«الشهداء» السابقون.. و«الأبطال» اللاحقون مشكلتنا في مصر أننا ننسي.. ومشكلتنا في مهنة الصحافة أننا نتناسي.. ومعضلة الإعلام - والصحافة في القلب منه - أنه لايمكن أن يقر بالخطأ.. ومصيبة نخبتنا أنها صارت تنقاد إلي الصحافة ويغويها الإعلام.. فلا عقل أعملت ولا رأي سديد قالت ولا موقف اتخذت.. لذا فإنه من الطبيعي أن تستفحل المشكلات وتتضخم الأخطاء وتنهمر الخطايا. عقل المجتمع سلم نفسه إلي الرذائل الفكرية. أسكرته الحرية.. فاستمرأ العبث بها.. ومن ثم فإنه يخطئ في التشخيص.. فيظن العلاج مرضاً.. ويتوهم الورم نمواً.. ويعتقد أن الخبيث حميد.. والسم ترياق.. وحين يدخل المجتمع إلي غرفة الرعاية المركزة فإنه يصرخ منددا بالحكومة التي لم تعالجة علي نفقة الدولة(!!) ديست القواعد تحت الأقدام.. وحرق بركان الشهوة قيم المهنية.. وتحولت الصحافة إلي سياسة وشنقت أحبال السياسة عنق الصحافة.. فتصورت الصحف أنها أحزاب.. وتخيلت المحطات أنها قيادات.. وصارت المذيعات ناشطات.. والمذيعون زعماء.. وركعت النقابات بلا قوة.. ودفنت المواثيق في قبور تعاني من عذاب أنها مهملة بلا قيمة.. منسية لا تأثير لها. قبل أسابيع تورطت صحيفة (اليوم السابع) في الإعلان عن رواية عنوانها (محاكمة محمد)، ونشرت تنويها مطولا عنها تضمن تشويهات مذهلة وتجرؤات أزعجت المؤمنين.. اعتذرت الصحيفة.. وجري تحقيق قضائي لانعرف أين انتهي. ولم يمض وقت طويل حتي كانت نفس الصحيفة وصحفا أخري قد اقترفت مجموعة أفعال ذات أبعاد طائفية مؤثمة.. بدءاً من الهرولة نحو نشر صور مزعومة بالحجاب لزوجة كاهن المنيا تلك التي اختفت وقتا إلي أن قالت الكنيسة أنها في حوزتها واسمها كاميليا.. ومروراً بالتنافس بين الصحف الخاصة علي نشر تصريحات تحدث فتنة ما بين المسلمين والمسيحين.. سواء كان مصدرها مسيحياً أو إسلامياً.. وصولا إلي نكايات مختلفة ومزايدات علي نشر مقالات تصب زيتا يلهب النار. الصحافة، وهي تقود الإعلام بأساليب مختلفة لا شك في ذلك، أصبحت منبع الفتنة، تفجرها وتأكل منها، وصارت منابر للطائفية والتنابذ.. وهذا بعض من انفلاتها.. وتهور الحرية التي تستند إليها.. ففي جعبة الخطايا سيل يجرف في طريقه عشرات من ركائز المجتمع.. تداخل في تفاعلات الاقتصاد بما يخل بالمصالح والتنافس السليم.. وحملات تشويه مخططة ومستمرئة لشخصيات بعينها في المجتمع. في الأسبوع الماضي صدر قرار حكومي واحد بالتدخل في عمل الإعلام، حين أوقف القمر الصناعي (نايل سات) بث قناة البدر التي يملكها أردني، لأنها تروج خطابا طائفيا، وقد كان من المدهش أن تصدر المنظمة المصرية لحقوق الإنسان بيانا تقول فيه إن هذا انتهاك لحرية التعبير.. إن مثل تلك البيانات إنما تفقدنا الثقة في مصداقية منظمات حقوق الإنسان التي تستغرق في الادعاء بالدفاع عن المبادئ السامية حتي لو أدي تطبيقها الحرفي إلي حرق المجتمعات التي تستفيد - كما هو مفترض - من حرية التعبير. لكن الحكومة التي لم تتداخل بأي طريقة في مجريات أخري في سوق الإعلام، الخاص، أصبحت متهمة بأنها تقوم بحملة لتكميم الأفواه، وصفت بأنها مدبرة ومخططة، صار البعض يتندر علي أن فيها (سابقون) و(لاحقون)، وأصبح هناك من يقول (علي من سيأتي الدور؟)، وقد بررت الترديدات هذه الحملة المزعومة بأنها تهدف إلي (إسكات الأصوات التي سوف تتكلم عن تزوير الانتخابات).. وهنا أريد أن أسجل عددا من النقاط: -أولاً: حتي الآن لم تستجب الحكومة وسلطة الإعلام لمناشدات ومطالبات مختلفة وجهت إليها بشان مجموعة من القنوات التي تستأجر مساحات من (نايل سات) وتردد خطاباً طائفياً قد يؤدي إلي كوارث في مصر.. وهذه (التأجيلات) تسبب لوما عنيفا لسلطة الإعلام في الأوساط المؤسسية.. لا أعتقد أنها سوف تحتمله لزمن أكبر. - ثانياً: تحدثت مؤسسات مصرية مختلفة عن أن الاقتراب من العقائد هو خط أحمر، وفي الصدارة منها مؤسسة الأزهر، ومؤسسة الكنيسة، ومؤسسة المجلس الأعلي للصحافة، وبما في ذلك تصريحات صادرة عن وزير الإعلام، وتجتمع اليوم نقابة الصحفيين برؤساء التحرير لمناقشة المسألة ما يدل علي أن للأمر أبعاداً خطيرة استدعت كل تلك التحركات. - ثالثاً: في الأسبوع الماضي أدي التنافس بين صحيفتين علي نشر مادة طائفية، إلي وقف نشر مقال في جريدة خاصة، تلاه (نكاية في الجريدة الأولي) نشر المقال في الجريدة الثانية.. أي منع المقال في المصري اليوم والسماح به في الدستور.. ما أدي إلي تفجير موقف مكتوم ومعلن ومعروفة أبعاده في الدستور.. منذ تغيرت ملكيتها.. حيث تعمد رئيس التحرير أن يصطدم بعقيدة أحد مالكي الصحيفة الجدد.. حتي لو كانت الأزمة قد صيغت علي انها (تدبير رسمي متآمر). - رابعاً: لم يقحم الإعلامي عمرو أديب نفسه في كل هذا الصخب والتزم الصمت منذ قررت إدارة محطة أوربيت إنهاء تعاقدها معه.. ولم يدل بتصريح واحد يحاول فيه أن يتلبس دور الشهيد الذي تلبس آخر ين اصطدموا بملاك صحفهم وأرادوا أن يحولوا معاركهم المالية الصغيرة إلي مشكلات كبيرة.. وهي ليست كذلك. - خامساً: لا أعتقد أنه يمكن قبول انتقاد سافر في التليفزيون الرسمي لوزارة الداخلية كما جري في برنامج علاء صادق في قناة حكومية.. وقياسا عليه وعلي الوقائع السابقة، فإن ما جري في ساحة الإعلام خلال الأسبوع الماضي هو مجموعة من (عمليات التوازن والاختلال) في علاقة المهنيين مع ملاك وسائلهم وليس لهذا علاقة بالانتخابات. - سادساً: تفترض الروايات المتداولة حول حملة تكميم الأفواه أن الانتخابات سوف تُزَوَّر.. في حين أنها لم تجر بعد.. وفي حين أن كل المسئولين في الدولة بدءاً من رئيسها يؤكدون أنها سوف تكون نزيهة.. كما أن تلك الروايات تحتقر بقية (المجتمع الإعلامي والصحفي) وتعتقد أن من تعرضوا لمشكلات إدارية مع ملاك وسائلهم هم كل الصحافة والإعلام في مصر.. كما لو أن الألوف غيرهم هم شهود زور وليس بيننا صادقون غيرهم. -سابعاً: لدي مصر عشرات من آليات متابعة مصداقية الانتخابات، بدءاً من الأطراف المشاركة فيها، ومندوبي الأحزاب والمرشحين في اللجان، واللجنة العليا للانتخابات، والجمعيات الأهلية المختلفة، والمدونين، والمجلس القومي لحقوق الإنسان، ومختلف المنظمات غير الحكومية.. فهل كل هؤلاء هم من شهود الزور الذين سوف يسكتون لو وقع انتهاك في الانتخابات. - ثامناً: ليس علينا الاستسلام إلي أدعياء البطولة، ولا الراغبين في الاستشهاد، لكي يمنحوا أنفسهم مكانة ليست لهم، يغطون بها علي مكاسبهم المالية، ولكي يزايدوا علي المتابعين بعد أن نضب معينهم وانتهت ألعابهم، سواء أولئك الذين يقولون إنهم (سابقون) أو الذين يبشرون بأنهم (لاحقون).. لأنهم يعرفون أن صيغتهم انتهت وفقدت صلاحيتها.. ولأنه ليس لديهم ما يقدمونه.. ويرغبون في الانتحار الإعلامي خيراً من أن تنكشف حقيقة الهراء الذي يستندون إليه. - تاسعاً: هناك متغيرات في العلاقات الحاكمة لسوق الإعلام.. تتعلق بنتائج الموسم الرمضاني.. وانكشاف الوزن الإعلاني لبعض الشخصيات الإعلامية.. وتقييمات وكالات الإعلان المسيطرة في الخفاء.. ومسوقو الميديا.. كما أن لها علاقة بتوازنات الملاك في القطاع الخاص.. ولها بعد بالمناخ الطائفي الذي يهدد البلد.. وبما في ذلك مطالبات مؤسسية بفرض قواعد علي تصرفات إعلامية تؤثر في أعمال بعض السلطات.. ومنها موقف المجلس الأعلي للقضاء من بث جلسات المحاكمات.. وهو ما سوف ينعقد بخصوصة اجتماع آخر اليوم في محكمة النقض بحضور رؤساء التحرير.. ولا بد أن لهذه المتغيرات نتائج ظهرت وستظهر.. لا علاقة لها إطلاقاً بالانتخابات. الموقع الإلكترونى : www.abkamal.net البريد الإلكترونى : [email protected]