حيرتنى كلمة «عولمة» كما يحير معسول الكلام فى أول علاقة حب.. أو.. أول.. نظام حكم.. فلا ندرى هل ستكون علاقة الحب مريحة متوافقة.. أو هل سيوفى الحاكم بكلامه الجميل ويكون حكمه عادلا متفاهما.. اخترت ثلاث أفكار من ثلاثة كتب لمؤلفيها.. اثنان من مصر ضد العولمة.. والثالث أمريكى معها. ∎رضاعة العولمة
من كتاب «القفز فوق العولمة» للدكتور الأستاذ «محمد رءوف حامد» المتخصص فى علم الأدوية والسموم، والمهموم بشئون العلم عموما والعولمة خصوصا.. كتب مقالا فى كتابه عن مؤتمر كبير عقد فى سان فرانسيسكو فى منتصف تسعينيات القرن الماضى عن العولمة وقد حضره خمسمائة من القادة على المستوى العالمى فى مجالات المال والسياسة والاقتصاد.. وتحدث عن رأى «برجينسكى» السياسى البولندى الأصل والذى كان مستشارا للأمن القومى للرئيس الأمريكى «كارتر».. تحدث عن رأيه فى انتشارالعولمة بتعبير «رضاعة العولمة» وقد استخدم «برجينسكى» هذا المصطلح لشرح نظرية العولمة.. إنها إشارة إلى الحليب الذى يفيض من ثدى الأم المرضع، وبخليط من التسلية المخدرة والتغذية الكافية يمكن تهدئة خواطر سكان المعمورة المحبطين!
ويشرح د.حامد أن الأطروحة تختص موضوعيا بما يمكن أن نطلق عليه «حلمة العولمة» من حيث أداة لتسكين المحبطين فى كل أنحاء العالم من جراء الرياح العولمية التى يصنعها هؤلاء القادة العولميون وغيرهم. والحق أن «برجينسكى» كسياسى كان محددا وواضحا فى استخدامه للكلمات.. حلمة.. خليط.. تسلية.. تغذية.. تهدئة.. يقول «د.حامد» إن التركيب البنائى لفكر السياسى البولندى الأصل وكذلك لمؤتمر العولمة يجسد حقيقة مهمة وهى أن شعوب العالم ومصائره ليست عند هؤلاء القادة أكثر من كرة صغيرة يسعون للهو بها لأطول زمن ممكن وألا يحدث لها أو.. فيها.. تعديل أو انفجار.. ومن هنا كانت سياسة «الحلمة».
ويتحدث د.رءوف حامد عن مناخ عمل هذه الحلمة إنها تعد بمثابة آلية استراتيجية فى إطار مناخ العولمة والذى فيه تهيمن اتفاقيات التجارة الدولية من خلال منظمة التجارة العالمية وتتلاشى الحدود، وتتكسر الوطنيات وتضمحل الصناعات المحلية وتتعاظم أحجام وقدرات الأموال القذرة الناتجة عن المضاربات، وتضعف اتحادات ونقابات العمال والمهنيين وتتقلص إمكانيات الحكومات فى الدول النامية، ذلك بينما يتضخم نفوذ الشركات متعددة الجنسية وتتعاظم أنشطة الدعاية والإعلان للترويج الاستهلاكى، كل ذلك بينما يتزايد انكفاء جزء كبير من النخبة.. من المثقفين والمفكرين والعلماء على الذات المحدودة من أجل الحفاظ على إمكانية مجاراة التطورات المالية والاستهلاكية.. وحتى لا تحدث انفجارات حادة أو ثورية تؤثر على كل التوجهات الجارية للعولمة فإن سياسة «الحلمة» تصبح ضرورة!
∎من يرضع حلمة العولمة؟!
يحدثنا د.رءوف حامد أن مستقبل هذه الحلمة مشكوك فيه فالتاريخ والكائنات الحية لايجرى فيها التطور من خلال مسيرة خطية.. حيث متغيرات الفعل ورد الفعل للاكتشافات والإرادة والقيم والفكر والأحلام.. وباختصار فالثورات على سياسة الحلمة ستظهر من الفئات المحرومة من تقسيم الكعكة للثروة على المستوى الدولى أو المحلى.. وبازدياد ظهور كوارث العولمة سيزداد ظهور الأفكار والجهود المواجهة لها.. سواء بطرق شرعية مقبولة.. أو بطرق غير شرعية تؤدى إلى عنف وإرهاب وخوف.. ويتساءل د.حامد.. متى سيتجه المفكرون والعلماء إلى تصحيح مسيرة العولمة لتنعكس منجزات وإيجابيات العلم والتكنولوجيا على العالم ككل وهو ما يشير إليه بالعالمية وهى تصحيح للعولمة.. ويتساءل: ما المواصفات الخاصة لذلك الإنسان الذى يفضل كفرد أو جماعة أن يستمر فى لعبة الرضاعة من حلمة العولمة؟!
∎الجرى وراء الذهب
ويبسط لنا فكرة العولمة الكاتب والمفكر «د.جلال أمين» من كتابه «العولمة» بمشهد من فيلم قديم «الجرى وراء الذهب» كتب قصته ومثله الممثل العالمى «شارلى شابلن» يقول د.أمين: يوجد مشهد فى الفيلم للممثل شارلى مع رجل سمين فى كوخ صغير أعلى جبل وقد منعتهما عاصفة ثلجية من الخروج لعدة أيام وقد استبد بهما الجوع - ويظهر «شارلى» وهو يطهو حذاءه ويشرع فى أكله بالشوكة والسكين.. ونرى الرجل السمين ينظر لشارلى باشتهاء فقد رأى فيه دجاجة كبيرة، وبدأ يطارده ليذبحه ويأكله.
يقول د.أمين: هذا بالضبط هو تصور كيف تُرى الأمور.. إن الذين يقولون إن العالم الآن قد هجر التصور الحالم ولم يعد هناك إلا منطق السوق والاقتصاد والثقافة.. أى طريقة الإنتاج يقولون لنا شيئا شبيها جدا بزعم هذا الرجل السمين فى الفيلم وهو أن «شارلى» ليس إلا دجاجة..
ويشرح لنا د.أمين فى هذا المقال من الكتاب أن السمات الخاصة بحضارة العولمة إنها حضارة تفكيكية .. فكما يريد الرجل السمين فى الفيلم أن يفعل بشارلى تعمد الحضارة الغربية إلى تفكيك كل شىء إلى عناصره الأولى.. فهو مسلك جيد إذا كان الغرض هو صنع آلة وزيادة كفاءتها الإنتاجية.. أو ما يسمى بالسيطرة على الطبيعة.. لكنه مسلك خطير ومضر إذا طبق على الإنسان والأسرة والأمة.. فلكى يسيطر المنتج على المستهلكين ويحولهم جميعا إلى دجاجة يسهل التهامها من المفيد فعلا تفكيك الفرد من أسرته ومن أمته، ومن بيئته.. باسم الفردية مرّة.. وباسم الحرية الشخصية.. وباسم التنوير.. وهذا يصور لنا على أنه نتاج حضارة إنسانية عامة يلتزم على الجميع اتباعها.. لأنها تستجيب لنوازع طبيعية فى الإنسان.. ولذلك فإن انتشارها حتمى.
ويرى د.أمين العكس تماما.. فما تعمل هذه الحضارة على نشره يتعارض مع النوازع الطبيعية فى الإنسان، فتفكيكه على هذا النحو ينطوى على عملية أشبه بالقتل.. ثم إن ظاهرة ما قد تكون حتمية لشخص ما.. أو أمّة بعينها.. لا تكون بالضرورة بالنسبة لآخر وضرب أمثلة بدول العالم.
∎السيارة ليكساس وشجرة الزيتون
ولنأخذ فكرة عن الرأى المؤيد بشدة لفكرة العولمة من كتاب بهذا العنوان للكاتب الصحفى الأمريكى الشهير «توماس فريدمان» ويلخص لنا أهم ما فى هذا الكتاب «د.محمود عبدالفضيل» فى مقال نشر له فى مجلة الهلال الثقافية عام 2000 وليس معنى شرحه للكتاب إنه يؤيده!.. فهذا الكتاب يعتبر نموذجا لتسويق وترويج العولمة باعتبارها طوق النجاة وطريق المستقبل لبلاد العالم.. وهو حافل بالقصص والحكايات التى تمجد لآليات العولمة وتحمل فى ثناياها التهديد والوعيد لكل من يقاوم أو يخرج عن دائرتها.. يحدثنا د.عبدالفضيل عن معادلة السيارة ليكساس مقابل شجرة الزيتون إن هذه السيارة وهذه الشجرة رمزان لتناقضات العالم المعاصر.. فالسيارة ليكساس اليابانية الفاخرة رمز السرعة والتقدم والرفاهية.. وسعى الإنسان نحو التقدم والازدهار فى ظل العولمة.. بينما شجرة الزيتون ترمز إلى الجذور والأصالة والانتماء والتمسك بالأرض والعادات والتقاليد.
والسؤال المركزى كيف يمكن تحقيق التوافق بين الإحساس بالوطن والانتماء وبين السعى نحو الرقى والتقدم فى ظل العولمة؟! وهذا صعب فالانخراط فى مسارات العولمة هو الطريق الوحيد للتقدم بينما الاحتفاظ بالهوية هو طريق التخلف!!
يشرح د.عبدالفضيل أن الرسالة الأساسية لكتاب «فريدمان» تتمثل فى المقولة إن العولمة ليست اختيارا.. إنها حقيقة، لاتوجد سوى سوق عالمية واحدة.. والطريقة التى تريدها لنمو شعبك هى السرعة بالانفتاح على أسواق الأسهم والسندات العالمية وإلى الشركات متعددة الجنسية لِكىْ تستثمر فى بلدك.. ويشرح «فريدمان» القطيع الإليكترونى بإسهاب.. من ناحية المستثمر مجهول الجنسية والمستثمر خلال الشركات العالمية.
وبالرغم من أن مؤلف الكتاب يؤيد ويروةللعولمة إلا أنه ينصح بالابتعاد عن الأخطار.. أو بمعنى «خد بالك» فالانضمام إلى الاقتصاد العالمى والالتحام بالقطيع الإليكترونى يعادل تماما طرح دولتك للاكتتاب العام.. إنه تحويل بلدك إلى شركة عامة مع اختلاف هو أن حملة الأسهم لم يعودوا مواطنى بلدك وحدهم.. إنهم أعضاء القطيع الإليكترونى أينما وجدوا.. إنهم يدلون بصوتهم كل يوم خلال صناديقهم المشتركة وصناديق المعاشات وسماسرتهم وأكثر عبر الإنترنت وهم قابعون فى منازلهم ووفقا لهذه الرؤية أصبح ذلك القطيع الإليكترونى يتحكم فى مصائر الشعوب والحكومات.
وينصح الكاتب الأمريكى أن تتعلم الدول كيف تحصل على أفضل ما يمكن من هذا القطيع بدون أن تنسحق تحت أقدامه.. أو تصدمها اندفاعاته.. إذ أن هذا القطيع الإليكترونى يشبه سلكا كهربائيا به تيار ذو فولت عال يصل بيتك فى الأوقات العادية فتستفيد منه.. لكن إذا لم يكن لديك منظم للتيار الكهربائىللوقاية فى حالة اندفاعه أو انخفاضه.. فقد يصعقك أو «يقليك» حتى تصبح هشا ويتركك جثة هامدة..