«سوف تحصل علي الكنز الأثري بشرط أن تذبح طفلا رضيعا قربانا لحارس الكنز»، همس الدجال في أذن الرجل الباحث عن الثراء بأي وسيلة، وافق دون تردد، وبعد لحظة شرود لم يجد سوي حفيده ليذبحه. لم يكن المشهد السابق من وحي الخيال، ولكنه حدث بالفعل خلف جدران أحد منازل الصف بحلوان، إنها حلقة مثيرة من مسلسل الهوس بالكنوز الأثرية، للحاق بقطار الثراء السريع. قبل أن نشد الرحال إلي هناك حذرنا"الدليل" من أن الظهور بكاميرا تصوير في أماكن التنقيب سيعرضنا لإطلاق الرصاص، فاللاهثون وراء الكنوز المدفونة يعتبرونها قضية حياة أو موت، ومع ذلك صممنا علي المغامرة، اخترنا توقيت مباراة الأهلي والزمالك الأخيرة وقمنا بتصوير أماكن الحفر. رصدنا عدة مغامرات متفرقة في مدينة الصف وقري أبوساعد والمنيا بعضها علي لسان الحالمين والمغامرين أنفسهم يجمعها خيط واحد هو البحث عن الكنز للهروب من الفقر، والقفز داخل عالم الثراء من أقرب شرفة، فمنهم من وجد ضالته وحقق حلمه، غير أن بعضهم أصابه الجنون، أو ينتظر! ربما كان الأسطي علي أشهر أثرياء الآثار في مركز الصف، فكما قال لنا جاره سلامة حمدان، لم يكن يملك سوي راتبه البسيط كسائق لودر، وخلال أقل من عامين اشتري 8 سيارات نقل ثمن الواحدة 300 ألف جنيه. السر لم يصمد كثيرا رغم أن "علي" لم يخبر سوي عدد محدود من المقربين، أنه عثر بالصدفة علي قطعة أثرية "فرعونية" تمكن من بيعها بمبلغ مليوني جنيه، وعندما ظهرت عليه علامات الثراء أيقن الجميع علي الفور أن السائق المحظوظ عثر علي كنز. بعض الناس استسلم لرغبات وتعليمات الدجالين والنصابين للفوز بالآثار أو "المساخيط" كما يطلقون عليها هنا " حتي لو أدي ذلك لارتكاب جرائم بشعة ، قصة الشيخ عبدالجليل "60 عاماً" التي روتها لنا الحاجة آمنة معوض مثال صارخ للهوس بالكنوز الأثرية. فمنذ شهور أقنع أحد الدجالين المعروفين بالعمل علي استخراج "اللقايا" أو الكنوز المدفونة الشيخ عبدالجليل بوجود كنز كبير أسفل منزله، وأن هذا الكنز يضم تماثيل فرعونية وسبائك ذهبية. الدجال أقنع الشيخ ببدء الحفر لكنه اشترط عليه أن يكون عدد العاملين بالحفر فرديا، فوافق علي الفور، لكن الغريب أن الدجال اشترط أيضا علي الشيخ أن يذبح طفلا رضيعا علي عتبة الكنز لكي يتمكن من فتحه والفوز بما فيه. الطمع أعمي أعين الشيخ فراح يفكر في الأمر، لم يكن تفكير الرجل في الرفض أو القبول وإنما في هوية هذا الطفل الرضيع الذي سيقدمه قربانا لحارس الكنز. لم يجد الشيخ"الأعمي" سوي حفيده الذي يحمل اسمه، فقرر ذبحه بعيداً عن أعين والديه، وعندما هم بذبحه داخل البيت تنفيذا لتعليمات الدجال، صرخت زوجته التي أصابها الذهول من المشهد المرعب، ولم تعد الجدة لوعيها إلا ومعها حفيدها الذي حملته بين ذراعيها وهي تجري مذعورة إلي خارج المنزل مستغيثة بالجيران، في هذه اللحظات فقط عاد الجد إلي صوابه. رغم أن الحاج مصطفي الحارثي يعيش في منزل صغير بالإيجار، إلا أنه قرر هو الآخر خوض مغامرة البحث عن الآثار، بحث أولا عن أشهر وأمهر عمال الحفر فتحي الديك واتفق معه علي بدء العملية سراً، وافق الديك بعد أن ضمن 300 جنيه في اليوم هي قيمة أجره عن 12 ساعة حفر. قام الديك بحفر غرفة بعمق عدة أمتار فلم يجد شيئا، وعندما بدأ في حفر الثانية تصدعت بعض الجدران فعلم صاحب المنزل بما يحدث، سارع إلي تقديم بلاغ في الحارثي اتهمه فيه بالتنقيب عن الآثار داخل منزله مما يهدده بالانهيار، ولم يكتف بذلك بل يسعي لطرد الحارثي الذي خالف شروط عقد الإيجار. خسائر الحارثي من فشل عملية التنقيب لا تذكر مقارنة بمصائب "احمد البيه"، فقد سيطرت علي البيه فكرة لاتقبل النقاش ملخصها أنه ينام ويصحو فوق كنز، وبالتالي فإن لديه ثروة كبيرة سيحصل عليها حتما إن عاجلا أم آجلا. وجد البيه ضالته في شخصين يحملان الجنسية السودانية، فهما يفتحان المندل ويزعمان قدرتهما علي معرفة أماكن الكنوز الأثرية، ذهب البيه لأصحاب المندل فأخبروه بأن أسفل بيته كنز ثمين وبالفعل اتفقوا علي بدء الحفر بمنزله. الدجالان طلبا من البيه 100 ألف جنيه، وبعد مفاوضات وصل المبلغ إلي 70 ألفًا منه 50 ألفا قبل بدء الحفر والباقي بعد استخراج الكنز، لم يجد البيه سوي سيارته التي اشتراها بالقسط ولم يكمل سداد أقساطها ليبيعها ويدبر المبلغ المطلوب. استلم الدجالان الخمسين ألف جنيه قبل الحفر كان لهما شرط آخر وهو ألا يدخل البيه أو أي شخص عليهما أثناء الحفر، فكان أحمد البيه يستأذن قبل دخوله للغرفة التي يحفران بها. وبعد 3 أيام من الحفر أصبح البيه مهيئا نفسيا لتصديق أي شيء، وهنا أوهمه الدجالان بالعثور علي سبيكة تزن 5 كيلو من الذهب الخالص، لكن لن يستطيع لمسها بيده إلا بعد 3 أيام فقط يمكنه أن يري السبيكة من علي بعد 7 أمتار، وإلا تحولت السبيكة إلي تراب. رحل الدجالان وتركا للبيه رقم تليفون محمول، طار البيه من الفرحة، لكنه عاش علي أطراف أصابعه في انتظار انتهاء الأيام الثلاثة. في الموعد المحدد دخل البيه مسرعا إلي غرفة الكنز ليتفحص السبيكة الذهبية احتضنها ورقص بها فرحا، لكنه فرحة البيه تحولت إلي مأساة فقد اكتشف أن السبيكة هي قالب طوب مطلي بلون الذهب، حاول الاتصال برقم الدجالين فلم يرد عليه أحد، هنا فقط أفاق البيه من وهمه لكن بعد فوات الأوان فقد أصيب بالجنون. لم يجد حامد الصالح هكذا عرف نفسه ما يمنعه من الاعتراف لنا بأن الحظ تحالف معه لينقله إلي صفوف الأثرياء، فقد عثر بالصدفة علي قطعة أثرية أثناء حفر بيارة صرف صحي لمنزله. فعندما وصل الحفر لعمق حوالي 7 أمتار اصطدم معول عامل الحفر بشيء صلب لم تظهر معالمه بسبب اختلاط مياه الصرف بالمياه الجوفية والطين كما يقول الصالح، وهنا نزل الصالح وبمساعدة العامل فوجدا تمثالا أثريا، اتفقا علي كتمان السر لحين بيعه، وبالفعل باع الصالح التمثال بمبلغ كبير أعطي نسبة منه للعامل وفاز الصالح بثروة اعتبرها جاءت له من السماء رغم أنه استخرجها من الأرض! حين أبدينا دهشتنا من ممارسة الناس لعمليات التنقيب بشكل علني أحيانا، جاءت الإجابة من دليلنا وبعض الأهالي المعترضين علي ما يحدث من نهب لثروة البلد قالوا :إن معظم الناس هنا تنقب عن الآثار سرا وعلانية، وهناك "ناضورجية" يراقبون الغرباء وسماسرة يعقدون صفقات البيع والشراء فالكل مستفيد، طالما أنه يعمل في تجارة المساخيط. فأثرياء التنقيب هنا بالمئات، لكنهم حسب مصادر موثوقة لا يودعون ثرواتهم في البنوك فهم يحتفظون بأموالهم تحت البلاطة وأحيانا فوقها في خزائن فولاذية، فالكل يخشي المساءلة القانونية، فربما سألته أية جهة رسمية من أين لك هذا؟ وكأي سوق له ضوابطه وأسعاره تتفاوت قيمة القطع الأثرية في سوق "المساخيط"، فالتمثال المصنوع من الذهب الخالص له سعر، والمصنوع من الحجر له سعر، أيضا الحقبة التاريخية التي ينتمي لها التمثال تحدد سعره، فالفرعوني هو الأغلي حسب العهد الأقدم، يليه اليوناني والروماني، أما المومياء فتكمن أهميتها فقط في العثور "الزئبق الأحمر" باهظ الثمن. الحاج عامر العامري يشير إلي أن كثيرا من الأهالي يحاولون التعدي علي الآثار، ويشير إلي أن بعضهم ينقب عن الكنوز في أراض خاضعة لحراسة مجلس الآثار. العامري يدلل علي ذلك بقطعة أرض واسعة أقام عليها المجلس الأعلي للآثار خيمة للحراس تركوها بعد 3 أيام ، مشيرا إلي وجود اتفاقات مشبوهة بين بعض الحراس والمنقبين عن الآثار. المسئول المفاجأة الأخطر أن رئيس إدارة الآثار المصرية بالمجلس الأعلي للآثار عاطف أبوالذهب يعترف بأن بعض الحراس والمفتشين يتواطؤون مع عصابات التنقيب. أبوالذهب يبرر ذلك بضعف رواتب بعض الحراس والتي لاتتجاوز 300 جنيه شهريا، في حين يعرض عليهم لصوص التنقيب مبالغ طائلة ويقول ماذا نفعل: بعضهم معذور. المرتشون ليس وحدهم المتواطئين فهناك كما يقول أبوالذهب من يخشي مواجهة العصابات التي تنقب عن الآثار أو تسرقها بقوة السلاح فيسمح لهم بالسرقة خوفا علي حياته. وتتلقي الإدارة حسب رئيسها إخطارا بقضيتي تهريب وتنقيب عن الآثار يومياً، مؤكداً تعرض من يثبت تورطه من العاملين لعقاب شديد إداريا مع إحالتهم للنيابة. وهكذا يستمر مسلسل نهب الآثار بلا رادع .. ليس فقط في مركز الصف ولكن في معظم مناطق الجمهورية، فكثيرون يعتبرون كنوز الأرض ملكا لمن عليها!