لعل أكثر ما أثار انتباهى ودهشتى عقب قيام ثورة 52 يناير سنة 1102 هو محاولة البعض للتقليل من شأن ثورة 32 يوليو 2591. وراح البعض على سبيل «المزايدة الثورية» يصف ثورة 52 يناير بأوصاف غير طبيعية لم تخطر ببال شباب الثورة أنفسهم، وراح البعض من الثعالب الصغيرة التى تفسد الكروم يدبج مقالات النفاق والمديح فى ثوار 52 يناير! أما «الثعالب الصغيرة المنتشرة فى الفضائيات كانوا قد أطلقوا على هؤلاء الثوار بأنهم أصحاب أجندات خارجية ويأكلون وجبات الكنتاكى وينفذون مخططات صهيونية وأمريكية انقلب هؤلاء الثعالب وأصبحوا ثواراً، شاركوا وخططوا ونفذوا ونصحوا ودبروا وفكروا وعملوا المستحيل حتى نجحت الثورة! خمسة شهور كاملة مرت منذ قامت ثورة عظيمة نبيلة سقط فيها نظام مستبد طالما أشادت الثعالب الصغيرة بحكمته واقتداره وعظمته، وأجبرت رئيساً على أن يتخلى عن سلطته وسلطانه وينتظر المحاكمة، وطالما أشادت هذه الثعالب الصغيرة به يوم يصحو وساعة ينام، وكيف أن مصر ولدت يوم ميلاده. لقد ارتضت مصر عن قناعة وبصيرة أن تعهد بأمور البلاد إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة حتى تختار مصر دستورها ورئيسها ومجلسها النيابى وحياتها الطبيعية، ومنذ اللحظة الأولى انحازت القوات المسلحة إلى ثورة الشعب، وانطلق الشعار الخالد «الشعب والجيش إيد واحدة». لكن الثعالب الصغيرة التى أفسدت الكروم تريد أن تفسد ثورة الشعب وتدمير ذلك الشعار المجيد، وبث الفتنة مرة بين الجيش والشعب، ومرة بين الشرطة والشعب، ومرة بين المسلمين والأقباط، ومرة بين الإخوان المسلمين والسلفيين، ومرة بين الدستور أولا أم الانتخاب أولاً، ومرة بين المؤمنين الطيبين والكفار الملاحدة، والعلمانيين الأشرار، ومرة بين الجمهورية الرئاسية والجمهورية البرلمانية. وكما تحاول الثعالب الصغيرة باسم الثورة والحرية والكرامة إفساد ثورة 25 يناير، فقد نجحوا للأسف فى إفساد ثورة 23 يوليو .1952 هذه الثعالب الصغيرة التى حولت ثوار يوليو الأطهار إلى أعداء للحرية والديمقراطية، وأقنعتهم بأن الدستور لعبة فى يد السلطان، وأن للثورة أن تفعل ما تشاء وقتما تشاء دون مراقبة ودون سؤال. الثعالب الصغيرة التى كتبت تصف زيارة اللواء محمد نجيب لمزرعة دواجن قائلة: وما أن رأت الدواجن الرئيس نجيب حتى انتفضت طرباً بمقدمه!! وقالت عن جمال عبدالناصر بمناسبة أدائه الصلاة فى أحد المساجد: ووقف عبدالناصر بين الناس كسائر البشر «!!» هذه الثعالب الصغيرة التى غيرت مواد الدستور وجعلت حكم الرئيس مدداً لا تنتهى إلا عندما يأذن الله ويريد! إن علاقة ثورة 23 يوليو 1952 بمسألة الديمقراطية والحياة النيابية السليمة علاقة معقدة ومرتبكة وملتبسة أيضاً! ومنذ اليوم الأول لقيام الثورة - أو الحركة المباركة كما كانوا يطلقون عليها وقتها، فقد أعلنت بوضوح وعلى لسان اللواء «محمد نجيب» صباح 24 يوليو أنها تنشد الإصلاح والتطهير ورفع لواء الدستور! وفى كلمة لجمال عبدالناصر ألقاها بمناسبة الاحتفال بذكرى شهداء الجامعة ألقاها بتاريخ 15 نوفمبر 1952 قال: إن حركة الجيش ما قامت إلا لتحرير الوطن، وإعادة الحياة الدستورية السليمة للبلاد وأن كل هدفنا هو أن نوفر للشعب حرية كاملة لا يمكن سلبها. وفى 30 يناير سنة 1953 صرح «جمال عبدالناصر» لمندوب وكالة الأنباء الفرنسية رداً على سؤاله: هل هناك نزاعات مختلفة بين الضباط؟! فقال: لا يمكن أن يقال إن اختلاف الآراء يدل على اختلاف النزاعات فالجميع متفقون على قيام نظام ديمقراطى دستورى سليم. ومن سوء حظ الثورة ومصر على وجه اليقين أن ثوار يوليو استعانوا فى تلك الفترة ببعض فقهاء وأساطين وجهابذة القانون الدستورى ولكل منهم تاريخ طويل عريض فى الدفاع عن الدستور والديمقراطية ومنهم مثلاً «على ماهر باشا» وهو واحد من أكبر الرموز السياسية فى العصر الملكى وزيراً ورئيساً للوزراء ورئيساً للديوان الملكى وهو أيضاً الذى كلفته الثورة بتشكيل أولى وزاراتها. وهناك «سليمان حافظ باشا» وكيل مجلس الدولة قبل الثورة وهو الذى أعد وثيقة تنازل الملك فاروق عن العرش ثم عينته الثورة وزيراً للداخلية وكذلك عبدالرازق السنهورى باشا رئيس مجلس الدولة.. وغيرهم! وفى مذكراته «الآن أتكلم» للأستاذ «خالد محيى الدين» عضو مجلس قيادة الثورة وقتها وأبرز المدافعين عن الديمقراطية والدستور يقول: وللتاريخ أسجل أن الدكتور عبدالرازق السنهورى وسليمان حافظ وعلى ماهر «أساطين القانون الدستورى» كانوا جميعاً يحرضون الضباط على تجاهل البرلمان والدستور، وطبعاً كانت هناك الكثرة الغالبة من الضباط الذين يستجيبون لذلك ويتقبلونه بحماس، بحكم أنهم يستشعرون مصلحتهم فى الاستمرار فى حكم البلاد بأنفسهم! ويعترف «سليمان حافظ» فى مذكراته عن الثورة بقوله: «اقتنعت اقتناعاً كاملا بوجوب إسقاط الدستور برمته، فقد كان طوال عهده موضع عبث ومحل امتهان وزالت قداسة الدساتير عنه وتزعزع إيمان الناس به فلم يعد سوى حبر على ورق، ولست أنكر نصيبى فى إسقاط الدستور، فما لبثت وقد اقتنعت بذلك حتى عملت فى سلسلة متتابعة من الاجتماعات مع الزملاء العسكريين - على إقناعهم برأيى، فترددوا طويلاً وتهيبوا كثيراً من الإقدام على هذا الأمر حتى أمنوا به مثل إيمانى». وفى اجتماع اللجنة المشتركة أواخر ديسمبر 1952 تقرر إسقاط الدستور وتعيين لجنة تمثل مختلف الاتجاهات لوضع مشروع دستور آخر تقره الأمة. إن أكثر ما يلفت الانتباه أنه حتى إعلان سقوط دستور 1923 كانت كل الأحزاب السياسية قد رحبت وأيدت وفرحت بالحركة المباركة، أو الثورة وهو التعبير الذى أطلقه عليها د. طه حسين ومنذ قيامها. لقد تصور الجميع أن هؤلاء الثوار أزاحوا وخلعوا الملك الفاسد وبعد ذلك يعودون إلى ثكناتهم لتقوم هذه الأحزاب والقوى المدنية بإدارة البلاد. إن تصريحات رموز الثورة هى من جعلتهم يؤمنون بهذا التصور، خاصة بعد أن دعت الثورة هذه الأحزاب إلى تطهير نفسها وهو ما حدث شكلياً وقدمت برامج جديدة تتناسب مع العهد الجديد وشعاراته. لقد عبر «أنور السادات» عن هذا المعنى أفضل تعبير فى سلسلة مقالاته بجريدة «الجمهورية» - لسان حال الثورة - عندما كتب يقول تحت عنوان «الثورة والدستور» ما يلى: «إن موقف الثورة من الأحزاب كان خاطئاً من البداية فهى - أى الثورة - كان حتما عليها أن تقضى على كل التركة التى خلفها لها العهد الماضى والأحزاب بشكلها الموجود كانت شيئاً مخالفاً لمفهوم الثورة. ويضيف السادات: وكان لابد للثورة المصرية بعد يوليو أن تسقط الدستور ثم بعد ذلك تضع للثورة دستوراً ينبع من حاجات الشعب لا مصالح الحكام أو الطبقات المسيطرة على الاقتصاد وكل شىء». وسقط دستور 1923 فى العاشر من ديسمبر سنة 1952 وصدر مرسوم بتأليف لجنة لوضع مشروع دستور جديد يتفق وأهداف الثورة من خمسين عضواً يمثلون جميع الطوائف والاتجاهات ورأس اللجنة «على ماهر باشا». وبعد عام ونصف العام قدمت اللجنة مشروعها، لكن الثورة ركنته ولم تلتفت إليه وتتعدد الروايات وتتناقض فى هذا الصدد «وليس هنا مجال شرحها». وبعيداً عن تحليلات ورؤى كبار الأساتذة الذين تناولوا مشروع دستور سنة 1954 ومنهم د. وحيد رأفت والمستشار طارق البشرى ود. ثروت بدوى والأستاذ صلاح عيسى أخيراً، فمن المهم أن أستشهد برأى الأستاذ «محمد فهمى السيد». أصبح فيما بعد المستشار القانونى للرئيس جمال عبدالناصر والذى ترأس اللجنة التى أعدت دستور سنة 1956 حيث يقول عن مشروع دستور 1954 الذى كان قد أحيل إلى مجلس الوزراء للاطلاع عليه أنه لا يحقق الأهداف التى قامت من أجلها الثورة بصورة كاملة، فهو وإن كان على مستوى عال من حيث الصياغة، إلا أنه لا يخرج فى إطاره العام عن دستور 1923 فيما عدا بعض تفصيلات أو أحكام فرعية مستحدثة أو أحكام معدلة نتيجة إلغاء النظام الملكى والأخذ بالنظام الجمهورى. وتضع الثورة دستورها والذى أعلنه جمال عبدالناصرر فى مؤتمر حاشد بميدان الجمهورية يوم 16 يناير سنة ,1956 والذى تبدأ كل فقرة من فقراته مقدمته بعبارة «نحن الشعب المصرى»!. وتم الاستفتاء على الدستور وعلى انتخاب رئيس الجمهورية يوم 23 يونيو سنة ,1956 كانت نسبة الموافقة على الدستور 6,97% والموافقة على جمال عبدالناصر بنسبة 9,99%». ولعل أبرز انتقاد يوجه إلى دستور 1956 أنه جعل رئاسة الجمهورية هى محور الحياة الدستورية كلها والمصدر الوحيد للشرعية الدستورية فى المجتمع بل لقد زاد الدستور على النظام الرئاسى زيادتين أولهما دمج السلطات والثانية ربط تكوين التنظيم الشعبى «الاتحاد القومى» بمشيئة رئيس الجمهورية كما جاء فى المادة 192 من الدستور فى حين أن النظم الرئاسية توازن سلطات رئيس الجمهورية بفصل يكاد يكون كاملاً بين السلطات واستقلال يكاد يكون كاملاً للسلطة التشريعية». لكن رأى فقهاء القانون الدستورى تاه ولم يلتفت إليه أحد وسط إنجازات اجتماعية واقتصادية هائلة ورائعة طالت وشملت كل أبناء مصر. إنها الثعالب الصغيرة مرة أخرى التى تسللت وأفسدت كروم الثورة، مرة تحت اسم أهل الثقة لا أهل الخبرة، ومرة تحت شعار كل الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب ومرة عندما أعطت القانون إجازة ومرة عندما سجنت واعتقلت أصحاب الرأى المخالف لها وماتوا داخل المعتقلات وهم يهتفون بإيمان حقيقى للثورة وقائدها جمال عبدالناصر. الثعالب الصغيرة هى من قادت مصر إلى هزيمة لم نكن نستحقها، وعندما اختفت هذه الثعالب أو توارت جاء انتصار أكتوبر العظيم .1973 كل البدايات كانت رائعة ونبيلة لكن الثعالب الصغيرة تفسد ختام هذه البدايات، إن هذه الثعالب الصغيرة هى التى قادت «السادات» إلى اعتقالات سبتمبر وحادث المنصة، وهى أيضاً التى قادت مبارك ونظامه إلى كل هذا الفساد والإفساد بل وتوريث مصر!! وتنتفض مصر فى 25 يناير وتثور على ظلم طال وفساد استشرى وعادت الثعالب الصغيرة تمرح فى كروم من بيدهم الأمر وفى ميادين التحرير. أرجوكم أوقفوا عبث ومؤامرة الثعالب الصغيرة التى أفسدت الكروم وتريد قتل مصر وليس فقط إفسادها!!