إذا كانت مصر «الجغرافية» هبة النيل، فمصر «التاريخية» في الغالب هبة الدين. فالأخير شكل برقائقه المتتابعة في معابد الفراعنة وكنائس القبط ومساجد المسلمين، مكونا رئيسيا للشخصية المصرية، فبدت مصر وثيقة من جلد رقيق، الإنجيل فيها مكتوب على ما خطه هيرودوت، وفوقهما القرآن، وتحت الجميع لا تزال الكتابة القديمة تقرأ بوضوح وجلاء. فالدين كان دافع الفراعنة إلى التفوق العلمي، في بحثهم عن الخلود بعد الموت، وهو الذي مثل جوهر الصراع المرير بين الرومان والمسيحيين الشرقيين ستة قرون كاملة. ومنح الإسلام مصر هويتها العربية، منذ ما يقرب من أربعة عشر قرنا، والدفاع عنه، في مواجهة الصليبيين والتتار، شكل الملح الرئيسي لتاريخ مصر في العصر الوسيط. وهذا التراكم متعدد الأبعاد جعل الشخصية المصرية متدينة بطبعها، ولذا لا عجب من أن عدد الجمعيات الخيرية بمصر هو الأكبر في العالم أجمع. وهناك دراسات ترصد تراجعا لدور الدين في الحياة العامة للعرب المحدثين. ففي النشاط الاقتصادي، باتت الكلمة العليا للربح والدعاية والتنافس من دون الارتكان، في الغالب الأعم، إلى الأخلاقيات الدينية. وفي مجال الحركة السكانية، حسم النزاع بين التصور الأخلاقي الإسلامي ومقتضيات الحياة الاجتماعية، حيث الضغوط الاقتصادية على الأسر العربية، لصالح الأخيرة، ممثلا في تنامي الاتجاه إلى «تنظيم النسل». وفي مجال بناء المجتمع، تراجع دور المؤسسات الدينية في الضبط الاجتماعي والانضباط السلوكي، علاوة على التحدي الذي يواجه الدين من قبل المتابعين لحركة الصراع الاجتماعي، متهمين القائمين عليه بأنهم لم يناصروا، إلا في حالات استثنائية وعبر فترات زمنية متقطعة وأمكنة متباعدة، المضطهدين والمهمشين. وبالتوازي يتراجع الدور العلمي للدين لحساب الانغماس في الخرافات، وكذلك دوره في حركة المعمار والتشييد، على العكس مما كان سائدا في القرون التي خلت. على النقيض من ذلك تماما تستمر علاقة المصريين بالدين قوية، لاسيما أنها تسمح في كل وقت ومكان له بأن يضع بصمته على الحياة الخاصة والعامة. فالشعور الديني هو من أهم الخصائص التي جعلت المصري مصريا. فمصر، كما يقول الدكتور زكي نجيب محمود: «هي أقدم بلد في الدنيا بأسرها امتلأ بذلك الشعور الديني، ومن طول المدة التي أشرب فيها المصري بوجدانه الديني، أصبح ذلك الوجدان جزءا من كيانه، يلازمه ملازمة اللون الأسمر لجلده». هكذا يدخل الدين في نسيج الحياة الاجتماعية والسياسية المصرية، ربما أكثر من أي مكان على سطح الأرض، خاصة مع ظاهرة «الإحياء الإسلامي»، التي نقلت التصور الديني من رؤية إصلاحية نظرية لدى محمد عبده إلى حركة سياسية على يد الشيخ حسن البنا، لتفرض مع موجة العنف التي لطمت الحياة السياسية المصرية في أواخر القرن المنصرم، تساؤلا حول ما إذا كان الدين يشكل لدى البعض عاملا للهدم لا البناء، تدينا لا تدنيا، في مخالفة تامة لرسالات السماء، التي أرادت الخير للناس. لقد سعى المتطرف من الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي، إلى تكفير الحاكم ومؤسسات الدولة، مهما كانت صغيرة أو مقصية عن بؤرة صنع القرار، أو مركز الهيمنة والتحكم في جسد الدولة المصرية الفارع، ثم راحت تنظر إلى المجتمع على أنه «جاهلية جديدة»، ومن ثم استحلت دماء الناس وأموالهم، وحللت حتى قتل الأبرياء في سبيل إقامة ما تسميه «نظام الحكم الإسلامي». وفي حقيقة الأمر فإن هذه الجماعات والتنظيمات حين كفرت الحاكم لم تكن تريد إصلاحا سياسيا بل رمت إلى استبدال الحاكم «الكافر» من وجهة نظرها بآخر «مؤمن» حسب مقاييسها، لتطرح تصورا لن يقود في خاتمة المطاف إلا إلى «ثيوقراطية» أخرى، تحت لافتات جديدة، قائمة على فهم مغلوط لروح النص القرآني، هي «الحكم بما أنزل الله» و«تطبيق الشرع» و«حكم الجماعة المؤمنة» و«الخلافة الإسلامية». وهذه الشعارات لا تقود في حد ذاتها إلى شكل من أشكال «الحكم الإلهي» لو تم تأويلها وفق الجوهر الصافي والمقاصد الأساسية للدين الإسلامي الحنيف، لكنها تؤدي، حسب طرح هذه الجماعات والتنظيمات، إلى إنتاج إطار إيديولوجي لحكم ثيوقراطي، الأمر الذي يعني إعادة إنتاج صورة «الحاكم الإله» التي كانت سائدة في مصر القديمة، في وقت يكافح المصريون من أجل التخلص من الاستبداد والفساد، لتولد دولة مدنية ديمقراطية، يستعيد فيها الدين جلاله الروحي وعطاءه الأخلاقي العظيم، وينأى بنفسه عن لعبة السياسة التي تضر قدسيته في كل الأحوال. --------------------------------------------------------------------------------------------- احذروا فتنة فريدمان تركي علي الربيعو الخليج الاماراتية ما بين “ليكساس وشجرة الزيتون: فهم العولمة 1999” كتاب فريدمان الأكثر شهرة،وكتابه الجديد “العالم المسطح” ظلّ توماس فريدمان نموذجا للكتابة الاستعراضية، ونموذجا للداعية المبهور بالعولمة كما وصفته “اللوموند ديبلوماتيك” بعد صدور كتابه السالف الذكر “ليكساس وشجرة الزيتون “ فثمة خفة في تناول أحداث مهمة، فالصراع العربي “الاسرائيلي” منظورا له عبر فريدمان، لا يزيد على كونه صراعا بين قوى تقليدية تتحارب حول بضع شجيرات من الزيتون هي رمز كل ما هو قديم، وتتنافس حول أيهما أحق بملكيتها، والعالم من وجهة نظر فريدمان لا يزيد على كونه ميدانا لهواة الغولف، لنقل معه، لقادة “القطيع الالكتروني المعولم”. والمؤلف بحسب فريدمان من نوعين من الماشية، ماشية قصيرة القرون ممثلة بشركات المضاربة وماشية طويلة القرون ممثلة بالشركات متعددة الجنسية، ومن وجهة نظر فريدمان، فإن الماشية الطويلة القرون وكذلك القصيرة تطرح على الشعوب والأفراد السؤال التالي: اما أن تكونوا مع العولمة والا سيتكفل القطيع الالكتروني بدهسكم مرة واحدة وإلى الأبد . لا تستفزني شخصيا مطارحات فريدمان عن العولمة، أو عن “العالم المسطح” ولكن ما يقلق هي تلك المعادلات المستحيلة التي تقفز الى واجهة الميول الاستعراضية لفريدمان، فإما أن نكون مع العولمة أو نصبح فرائسها، واما أن نكون مع أمريكا وإلا فنحن ارهابيون، واما أن نصفق لشارون وإلا فنحن معادون للسلام. هذه المعادلات المستحيلة سرعان ما تجد لها حلولا سطحية عند فريدمان، خصوصاً ان العالم قد أصبح مسطحا كما يقول فريدمان، أي على هيئة أقرب من القرية الصغيرة، وعلى ما يبدو فإن التسطيحية التي ينظر لها فريدمان قد أصابته بشظاياها، ففي مقالته الأخيرة في “نيويورك تايمز” “سنة العراق: ماذا تريدون بحق السماء؟” راح فريدمان يصف حلولا سحرية تطل الفتنة من ثناياها، فاما أن يقبل سنة العراق بالدستور والاحتلال معا، أو “يتعين علينا أن نسلح الشيعة والأكراد ونترك سنة العراق يحصدون الريح”. كان فريدمان، قد كتب في “نيويورك تايمز” قبل ان يتفرغ لكتابة كتابه الأخير، يقول آمل أن أعود بعد ثلاثة أشهر لأجد سنة العراق وقد تحولوا الى مخبرين للجيش الأمريكي وأدلاء على الارهابيين. هكذا بالحرف الواحد، انه لا يتصور للسنة مكانا الا كمخبرين لجيش الاحتلال. من هنا مصدر تساؤله “سنة العراق: ماذا تريدون بحق السماء؟”. ان فريدمان يدرك أن تعبير “سنة العراق” ينطوي على رؤية أمريكية حسيرة للواقع العراقي وواقع المنطقة العربية التي لا تزيد على كونها فسيفساء لأقليات وطوائف مذرورة على مهب الريح الأمريكية و”الاسرائيلية” التي ما فتئت منذ سنوات تضع المزيد من الخطط، وكان أشهرها “خطة “اسرائيل” في الثمانينات” التي فضحها البروفيسور “الاسرائيلي” وأستاذ مادة الكيمياء العضوية اسرائيل شاحاك الذي توفي منذ فترة، فالسنة من وجهة نظر فريدمان هم كل رافض للاحتلال وراغب في الانتحار، كذلك الشيعة والأكراد الذين يشكلون 80% من الشعب العراقي، فهؤلاء مع أمريكا ومع بقائها، بهذه الخفة يصبح كل الشيعة مع الاحتلال، وكذلك الأكراد، وهو قول يكذبه واقع الاحتلال في العراق، على صعيد الشيعة والأكراد معا. ما يقلق فريدمان، أن السنة يطالبون بأكثر من حجمهم، وهي مطالب أرهقت الأمريكيين، وأرهقت “محامي السنة”، أي السفير الأمريكي زلماي خليل زاد كما ينعته فريدمان. من هنا مصدر قوله: ماذا تريدون بحق السماء؟ والذي يدل على حالة من نفاد صبره وصبر المحتل أيضا ازاء هذه الأقلية المزعجة التي لا حل لمطالبها الا بضربها على رأسها، مرة ب “الخنجر” وأخرى ب “العاصفة” وثالثة ب “الشفق” كما تدل أسماء المعارك التي تخوضها قوات الاحتلال الأمريكي في الفلوجة وسامراء وتلعفر والموصل وغيرها من المدن العراقية المحتلة. على أن فريدمان يذهب الى أكثر مما ذهبت اليه القوات الأمريكية على ارض الواقع، فهو يشير باصبعه الى أن المطلوب هو أن نسلّح الشيعة والأكراد ونترك سنة العراق يحصدون الريح”. يختم فريدمان مقاله بقوله: “يجب ألا نلقي بمزيد من أرواح الأمريكيين الطيبين من اجل أناس يكرهون الآخرين أكثر مما يحبون أطفالهم”. مساكين هم “الأمريكيون الطيبون” الذين جاؤوا من أعالي البحار كرسل هداية من اجل أن يعمّدوا ويطهروا “العراقيين الأشرار” من كراهيتهم، وعلى ما يبدو من كلام فريدمان الذي يحلو له أن يستشهد بأقوال مثقفين من “عرب الأفكار الثانية” كما ينعتهم ادوارد سعيد، فان الحاجة تقتضي أن نحافظ على أرواح الأمريكيين، وندع هؤلاء الأشرار العراقيين يقتتلون فيما بينهم، بحرب أهلية لا تبقي ولا تذر، شرط أن “نسلّح الأكراد والشيعة” فخير العلاج للسنة هو الكي بمبضع الأهل، كما يقترح فريدمان. انها نذر الفتنة المضمرة وراء نصيحة فريدمان، وقديما قالت العرب ان النصيحة بجمل، ولكن على ما يبدو فان جمل العراقيين يرفض أن يلج الى الخرم الضيق للعالم المسطح الذي يدعو اليه فريدمان، لنقل الى خرم الاحتلال والحرب الأهلية التي يتمناها فريدمان، لذلك فقد آثر العراقيون وجملهم المقاومة على القبول بالمحتل، وبهذا يقدمون الجواب الصحيح عن تساؤل فريدمان؟ البيان الاماراتية