لا نريد علاج أي مشكلة بمشكلة، أو حل المعضلة بكارثة. ولهذا أعارض بشدة خصخصة الصحف “القومية”.. أو حتى بيعها للصحافيين الذين لا يعملون أصلاً في تلك الصحف. والمشكلة في أساسها بدأت من الاحتكار، وأعني هنا احتكار الملكية. وكانت الصحف مملوكة للأفراد حتى عام ،1960 ثم احتكرها تنظيم سياسي واحد.. هو الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي، ثم تعقدت المشكلات وتفاقمت، وعانى منها الصحافيون والعاملون بنقل الملكية فجأة إلى الدولة عام 1980. وفي عام 1980 تناست الدولة في زحمة إصدار القوانين ما سبق أن تقرر عام 1975 عند إنشاء المجلس الأعلى للصحافة. وفي فبراير/ شباط بالذات صدر قرار رئيس الاتحاد الاشتراكي بأن يكون نصف ملكية المؤسسات الصحافية التابعة له للصحافيين والعاملين، والنصف الثاني للتجديد. وهكذا خطفت الدولة ملكية المؤسسات الصحافية، وأغفلت قراراتها السابقة وأهدرت حقوق العاملين المكتسبة، وتغافلت الدولة، وهي المالك الجديد. فانتهى الوضع العجيب إلى أن ينوب مجلس الشورى عن الدولة في تعيين رؤساء مجالس الإدارة وانتهى الاحتكار إلى التفويض!.. أي تفويض رئيس مجلس الإدارة مع إضعاف الجمعية العمومية وتهميش مجلس الإدارة، لينعقد المجلس أو لا ينعقد. ويصبح رئيس مجلس الإدارة مفوضاً عاماً.. أو حاكماً مطلقاً! والحكم المطلق دائماً يؤدي إلى الفساد. أو كما قال اللورد اكتون: “السلطة المطلقة مفسدة مطلقاً” والفساد يؤدي بالضرورة إلى مزيد من الفساد. وهكذا دخلت بعض المؤسسات، ولا نقول جميعها، إلى مغامرات لتشبه الأفلام البوليسية. وزادت شهوة المغامرة مع إغراء المكافآت الخيالية وجشع العمولات وسطوة الإعلانات. وبعض المغامرات لا يصدقه العقل لأنه يفوق الخيال. وأهملت كبرى المؤسسات الصحافية رسالة الصحافة الأولى؛ وهي خدمة القارئ بتوفير الأخبار والأفكار للقارئ المواطن حتى لا يكتفي بالعضوية الدائمة في “حزب المتفرجين” أكبر الأحزاب في مصر، وبالاحتكار والفساد كانت الديون والخسائر. وهنا تظهر الآن الحيلة الماكرة بأن الخصخصة هي الحل. ولست مبدئياً ضد خصخصة نزيهة بلا تلاعب أو تحايل، وقد رفضت أيام زمان شعار: “رأسمالي عاقل خير من اشتراكي جاهل”. وكان في ذهني دائماً طلعت حرب وبنك مصر ليكون بنكاً مالياً وإنتاجياً، ينشئ الشركات الوطنية من النسيج حتى السينما والمسرح واستوديو مصر. ولكن القول: إن الخصخصة هي الحل، يعني أيضاً أننا نعالج المشكلة بمشكلة وننتقل من احتكار الدولة إلى احتكار الأفراد. وأمامنا تجارب مردوخ واحتكاراته، وبيرلسكوني وشركاته، وتأثير الملكية الكبيرة في حرية الصحافة وحق التعبير والنشر. وهنا تظهر مغالطة أخرى أو خديعة مكشوفة فالبعض يقول: ولماذا لا نملّك الصحافيين المؤسسات الصحافية؟ ويذكرون تجربة مهمة في الصحافة وهي تجربة جريدة “اللوموند” الفرنسية. وهي الأقوى تأثيراً وإن لم تكن الأكثر توزيعاً. فالصحيفة أقل من “الفيجارو” توزيعاً ولكنها أكبر تأثيراً. وفي “اللوموند” ملكية للصحافيين والعاملين بها. ولكن المغالطة عندنا مكشوفة. فهناك فرق بين ملكية الصحافيين لأي جريدة، وملكية العاملين في نفس الجريدة. والصحافي الذي يشتري أسهم أي جريدة لا يعمل بها يتحول إلى مالك. وتنتفي عنه صفة الصحافي الذي يحترف المهنة ويعتمد على عمله كمصدر رئيسي في حياته. والملكية في “اللوموند” محدودة ومحددة ولا يزيد نصيب كل صحافي على بضعة أسهم. وهذا هو الفرق الكبير بين الفكرتين. وخلال نضال طويل تحولت نقابة الصحافيين من نقابة صحافة إلى نقابة صحافيين. ومن نقابة كانت تجمع عام 1941 بين أصحاب الصحف والصحافيين إلى نقابة للصحافيين الذين يعتمدون على عملهم فقط عام 1955. وعند صدور هذا القانون كان بعض الصحافيين يملكون صحفاً صغيرة فتنازلوا عن ملكيتها ليصبحوا أعضاء عاملين في النقابة الجديدة: وهكذا تنازل الصحافي المحترم محمد زكي عبد القادر عن ملكية مجلة صغيرة. والحل عندي ليس بالانتقال من احتكار إلى احتكار، ولا من الدولة إلى الرأسمالية الكبيرة، وخاصة أن هناك من يتربص سراً بالمؤسسات الكبرى لشرائها، وقد يكون وراءه رأسمال أجنبي، وبعضه تنتابه شهوة الاحتكار كمحاولات احتكار الأغاني والأفلام، والبعض يرى أن شراء جريدة يكسبه النفوذ أكثر حتى من إنشاء حزب سياسي، وقد يكون أرخص وأوفر! والحل عندي فيما أظن هو تعدد أشكال الملكية وتنوعها، حتى نضمن تعدد الآراء، واحترام الرأي الآخر. والملكية قد تبقى عامة، أو تعاونية، أو فردية، ولذلك فأنا من أنصار إطلاق حرية إصدار الصحف دون قيد لتتسع الملكية الفردية مع اشتراط الشفافية ومعرفة مصدر التمويل وضرورة نشر الميزانيات على القراء. وكما يقول أنورين بسيفان في كتابه “بدلاً من الخوف” الذي ترجمته إلى العربية عام 1956: “إن ألعن أنواع الاحتكار هو احتكار الرأي”. وهنا نصل إلى سؤال مهم: من الذي يقرر شكل الملكية الجديدة إذا أردنا الإصلاح؟ والجواب أن نعود دائماً وحتماً إلى نقابة الصحافيين. وقد كان آخر قانون وقع عليه الرئيس جمال عبدالناصر قبل وفاته هو قانون نقابة الصحافيين 79 لسنة 1970 في سبتمبر/ ايلول 70 وميزة هذا القانون أن الدولة لم تضعه، بل وضعته النقابة، عملاً بأن أهل مكة أدرى بشعابها. وكان إيمان النقابيين بعد كارثة 67 ألا تحكم مصر بعد 67 كما كانت تحكم قبلها. ولابد إذن من تأكيد استقلال النقابة عن الدولة، وألا يعتبر الصحافي موظفاً إدارياً يتبع التسلسل الإداري من المدير إلى الوزير، وألا تخضع النقابة لوزارة الإعلام، وألا يدخل في النقابة حتى العاملون في أقسام الأخبار في الإذاعة والتلفزيون، ولا بأس أن يكون لهم نقابة تدافع عنهم. والفكرة تأكدت بتعريف الصحافي أنه ليس عاملاً يخضع لرب العمل، ولا موظفاً يخضع للدولة، لأن مهمة الصحافي هي توفير الأخبار والأفكار للمواطن، ولابد من حماية حريته، لأنها ليست حصانة بل حماية للرأي والرأي الآخر، وبينهما يدور الحوار الوطني وهو فضيلة عظمى. والحديث عن حرية الصحافة وحق المواطن في الإعلام يحتاج إلى المزيد، أعود إليه إن شاء الله. ولكني أعيد شعاري الدائم: ليس أحق من مصر بالديمقراطية، بعد أن عرفت ثلاث ثورات وسبعة دساتير وتراثاً وطنياً نقابياً ديمقراطياً. وأمامنا الطريق الجديد إلى إصلاح عظيم ينتظره كل المواطنين. ------------------------------------ صحيفة الخليج الإماراتية 5-10-2005