بدأت المسيرة وقد ضمت فى معظمها الذين شاهدوا الواقعة ثم انضم إليهم كثيرون حتى وصلت إلى الشارع الرئيسى فى القرية... كانت فى الأصل احتجاجا على واقعة حدثت فى الصباح إلا أن جمهور المحتجين ضم أناسا كثيرين لا علم لهم أصلا بالواقعة، لكنه القلق الذى يصيب أفراده إذا ما تعرضوا لما يمس سمعتهم كمسلمين. لم يكن للمسيرة زعيم أو قائد كل فرد كان يهتف بما يشاء.... وعندما وصلت إلى الشارع الرئيسى بدأ الناس يهتفون... أوقفوا البلطجة.. أوقفوا الظلم توقفت حركة المرور من الاتجاهين... وجمعوا إطارات سيارات وأشعلوها. وقف والد البنت التى كانت سببا لتلك الواقعة التى حدثت فى الصباح مذهولا من منظر الناس وهم يتفرقون والدخان يتصاعد أعمدة للسماء.. تذكر كلمات زوجته المحذرة من تعليم البنت وماذا يفيدها العمل مدرِّسة وأن الأفضل لها هو الزواج. لا يدرى الرجل متى جاءت إلى ذهنه فكرة أن التعليم يميز بين الإنسان والحيوان لذلك فكر أن يرفع شأن ابنته الوحيدة ويتيح لها فرصة التعليم لأنه شخصيا عاش جاهلا يعنى حيوانا. كانت البنت حتى ذلك الصباح المشئوم للواقعة تسير كأنها تمشى فوق السحاب معتزة بنفسها أنها معلمة وتعتبر نفسها ملكة.. خاف عليها والدها فألبسها النقاب لأنها تعبر مكان السوق فى طريقها لعملها لم تكن تعبأ بالشبان خصوصا هذا الشاب الذى كان ينتظرها كل يوم ليحاول أن يلفت نظرها.. وقد وقع الشاب تحت ضغط سخرية مستمرة من أصحابه أن البنت الذى يحبها تعامله كحشرة فليبتعد عنها لأنه جبان.. وراهنوه إذا استطاع أن ينزع عنها النقاب ليرى وجهها. وفى ذلك الصباح سار بجوارها وطلب منها أن تكشف عن وجهها ليراه.. لم تعبأ به وشعر بإهانة من إشارة يدها أن يبتعد... وسط ميدان السوق قبض على ذراعها بقوة وسحب النقاب بغضب من فوق رأسها فانكشف وجهها وانحل عقد شعرها وانساب على كتفيها.. صفعها الشاب بقوة وانطلق وسط ذهولها وذهول هول الناس فى السوق.. تقدم أحدهم ووضع على رأسها النقاب.. ولم تتذكر البنت بعدها شيئا مما حدث. ووصل الخبر سريعا لوالدها فذهب إلى مكان الواقعة.. وقف مذهولا من منظر الناس وهم يتفرقون والدخان يتصاعد من كومة قاذورات.. تذكر كلمات زوجته المحذرة من تعليم البنت وماذا يفيدها العمل مدرِّسة والأفضل لها الزواج. لقد نجحت مسيرة الاحتجاج ذلك الصباح فى رفع قضية ضد الشاب وتم اعتقاله.. ورفضت المحكمة الإفراج عنه بكفالة وعليه أن يبقى فى السجن. بعد عدة أيام ذهب وفد من «والد» الشاب وأصدقائه وكبار رجال من القرية لزيارة والدى البنت والتفاهم معهما.... وكان بين الوفد الشيخ والأستاذ وعمدة القرية اعتذر والدا الشاب لوالدى البنت عن الواقعة الخطأ فى حق البنت وطلبت أم الشاب من أم البنت أن تعفوا عن ابنها القابع فى السجن وبكت أم البنت لأن ابنتها أيضا أصبحت سجينة فى البيت تخاف الخروج وامتقع وجهها بالحزن وضياع مستقبلها.. وطلب والد الشاب من والدى البنت العفو والصفح وطلبا أن تكون ابنتهما بحق وحقيقة.. وقد وضع هذا الاقتراح والدى البنت فى حيرة بدت عليهما وصمتا. قال أحد كبار الوفد إذا كان النصيب قد كتب البنت والشاب معا فعلينا أن نعتبر تلك الواقعة من عند الله ونقبل بها.. وسأل الشيخ أليس كذلك فقال الشيخ لله فى كل أمر حكمة وأن العفو من أطيب الأمور والله يحب العافين. وقال العمدة إن القضية إذا نظرت فى المحكمة ستكون الحكاية على كل لسان وذهاب البنت للمحكمة سينال من سمعتها أكثر من الواقعة التى حدثت فى الصباح. وقالت أم الشاب إن ابنها ليس سيئا وإنه يعمل وله نصيب من أرض والده وأن حبه الشديد للبنت جعله يرتكب هذه الحماقة. صرخ والد البنت وماذا سيقول الناس؟! وسمع تعليقات كثيرة من وفد المصالحة عن طبائع الناس وثرثرتهم وأن اسمى الشاب والبنت لن يكون فقط فى أوراق المحكمة بل على ألسنة الناس.. وعلى أى حال فالواقعة حديثة.. ومن عادة الناس أن ينسوا ما حدث. وقد وافق كل الموجودين على هذا التفاهم.. ومثل ما وضع والد البنت بصمة أصبعه على الأوراق الخاصة بسحب القضية.. وضع بصمة أصبعه على عقد زواج البنت والشاب. لا يمكن أن نتحدث عن باكستان وأن كان مجرد قصة نعرضها بدون أن نلقى نظرة سريعة على أهم الذين ساهموا فى إنشائها.. أو على الأصح فى انفصالها عن الهند والشاعر الفيلسوف القانونى والسياسى «محمد إقبال» الذى غنت مطربتنا العظيمة أم كلثوم من أشعاره «أقبل الليل» لقد أدرك محمد إقبال أنه من المستحيل قيام اتحاد بين مسلمى الهند وأتباع المذهب الهندى، لهذا كان لابد من تقسيم الهند إلى قسمين أحدهما للمسلمين والآخر للهنود. لم يكن إقبال متعصبا دينيا فقد كانت فكرته ضرورة تحتمها الظروف الراهنة فى ذلك الزمن.. آراؤه وأفكاره تشهد له بسعة الأفق والبعد عن التعصب فقد نظم الشعر عن موطنه «كشمير» ثم عن الهند ثم للمسلمين جميعا.. وقد رحل إقبال عام 1938 أى قبل تحقيق حلمه بدولة إسلامية منفصلة عن الهند.. باكستان.. وقد تكونت جماعة من المسلمين والهنود والمسيحيين للإشراف على بناء نصب تذكارى تخليدا لاسمه وفى مكتبات العالم كتب كثيرة عن محمد إقبال.. ولمحمد إقبال وعلاقة بكل شىء فى الحياة. •