أسعار الذهب اليوم الجمعة 17-5-2024 في مصر    سعر السمك البلطي في الأسواق اليوم    «أوستن» يدعو لحماية المدنيين قبل أي عملية في رفح الفلسطينية    الجيش الإسرائيلي: اعتراض مسيرة أطلقت من لبنان وانفجار أخرى في الجليل الغربي    كندا تفرض عقوبات على أربعة مستوطنين    نهائي دوري الأبطال، كولر والشناوي يتحدثان عن مباراة الترجي فى مؤتمر صحفي اليوم    برشلونة فوق صفيح ساخن.. توتر العلاقة بين لابورتا وتشافي    «الأرصاد»: ارتفاع درجات الحرارة اليوم.. والعظمى في القاهرة 35 مئوية    تفاصيل الحالة المرورية اليوم الجمعة 17 مايو 2024    مهرجان كان، عرض فيلم Oh, Canada ضمن فعاليات اليوم الرابع    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17-5-2024 في المنيا    انطلاق امتحانات الفصل الدراسي الثاني لطلاب الشهادة الإعدادية بالجيزة.. غدا    الاغتسال والتطيب الأبرز.. ما هي سنن يوم «الجمعة»؟    حدث ليلا.. أمريكا تتخلى عن إسرائيل وتل أبيب في رعب بسبب مصر وولايات أمريكية مٌعرضة للغرق.. عاجل    الدولار يواصل السقوط ويتجه لتسجيل انخفاض أسبوعي وسط مؤشرات على تباطؤ في أمريكا    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الجمعة 17 مايو 2024    طائرات الاحتلال تطلق النيران بشكل مكثف على مناطق متفرقة في مخيم جباليا    الإثنين.. المركز القومي للسينما يقيم فعاليات نادي سينما المرأة    باسم سمرة يروج لفيلمه الجديد «اللعب مع العيال»: «انتظروني في عيد الاضحى»    استئناف الرحلات والأنشطة البحرية والغطس في الغردقة بعد تحسن الأحوال الجوية    «الأرصاد» تكشف طقس الأيام المقبلة.. موجة حارة وارتفاع درجات الحرارة    دعاء تسهيل الامتحان.. «اللهم أجعل الصعب سهلا وافتح علينا فتوح العارفين»    موعد مباراة ضمك والفيحاء في الدوري السعودي    «قضايا اغتصاب واعتداء».. بسمة وهبة تفضح «أوبر» بالصوت والصورة (فيديو)    بسبب عدم انتظام الدوري| «خناقة» الأندية المصرية على البطولات الإفريقية !    شريف الشوباشي: أرفض الدولة الدينية والخلافة الإسلامية    لبلبة: عادل إمام أحلى إنسان في حياتي (فيديو)    النمسا تتوعد بمكافحة الفساد ومنع إساءة استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي    وقوع زلازل عنيفة بدءا من اليوم: تستمر حتى 23 مايو    بركات: الأهلي أفضل فنيا من الترجي.. والخطيب أسطورة    أضرار السكريات،على الأطفال    مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17 مايو 2024    الذكاء الاصطناعى.. ثورة تكنولوجية في أيدى المجرمين الجدد    ملف يلا كورة.. موقف شيكابالا من النهائي.. رسائل الأهلي.. وشكاوى ضد الحكام    تحرك جديد.. سعر الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 17 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    «رايحة فرح في نص الليل؟».. رد محامي سائق أوبر على واقعة فتاة التجمع    برج الجدى.. حظك اليوم الجمعة 17 مايو: "جوائز بانتظارك"    أحمد السقا يكشف عن مفاجأة لأول مرة: "عندي أخت بالتبني اسمها ندى"    سيد عبد الحفيظ ل أحمد سليمان: عايزين زيزو وفتوح في الأهلي (فيديو)    بعد اختفائه 12 يومًا.. العثور على جثة الطفل أدهم في بالوعة صرف بالإسكندرية    " بكري ": كل ما يتردد حول إبراهيم العرجاني شائعات ليس لها أساس من الصحة    «واجبنا تجاه المنافع المشتركة والأماكن والمرافق العامة» .. موضوع خطبة اليوم الجمعة    محافظ الغربية: تقديم الخدمات الطبية اللائقة للمرضى في مستشفيات المحافظة    تركيب المستوى الأول من وعاء الاحتواء الداخلي بمفاعل محطة الضبعة النووية    الدراسة بجامعة القاهرة والشهادة من هامبورج.. تفاصيل ماجستير القانون والاقتصاد بالمنطقة العربية    براتب 1140 يورو.. رابط وخطوات التقديم على وظائف اليونان لراغبي العمل بالخارج    كارثة تهدد السودان بسبب سد النهضة.. تفاصيل    شروط الحصول على المعاش المبكر للمتقاعدين 2024    المظهر العصري والأناقة.. هل جرَّبت سيارة hyundai elantra 2024 1.6L Smart Plus؟    ترقب المسلمين لإجازة عيد الأضحى وموسم الحج لعام 2024    عاجل - واشنطن: مقترح القمة العربية قد يضر بجهود هزيمة حماس    لا عملتها ولا بحبها.. يوسف زيدان يعلق على "مناظرة بحيري ورشدي"    كلمت طليقى من وراء زوجي.. هل علي ذنب؟ أمين الفتوى يجيب    طارق مصطفى: استغللنا المساحات للاستفادة من غيابات المصري في الدفاع    براميل متفجرة.. صحفية فلسطينية تكشف جرائم إسرائيل في غزة    طريقة عمل بيكاتا بالشامبينيون: وصفة شهية لوجبة لذيذة    للحفاظ على مينا الأسنان.. تجنب تناول هذه الفواكه والعصائر    تنظم مستويات السكر وتدعم صحة العظام.. أبرز فوائد بذور البطيخ وطريقة تحميصها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثورة يوليو من نافذة سليمان حافظ
نشر في الشروق الجديد يوم 05 - 05 - 2009

كنت وما زلت أعتقد أن أجلّ خدمة يقدمها السياسى لوطنه بعد أن يغادر منصبه أو يغادره منصبه أن يكتب مذكراته، ذلك أنه بعمل كهذا يتيح للباحثين وصناع القرار معا أن يبحثوا عن مكامن الأخطاء التى وقعت ومصادر ما تم إنجازه من أمور صائبة، ومن ثم يسير سعى الوطن من أجل تحقيق أهدافه فى خط بيانى صاعد. ولا يتطلب الأمر لتحقيق هذه الغاية أن يكون كاتب المذكرات قائدا «تاريخيا» أو مسئولا كبيرا، فالفائدة موجودة أيضا لمن شغلوا أدوارا متوسطة بل وحتى قليلة الأهمية فى بنية السلطة السياسية، فأحيانا ما يرصد هؤلاء ملاحظات عميقة الدلالة رغم ما قد يبدو للوهلة الأولى من صغر شأنها. وتزداد أهمية هذا الأمر عندما ندرك أن القادة «التاريخيين» لا يجدون عادة الوقت الكافى لكتابة مذكراتهم، ناهيك عن أنهم يفتقدون ملكة الكتابة أصلا، فضلا عن الهاجس الذى يسكنهم بشأن موقعهم من التاريخ والتوقيت الملائم لنشر ما يكتبون فى بلاد يبقى الحكام فيها على كراسيهم عقودا من الزمن.
ولا يقلل من أهمية مذكرات الساسة والزعماء أن تكون بها هنَّات أو سقطات تتعلق بدقة الوقائع أو مبالغات فى أدوار كاتبيها، فالمهم أننا نكون بصدد وثيقة تمثل معطى جديدا فى النقاش العلمى حول موضوع ما، وهى بهذا المعنى تقبل النقد والدحض.
من هنا؛ وجب الاحتفاء بصدور مذكرات سليمان حافظ بعنوان «ذكرياتى مع الثورة» والتى دون فيها تقييمه لمسار الثورة ودوره فى هذا المسار، وبالذات فى سنوات 1952 1954، وتنتمى هذه الذكريات إلى فئة المذكرات التى لا تقوم على تسجيل دقيق للوقائع وتقييمها أولا بأول، ومع ذلك فقد كتبت فى وقت قريب نسبيا من وقوع الأحداث، إذ انتهى الدور الفعلى لسليمان حافظ فى الثورة فى عام 1954 فيما انتهى من تدوين ذكرياته فى 23 يونيو 1956، ثم كتب لها ملحقا بعنوان «عود على بدء» فى سياق أزمة السويس والعدوان على مصر انتهى منه فى 8 يناير1957، وهو ما يجعل الأخطاء المترتبة على بعد الشُّقة الزمنية بين الحدث وتسجيله وتقييمه فى حدها الأدنى.
وتمثل هذه الذكريات نافذة يمكن الإطلال منها على ثورة يوليو، وهذه النافذة مرتبطة «بالغرفة» التى كان حافظ يشغلها فى بناء الثورة فى شهورها الأولى، ولم تكن هذه النافذة كما توضح الذكريات توفر له رؤية بانورامية للثورة، ولكنها كانت على أهميتها رؤية من منظور معين. وهكذا بدا سليمان حافظ غير مدرك حتى حقيقة علاقات القوى داخل معسكر الثورة نفسها، فقد ظن أن نجيب قائدها (ص 68). ولا شك أن هذا القصور فى إدراك سليمان حافظ لما وقع قد أثر على تصرفاته، وعلى الأحكام التى أصدرها على مسار الثورة. من هنا كانت ذكرياته مفيدة للغاية فى معرفة تفاعلات الذراع المدنية التى استعانت بها الثورة فى شهورها الأولى: وأقصد الوزارة (موقف الوزراء المدنيين من الثورة بصفة عامة)، وبدرجة أقل العلاقة بين هذه الذراع والذراع العسكرية الأصيلة للثورة (العلاقة بين مجلس قيادة الثورة ووزارة على ماهر وبين المجلس ووزارة نجيب، خاصة فى ظل التناقض المتزايد بين الأخير وبين مجلس قيادة الثورة)، غير أن فائدتها كانت فى حدها الأدنى فى الحكم على الخط الاستراتيجى للثورة واستشراف مستقبلها (كما سيتضح لاحقا من تقييم حافظ لاتفاقية الجلاء وقرار تأميم قناة السويس).
عن المنهج:
سجل سليمان حافظ ذكرياته عن الثورة بطريقة سردية، ولا أقصد بهذا أنها تخلو من التحليل، ولكنها كانت تتبع النهج التسلسلى التقليدى، فتنتقل من حدث داخلى إلى خارجى على سبيل المثال طالما أن هذا هو السياق الزمنى للأحداث، وهو منهج يعيب الباحث والمؤرخ، ولكنه لا يعيب بالضرورة كاتب المذكرات الذى يكفيه أن يقدم شهادته بأقصى درجات الموضوعية، وإن سبب قدرا من الإرباك والتشتت لقارئه إذ اختار أن تأتى هذه الشهادة على النحو الذى دونها به، والذى يشبه كثيرا نهج مؤرخ كبير كعبدالرحمن الرافعى.
وكما سبقت الإشارة فإن الذكريات قد دونت بعد شهور قليلة من انتهاء دوره فى ثورة يوليو، وبالتالى فإن مخاطر الذاكرة البشرية المعرضة للخطأ تبدو فى حدها الأدنى، وقد قارنت بين بعض الوقائع التى أوردها حافظ فى ذكرياته مع ما ورد فى أكثر مذكرات أعضاء مجلس قيادة الثورة دقة، وهى مذكرات عبداللطيف البغدادى، وكذلك مع بعض الوقائع المشتركة التى وردت فى «ملفات السويس» للأستاذ محمد حسنين هيكل فلم أجد ما يشير إلى عدم صدق وقائع ذكريات سليمان حافظ، وإن كان قد أورد الوقائع التى شارك فيها بدرجة كبيرة من التفصيل وهى مفيدة فى كل الأحوال باعتباره الشاهد الرئيسى عليها، وهكذا يمكن الانتهاء دون أن يدعى المرء لنفسه مسوح المحقق العلمى إلى صدق الوقائع الواردة فى الذكريات.
تبقى مسألة الحياد وقد حرص حافظ (ص31) على أن يذكر ضمن أسباب الفجوة الزمنية بين وقوع الأحداث وتدوينها خشيته من أن تتأثر كتابتها بالجو الذى كان يحيط به على نحو يؤثر فى تجرده، وهو ما يحمد له، لكن عين القارئ المدقق لا يمكن أن تخطئ تحامله على الوفد أو انحيازه لنجيب فى الصراع مع جمال عبدالناصر كما أشارت د.لطيفة سالم بحق فى تقديمها العلمى المحكم للذكريات (ص17)، وتكاد تكون المرة الوحيدة التى خرج فيها حافظ عن وقار أسلوبه وانضباطه مرتبطة بالوفد عندما قال «وترددت صيحة الوفديين فى جوانب البلاد ألا وفد بغير النحاس، وأنهم لن يتقدموا بإخطار تأسيس حزبهم دونه. ثم أقاموا مأتما شقت فيه الجيوب ولطمت الخدود، وتعالت أصوات الشكاوى من جور وزير الداخلية) أى حافظ (وقد هيأ لنفسه فرصة التنكيل بالوفد شفاء لغليل قديم...لكننى تصاممت عن ذلك الضجيج المصطنع، ولم أعبأ بشىء من هذا الهرج الزائف» (ص77). كما أنه أى حافظ قدر أن الوفد «لم يعدم السبيل بوسائله المعروفة فى الدس والوقيعة إلى إحداث ضغط غير مباشر على بعض أعضاء مجلس القيادة»، وكان بذلك يعلق على زيارة جمال عبدالناصر النحاس والتى «استصحب» فيها نجيبا على حد قوله، وكان واضحا أنها أغضبته إلى حد بعيد (ص78). أما موقفه من جمال عبدالناصر فسيجىء لاحقا.
غير أنه يذكر لسليمان حافظ فى معرض الحديث عن تجرده فى كتابة ذكرياته أنه مر على واقعة اعتقاله إبان العدوان الثلاثى على مصر فى نوفمبر1956 مرور الكرام، فلم يتاجر بها أو يذكر ضررا أصابه بسببها، وكان كل ما أورده بشأنها هو السطور الأخيرة من ذكرياته التى أشار فيها إلى اعتقاله وطيب نفسه فى «رفقة أصحاب بدّل الله عداوتهم إلى مودة» (ص51 52).
الثورة والشرعية القانونية:
ولج سليمان حافظ إلى ثورة يوليو 1952 من باب مهنته كرجل قانون بارز، فقد كان يشغل حين قامت الثورة منصب نائب رئيس مجلس الدولة لقسمى الرأى والتشريع، وكان يرأس المجلس آنذاك الدكتور عبدالرزاق السنهورى، وقد استدعى على ماهر رئيس أول وزارة فى عهد الثورة سليمان حافظ بصفته مستشار الرأى للحاكم العسكرى العام، وطلب منه أن يعد مع وزير العدل مشروعات تعديل بعض تشريعات الجيش بناء على طلب الثوار ففعل، وبعدها مباشرة كلف بعضوية لجنة ثلاثية يرأسها السنهورى لإعداد وثيقة تنازل الملك فاروق عن العرش، وعهد إليه بحمل الوثيقة للملك لتوقيعها، وهنا فإن شهادته فى هذا الصدد حاسمة، ويمكن للقارئ أن يطلع على تفاصيل تلك اللحظات الحاسمة فى تاريخ مصر فى صفحتى 42 و43 من الذكريات، واللتين وصف فيهما حافظ بدقة خلاَّبة مشاعر ملك مهزوم يحاول أن يخرج من ساحة المعركة مرفوع الرأس لكنه مدرك لحدود قدرته فى هذا الصدد.
ومنذ ذلك الوقت بدا سليمان حريصا كل الحرص على أن تكون كل تصرفات الثورة «مغلفة» برداء قانونى، وهو منطق قاصر، فالثورة هى الثورة، والحكم عليها يكون بما تحدثه من تغيير إيجابى أو سلبى وليس باتساقها مع صحيح القانون السائد قبلها، والذى لو كان قادرا على الوفاء باحتياجات التطوير والتغيير لما قامت الثورة أصلا، ولذلك بدت عملية تغطية أى تصرف للثورة بغطاء قانونى مع ما فى ذلك من انحيازات سياسية عبثية فى بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال عندما ثارت مشكلة ضرورة اجتماع البرلمان بمجلسيه لإقرار اختيار الملك الأوصياء على العرش كان مجلس النواب (ذو الأغلبية الوفدية) قد حل من قبل فى وزارة نجيب الهلالى، وعطلت الوزارة انتخابات مجلس جديد، وكان ممكنا قياس تنازل الملك عن الحكم على حالة وفاته التى نظمتها المادة 52 من دستور 1923، والتى كانت تستوجب دعوة مجلس النواب للاجتماع حتى لو كان منحلا، وكان موعد انتخابه يجاوز اليوم العاشر للوفاة، ويبقى مجلس النواب ممارسا لاختصاصه حتى يجتمع المجلس الذى يخلفه.
لكن البرلمان كان ذا أغلبية وفدية، ولذلك أجهد سليمان حافظ نفسه وكثف مشاوراته حتى انتهى إلى جواز الأخذ بوصاية دائمة هى التى ينطبق عليها شرط إقرار البرلمان لها ووصاية مؤقتة يمكن أن تصبح «قانونية» بتعديل الأمر الملكى رقم 25 لسنة1922 على نحو يكفل إنشاء الوصاية الدائمة وينظمها، وهو تعديل يمكن إقراره عن طريق مجلس الوزراء بحكم توليه السلطة التشريعية فى غيبة البرلمان عملا بالمادة 41من الدستور، وقام قسم الرأى بمجلس الدولة بإصدار فتوى تجيز هذا كله، وهو ما علق عليه حافظ بقوله «فباء الوفد بالخيبة، وبؤت مع السنهورى بالفوز... وأحسست يومئذ أن ثمة جبهة قوية قامت بين السلطتين الشرعية والفعلية يوثق بينهما مجلس الدولة بما له من مكانة مرموقة فى مجال القانون والعدالة» (ص 55).
والطريف؛ أن الموقف نفسه تكرر عندما صادف رجال الثورة ما صادفوه من متاعب مع عضوى هيئة الوصاية المؤقتة التى تكونت على النحو السابق (القائمقام رشاد مهنا ود.بهى الدين بركات) فتم إعداد تعديل يجعل الوصى المؤقت واحدا، ووافق مجلس الوزراء على التعديل وأصبحت الهيئة الثلاثية وصيا واحدا هو الأمير محمد عبدالمنعم.
هذا هو بدقة ما كان يعتبره حافظ «خضوعا» من الثورة للقانون، ويقول فى هذا الصدد «وقد جهدت وسائر الزملاء فى إحاطة أعمال الثورة فى شهورها الأولى بسياج من الشرعية...مما أنكره بعض الناس منى دون أن يحملوا أنفسهم عناء إدراك غرضى منه، وبالغوا فى التشنيع علىّ من أجله حتى قالوا إن لى غدة لا تهدأ أبدا حتى تفرز القوانين إثر القوانين». واللافت؛ أن رجال الثورة كانوا مدركين طبيعة ما يحدث، فكانوا يجادلونه على وفق ما ذكر: «أقاض أنت أم سياسى؟» ولا شك أن الثورة لابد أن تقيم لها بناءها القانونى الخاص، أما أن يكون هذا البناء مستمدا كل أركانه من النظام الدستورى والقانونى السابق عليها فهو رابع المستحيلات الذى حاول حافظ القيام به.
عن القضايا الخارجية:
ربما تكون القضايا الخارجية أكثر دلالة على أن سليمان حافظ لم يكن يدرك الأبعاد الكاملة لما شهدته مصر اعتبارا من صبيحة يوم 23 يوليو 1952، فهو يصدر الجزء الخاص بذكرياته عن «الكفاح للجلاء» (ص94) بقوله «ما كدنا نفرغ من مشكلة السودان العاجلة حتى تفرغنا إلى مشكلة الجلاء المزمنة ندرسها باهتمام لنقرر خطتنا فيها»، ومن المعروف أن اتفاقية السودان قد وقعت فى 13 فبراير 1952. أى أنه يعتبر أن التفرغ لموضوع الجلاء عن مصر قد بدأ بعد ذلك التاريخ، أى بعد أكثر من ستة شهور على قيام الثورة فيما يشير الأستاذ محمد حسنين هيكل (ملفات السويس، ص 192) إلى أن عبدالناصر طلب أن ترسل إليه ملفات المفاوضات المصرية البريطانية فى يوم 5 أغسطس 1952 بالتحديد (أى قبل مرور أسبوعين على الثورة)، وانكب على قراءتها قراءة متأنية دقيقة. ثم عقد سلسلة من اللقاءات مع مسئولين سابقين عن ملف المفاوضات قبل الثورة. وهنا يظهر كم كانت نافذة سليمان حافظ على ما يجرى نافذة جانبية لا تتيح له أن يرى المشهد بكامله.
اتخذ سليمان حافظ موقفا بالغ الحدة من توقيع اتفاقية الجلاء فى 1954 واعتبر مضمونها تفريطا فى حقوق لا يملك الثوار التصرف فيها، ورأى أن السبب فى ذلك هو ضعفهم بعد الخلاف مع نجيب، وظنهم أن الاتفاقية سوف تقوى مركزهم بين الشعب (ص133 وما بعدها)، وخلص إلى أن هذا نهاية المطاف مع الثوار، ومن المؤكد أن حافظ كان معذورا فى موقفه هذا حيث لا شك أن الثوار قدموا تنازلات جوهرية فى الاتفاقية، لكن عدم فهمه حقيقة رؤيتهم وبالذات رؤية جمال عبدالناصر جعله لا يرى الطابع التكتيكى فيما تم، وأن توقيع الاتفاقية لم يكن قفزا إلى عربة التحالف الغربى بقدر ما كان نقطة وثوب جديدة للثورة إلى موقع أفضل.
ومن الغريب؛ أن سليمان حافظ الذى أخذ على الثوار توقيعهم الاتفاقية تمسكا منه بثوابت النضال الوطنى قد تبنى موقفا غير مفهوم من تأميم شركة قناة السويس، فقد رأى أنه فى ذاته «عمل صالح» لكنه يخشى «أن يكون هؤلاء الشبان قد أقدموا عليه ارتجالا كعهدى بهم» (ص145)، وهو ما يثبت مرة أخرى أنه كان بعيدا كل البعد عن الإدارة «الاستراتيجية» لمسار الثورة إذا جاز التعبير، وأجهد نفسه حتى توصل إلى أن الحل هو أن تعلن مصر حيادها الدائم هى وقناتها بمعاهدة دولية، وعرض هذا الحل فى لقاء مع وزير العدل أحمد حسنى والشيخ الباقورى، ولما اعترض الباقورى بأن ذلك يقتضى الصلح مع إسرائيل أجاب بقوله «إنى لأرى الخير فى إنهاء حرب ليست بحرب، والإقرار بواقع لا جدوى من تجاهله»، وهو بهذا يثبت محدودية نظرته الاستراتيجية للأمور مرة أخرى. بل لقد أكمل اقتراحه بأن تعلن الدول العربية كافة حيادها. ولما أثار الباقورى اعتراضه الأخير بأن فكرة الحياد تعنى «انقطاع أملنا فى الإمبراطورية الإسلامية» ولاحظ موافقة أحمد حسنى على ما قاله الباقورى، شعر على حد قوله بأنهما يرددان صدى مطامح جمال وأحلامه، وقال ساخرا «أهى الإمبراطورية الممتدة من المحيط الأطلسى إلى الخليج الفارسى؟»، واستطرد «كيف تتعلقان بالأوهام فى هذا الموقف البالغ الخطر؟ وتعادلان الحقائق الواقعة بحلم إن تحقق فلن يكون ذلك إلا بعد عشرات السنين؟».
عن العلاقة بين سليمان حافظ وجمال عبدالناصر:
لم يكن سليمان حافظ كما سبقت الإشارة يعرف حقيقة دور جمال عبدالناصر فى الثورة، ولذلك كان مدخله فى التعامل مع الثوار هو محمد نجيب، ومن الواضح أنه كان يحمل لنجيب مشاعر طيبة، وكان إجمالا منحازا إلى صفه فى الصراع بينه وبين مجلس قيادة الثورة، وعندما وقع العدوان الثلاثى كان رأيه أن يعود نجيب إلى الحكم أو على الأقل يتولى القيادة العامة للكفاح المسلح، وكان هذا هو آخر ما أبداه من آراء قبل اعتقاله فى نوفمبر 1956. وإذا كانت مشاعر حافظ الفياضة تجاه نجيب مفهومة فإن عداءه لعبدالناصر الذى لا يمكن أن تخطئه عين المراقب لا يبدو كذلك، وقد بلغ هذا العداء حدا من الواضح أنه يؤثر على ما ابتغاه كاتب المذكرات لنفسه من حيدة وتجرد.
ينكر حافظ على عبدالناصر أى جوانب قوة فى شخصيته، فيتحدث عن «فزعه» إبان أزمة مارس1954 (ص119). ويقول فى معرض الدفاع عن رأيه بضرورة الإفراج عن محمد نجيب «إن حب الناس (لنجيب) ليعادله بغضهم لجمال لأمر لا يعلمه إلا الله»، وأن الإفراج عن نجيب سيكون له رد فعل ملحوظ فى تلطيف «ما يكنه الناس لجمال من بغض مكبوت» (ص144)، وعندما طرأت له فكرة حياد مصر إبان أزمة السويس يقول إنه كان قد أجمع أمره على الاتصال بجمال وصحبه «ولكننى كرهت كذلك أن أراه» (ص146)، ويصف عبدالناصر فى واحدة من أمجد لحظاته وهو يخطب فى الجامع الأزهر إبان العدوان الثلاثى بأنه «لا يكاد يلتقط أنفاسه» (ص148) وعندما يتحدث فى السياق نفسه عن استعداده لبذل دمه فى سبيل مصر يردف قائلا «ولكنى أسائل نفسى الآن: أأنا باذله من أجلها فأقدم أم من أجل جمال فأمسك» (ص151).
أما واقعة الاعتداء على السنهورى فقد بدأ بتبرئة عبدالناصر من التورط فيها معتقدا أن «تصرف جمال فى ذلك اليوم إنما يرجع إلى انفلات الزمام من بين يديه وصحبه إلى ضباط الصف الثانى» (ص130)، غير أنه عاد فتشكك فى صحة رأيه عندما أخبره أحدهم بأن السبب فى الاعتداء على السنهورى هو ترشيح حافظ له رئيسا للوزارة المدنية إبان التسوية التى اقترحها مع د.عبدالجليل العمرى للأزمة بين نجيب وأصحابه، ولما كان هذا أمرا لا يعلم به إلا أقل القليل فقد سأله حافظ عن مصدره فرد بأنه صديق حميم لمحمد أبو نصير وزير التجارة والصناعة وصلته موثوقة بعبدالناصر، وهنا علق حافظ قائلا «أفيكون جمال قد عرف بما دبر للسنهورى من شر وتعمد أن يخلى ما بينه وبين المعتدين إن لم يكن قد اشترك فى التدبير؟ إنه لجدير بى بعد ذلك ألا أبقى مطمئنا إلى رأيى السابق».
ومع ذلك؛ فقد أفسح للأمانة ذكرياته لدفاع عبدالناصر عن نفسه عندما زاره فى منزله وتحدث معبرا عن عتابه للسنهورى الذى اتهمه فى النيابة بتدبير الاعتداء عليه بعد أن امتنع عن مقابلته أى مقابلة عبدالناصر فى المستشفى عندما عاده ليطمئن على صحته، وطلب عبدالناصر من حافظ أن يستمع لشهادة صلاح سالم وقد أرسله عبدالناصر إلى مجلس الدولة ليرد المعتدين، وتحدث الأول فقصَّ كيف ذهب إلى المجلس واصطحب السنهورى وصاحبه إلى المستشفى مخترقا صفوف جمهور ثائر أفقده الغضب والاعتداء رشده، غير أن المدقق فى تسلسل الأحداث يلاحظ أن دفاع عبدالناصر عن نفسه جاء سابقا للواقعة التى أدت إلى تشكك سليمان حافظ فى تبرئته من التواطؤ فى حادث الاعتداء على السنهورى.
المراجعة:
انتهى دور سليمان حافظ فى الثورة فى أعقاب أزمة مارس1954، وبدا واضحا أن تأثيره فى مسار الأحداث قد تضاءل بما يتناسب مع ميزان القوى الجديد الذى أوجدته الثورة فقدم استقالته من منصبه كمستشار قانونى لرئيس الجمهورية، ودخل بعدها فى عملية مراجعة جذرية لموقفه من الثورة تضمنت انقلابا كاملا عليها. وبعد أن كان يصف الثورة بأنها «مباركة» تسير الأمة فى ظلها «موحدة الخطى إلى تحقيق آمالها»، وبأنها «ثورة تهدف إلى إحلال المثل العليا فى كل ناحية من نواحى الحياة محل مثل دنيا..» وبأنها «ثورة شاملة تؤذن بأنها سوف تكون آخر حلقة من سلسلة جهاد مصر فى سبيل الحياة التى هى جديرة بها» (ص73) يعود ليقول بعد أن غادر صفوف الثورة «وخبت فى الشعب روح الإيمان بنفسه بعد أن كانت الثورة فى أول عهدها قد أذكتها فيه..تحت ضربات البطش والإرهاب من حاكم عقد النية على الحكم بأمره، لا يكاد يستر نياته ما يصطنعه هو وأنصاره من مظاهر التهليل والتضليل...»، ويضيف «وراجت سوق النفاق وافتنت الصحافة فى تملق أصحاب السلطان حتى بلغت حد التقديس، وشارفت مشارف التأليه... وأضحى للناس وجهان: يبدون أحدهما للحاكم تلوح عليه مظاهر التأييد والتحبيذ، والآخر فيما بينهم يقطر ببغض العبيد وكراهية الأرقاء».
وعن دوره فى كل ما وقع يقول «وحاسبت نفسى فى خلوتى على تصرفاتى كلها منذ قيام الثورة حسابا دقيقا سجلت فيه متجردا سيئاتى وحسناتى، ووازنت بينهما فرجحت عندى إحداها الأخرى (!) وانتهيت من هذه الموازنة إلى أننى بذلت كل ما فى طوقى من جهد لخدمة وطنى، وإن كنت قد أخفقت فيما كنت أرجو، ومن ثم طابت نفسى وأطمأن قلبى».
ليست الأمور بهذه البساطة بطبيعة الحال، لكنها السياسة والرؤى والمصالح توحد حينا وتفرق حينا، ولعل حافظ لم يدرك أن الشهور التى اعتبرها ذهبية من عمر الثورة كان غيره يمطرها بوابل من اللعنات، وأن ما تلاها من أحداث رأى فيها ما أوضحته السطور السابقة كان بداية نضال جديد مثل مرحلة فارقة فى تاريخ مصر، ومن حق كل امرئ وجد نفسه فى أتونه أو تأثر بمجرياته أن يكون له رأيه فيه شريطة ألا يكون الحكم عليه على هذا النحو من التبسيط.
* * *
تبقى ذكريات سليمان حافظ عن الثورة مع ذلك وثيقة ضرورية لكل مهتم بتاريخ مصر المعاصر عامة وتقييم ثورة يوليو خاصة، وقد أتت بمنظور للثورة يتسق واتساع النافذة التى نظر منها صاحبها إلى تلك الثورة. وإذا كانت الذكريات لم تحمل مفاجآت مدوية أو تضيف جديدا جذريا لما سبقها فإنها مع ذلك كانت حافلة بتفاصيل مفيدة للغاية عن واقعة تنازل الملك عن عرش مصر فى الشهور الأولى من عمر الثورة، والصراع بين نجيب ومجلس قيادة الثورة، وبصفة خاصة مؤشرات السعى من قبل نجيب لتأكيد سلطاته، ومكامن الخطأ التى لم يرها حافظ فى جهود الثورة الأولى فى بناء تنظيم سياسى (هيئة التحرير)، ومسألة السودان، وغير ذلك. غير أن ثمة سببا آخر للاحتفاء بهذه الذكريات لابد من التنويه إليه، وهو أنها كتبت بلغة بالغة الرقى تدعو إلى الحسرة على ما آل إليه حال اللغة فى هذه الأيام، حتى لتكاد الذكريات أن تكون قطعة من الأدب الرفيع، وقد غمرنى شعور وأنا أقرأ الحوار الذى دونه حافظ باهتمام لافت بينه وبين كل من البغدادى وعامر إبان العدوان الثلاثى أننى أقلب فى صفحات رائعة نجيب محفوظ «أمام العرش» وهو يخط بقلمه المميز حوارا غير مسبوق بين حكام مصر المتعاقبين يقلبون فيه الرأى فيما فعلوا حين آل إليهم حكم مصر الحبيبة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.