعماء الحزب الوطنى القديم) جاء فيها: «هذه الدعوة لم تقابل من الأحزاب مقابلة جدية، وظنت الأحزاب أن ثورة 23 يوليو ما هى إلا انقلاب وزارى محدود المدى قصير العمر وأنه لا يلبث أن تطوى صفحته فتعود سيرتها الأولى من التطاحن على مقاعد الحكم واحتراف السياسة، وظلت تنتظر وتتربص أن يجىء الوقت المناسب للتخلص من الثورة فتعود إلى الحكم».
بل إن زعامات هذه الأحزاب لم تلتفت لدلالة ومغزى عبارة اللواء نجيب عندما قال: إن إبعاد عناصر الفساد شرط جوهرى للعودة إلى حكومة برلمانية أمينة !!
هل كانت الصدفة أنه فى نفس اليوم الذى دعت فيه الثورة إلى تطهير الأحزاب أن تبدأ صحيفة الأهرام فى نشر سلسلة مقالات للدكتور «سيد صبرى» أستاذ القانون العام بكلية الحقوق جامعة فؤاد الأول - القاهرة بعد ذلك - بعنوان «الفقه الثورى» دعا فيها إلى نسف وإلغاء الدستور !
ويقول الدكتور «وحيد رأفت» أستاذ أساتذة فقهاء الدستور فى كتابه المهم «فصول من ثورة يوليو»: «إن هذه المقالات كان لها صدى فى أوساط الجيش ولدى قادة حركة 23 يوليو، ولقد دافع الدكتور سيد صبرى فى مقاله الأول المنشور فى 31 يوليو عن النظرية الدستورية القائلة بسقوط الدساتير القائمة وزوالها من الوجود نتيجة للثورات والانقلابات وكيف أنه بتمام نجاح الثورة يسقط الدستور القائم فورا، واستشهد فى ذلك بعدة أمثلة من تجارب الدول الأخرى، وانتهى إلى القول بأن ما حدث هو ثورة، وأن دستور 19 أبريل سنة 1923 الملكى سقط تلقائيا بنجاح الثورة فى يومى 23 و26 سنة 1952 بالذات، وحسب قادة الثورة بعد أن استولوا على الحكم وأطاحوا بالملك أن يعلنوا على الملأ سقوط دستور سنة 1923 إثباتا لواقع الحال ودون ما حاجة لأية إجراءات أخرى !»
وقمت بالرد على ذلك فى مقالات ثلاث نشرت تباعا بجريدة الأهرام فى 24 أغسطس و5 و13 سبتمبر سنة 1952».
وانتهيت فى ذلك المقال - الذى علمت بعد نشره أنه كان موضع اهتمام وتحليل من جانب بعض قادة حركة 23 يوليو شأنه فى ذلك شأن جميع المقالات السياسية الجريئة التى كانت تظهر فى الصحف فى تلك المرحلة الحرجة قبل تلجيم الصحافة، انتهيت فيه إلى القول : «فإذا كانت ثمة ثورة فى مصر اليوم (أى فى أواخر أغسطس 1952)، فهى إنما وضحت للعيان واستكملت عناصرها ومقوماتها بعد شهر من تاريخ حركة بدأت جد متواضعة وليس الجيش فيها إلا معبرا عن الإرادة الشعبية، وإذا كان الرأى القائل بانهيار دستور سنة 1923 قد بدأ مبتسرا أى سابقا لأوانه حينما أبدى فى أواخر يوليو سنة 1952 عندما كانت حركة الجيش فى أولى مراحلها فإنه غدا مقبولا الآن فى ضوء ما تكشفت عنه الأيام من ذلك التاريخ».
ثم قلت : فلنترحم على دستور سنة 1923 ولنذكره بالخير «فإنه كان حلقة ضرورية من حلقاتنا النيابية وكفاح الأمة لتصبح سيدة نفسها»
ويمضى د. وحيد رأفت قائلا : وحتى لا يساء فهم المقصود فى مقالى عن سقوط دستور سنة 1923 أضفت على أن انهيار دستور سنة 1923 يستلزم المبادرة إلى سن دستور آخر يحل محله، ويأتى معبرا عن معنى الثورة الحالية والعهد الجديد، وإذا كان بعضنا قد شكا فيما مضى من أن دستور سنة 1923 لم يكن شعبيا، لأنه لم يأت وليد جمعية وطنية تعبر عن رأى الأمة، بل كان من صنع لجنة حكومية أو شبه حكومية، فها هى ذى الفرصة سانحة الآن للرجوع إلى الأمة مصدر السلطات، فلنعد العدة منذ الساعة لدعوة جمعية وطنية تأسيسية ومنتخبة انتخابا حرا لكى تضع للأمة دستورا جديدا يحقق سيادتها ويصونها ويكفل للمصريين جميعا بلا فوارق ولا تمييز المحافظة على حرياتهم وحقوقهم ضد أى ضغط أو ظلم مهما كان مصدره، ويوفر للطبقة الكادحة الكرامة والعدالة الاجتماعية عند ذاك يمكننا أن نقول مستبشرين : مات الدستور فليعش الدستور».
وفى كلمات حاسمة حازمة، بل وقاطعة يؤكد الأستاذ «خالد محيى الدين» فى مذكراته «والآن أتكلم» قائلا:
«إن أغلب من أحاطوا بالثورة من مستشارين ومن قوى سياسية كانوا يعملون جميعا من أجل استمرار العسكريين فى الحكم وضد الديمقراطية والبرلمان.
السنهورى وسليمان حافظ وفتحى رضوان كانوا يشجعون الضباط على تحدى الدستور والديمقراطية بحجة أنها ثورة وأن للثورة قانونها الخاص، كذلك كان الدكتور «سيد صبرى» أستاذ القانون الدستورى يشجع فى هذا الاتجاه أيضا، ويقول إنه لا مبرر للتمسك بالنصوص وأن البلد فى وضع ثورى وبحاجة إلى خطوات ثورية وإلى فقه ثورى».
وبدأ أساطين القانون الدستورى يدبجون للثورة نصوصا تمكنها من التلاعب بالحياة الحزبية، وهكذا أدى الخبراء الدستوريون الذين اشتهروا للأسف بأنهم ليبراليون دورهم فى مناوأة الدستور والحياة الحزبية بمهارة فائقة».
وكان يصب فى هذا الاتجاه أيضا أن الجماهير الشعبية لم تكن تحترم الحياة الحزبية السابقة، وكانت تشعر بما فيها من فساد وتحلل، وقد اندفعت هذه الجماهير فى تأييد رجال الثورة تأييدا مذهلا، خاصة بعد طرد الملك وصدور قانون الإصلاح الزراعى والحديث المتصاعد ضد الاستعمار وشعار «ارفع رأسك يا أخى» وإلغاء الألقاب، وكانت زيارات أعضاء مجلس القيادة لعديد من المدن فرصة لتحرك أمواج هادرة من البشر تهتف بحياتهم وتحاول أن تحمل سياراتهم وتعرب عن تأييدها لهم، وكان ذلك كله يزيدهم تمسكا بموقفهم.
ويختتم «خالد محيى الدين» شهادته البليغة بقوله : وكثيرا ما كنت أناقش جمال عبدالناصر عن الديمقراطية وعن ضرورة إشراك الجماهير فكان يرد علىَّ باسما : ألا ترى أن الجماهير تؤيدنا !!
يضاف إلى ذلك أن الأحزاب السياسية لم تقاوم ولو بأقل قدر ما وجه إليها من صفعات، بل استسلمت استسلاما مثيرا للدهشة وخيبت الآمال فيها بما شجع الزملاء فى مجلس القيادة على المضى قدما فى طريقهم.
ونصل إلى شهادة الأستاذ «سليمان حافظ» وكيل مجلس الدولة ثم نائبا لرئيس الوزراء ووزير الداخلية ثم المستشار القانونى لرئيس الجمهورية «محمد نجيب» بمرتب ثلاثة آلاف جنيه فى السنة والذى يقول - أى نجيب - إنه كان يستطيع أن يجد مخرجا قانونيا مناسبا لكل مشكلة، ويضيف اللواء نجيب : «استغل سليمان حافظ الازدواجية التى كانت موجودة بين مجلس القيادة والوزارة فراح من جانبه يعبث بما تبقى فى البلد من ديمقراطية فأصدر عدة تشريعات منافية للديمقراطية منها فصل الموظف دون اللجوء للطريق التأديبى وحرمان رجال القضاء المعزولين من معاشاتهم.. و..».
وعندما أبدى سليمان حافظ رأيه صراحة بضرورة إلغاء الدستور، رفض نجيب ذلك وكذلك رفض أعضاء مجلس قيادة الثورة ويعترف نجيب قائلا :
«وراح سليمان حافظ يلف حول باقى أعضاء مجلس القيادة ليقنعهم برأيه وسرعان ما استجابوا له ولم أجد مفرا من الاستسلام لرأى الأغلبية».
وفى كتابه «ذكرياتى عن الثورة» لسليمان حافظ يعترف بقوله : «وقد جهدت أنا وسائر الزملاء فى إحاطة أعمال الثورة فى شهورها الأولى بسياج من الشرعية. كثيرا ما كان يضطرنا إلى إعمال أداة التشريع فى إلغاء أو تعديل كل ما يتعارض من القوانين والنظم مع غاياتها وأهدافها كيما لا تصطدم به فتضطر إلى انتهاكه مما أنكره بعض الناس منى وبالغوا فى التشنيع علىّ من أجله حتى قالوا أن بى غدة لا تهدأ أبدا ما لم تفرز القوانين إثر القوانين».
وحدث فى هذه الأثناء أن قامت حملة على دستور سنة 1923 وما فيه من فجوات كانت هى التى هيأت السبيل لفساد الحكم وطغيان الحاكم، فنفذ منها إلى الاعتداء على حقوق الأمة وتجريدها من سلطتها، واشتدت الحملة يرفع لواءها أستاذ من فقهاء القانون العام وعلم من أعلام الحكم والسياسة كان فيما مضى عضوا فى اللجنة التى وضعت الدستور، وكان من الطبيعى أن أتتبع باهتمام بالغ هذه الحملة وأشاهد من التأييد ما يكاد يكون إجماعا من مختلف طبقات الأمة، ثم لم ألبث حتى اقتنعت اقتناعا كاملا بوجوب إسقاط الدستور برمته، وعملت فى سلسلة متتابعة من الاجتماعات مع الزملاء العسكريين على إقناعهم برأيى فترددوا طويلا وتهيبوا كثيرا من الإقدام على هذا الأمر حتى آمنوا به مثل إيمانى».
وسقط دستور 1923 وتلك حكاية أخرى!
وسادت نظرية الفقه الثورى حتى وصلت مداها بنظرية «الجمهورية الملكية» وتوريث أبناء الرؤساء الملك والحكم، وتفصيل القوانين تحت أمر الفقهاء سواء فقهاء الدستور أو فقهاء التوريث أو حتى فقهاء العفاريت الزرق!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.