ذهب الناقد الفلسطيني الكبير فيصل دراج في رحلة طويلة، استعاد فيها ذكرياته مع مواطنيه محمود درويش وغسان كنفاني، وتحدث عن مستجدات الأدب العربي الحديث، وقضاياه النقدية، وعلاقة الماركسية بالنقد الأدبي ومدارسه، ومشروع طه حسين الثقافي، وأسباب عدم اكتماله، ومصطلحات النقد الجديدة الوافدة علينا من الثقافات الغربية مثل مصطلح "النسوية"، عن هذه الأمور وغيرها تحدث الناقد الكبير فيصل دراج في حواره لروزاليوسف: لماذا تمزج دائما في دراسات النقدية بين النقد والنظرية الماركسية بالرغم من أن النقد هو الجانب الأضعف في الماركسية؟ - منذ بداياتي تعاملت مع النقد الأدبي بشكل حر ولم أصنف نفسي كناقد ماركسي، ربما صنفني الآخرون لأنني كنت أكتب في صحافة يسارية اتهمت بالماركسية، وفي اعتقادي أن الماركسية في شكلها الأوروبي لا يمكن تطبيقها علي المجتمعات العربية، ولم أقتبس من النقد الأدبي السوفيتي ولا جملة واحدة، كنت استفيد من الشهير لوكاتش ، ثم تحولت الي آخر أكثر مرونة ، وتقدمي وهو لوسيان جولدمان، ثم تقدمت الي باختين وهو مزيج من الرومانسية والماركسية وفلسفة اللغة ومنذ مارست النقد من أربعين عاما وحتي اليوم لدي قناعة أن النص يستنطق من داخله وتستخرج مقولاته من داخله ولا يجوز أن نطبق عليه منهجا أدبيا خالصا لأننا بذلك نقمع النص وقراءة النص معا. وبالنسبة للشق الثاني من السؤال، فأنا أري أن الناحية الجمالية في الفكر الماركسي هي أكثر وجوهه اتساعا، فبعيدا عن ضيق الماركسية السوفيتية أو العربية هناك مدرسة فرانكفورت ومدرسة بريخت وفالتر بنيامين وتيري ايجلتون وغيرهم، وأعتقد أن حقل النقد الأدبي في الفلسفة الماركسية هو الأكثر اتساعا وإبداعا. وعندما نتعرض بالنقد لأي نص عربي، لابد أن نربط النص بالسياق الثقافي والاجتماعي العربي الذي أنتجه، فالنقد له وجهان: أن تعرف أولا المواد الثقافية والسياسية التي تحكم هذا العمل وترتبط به ثم تقوم بتطبيق منهج. والثاني: الانطلاق من منهج من حيث هو مباشر فعمليا هذا فعل جاهل وحقير سواء استخدمت المنهج الماركسي أو الوجودي. هل تعتقد أن النقد العربي استفاد من المناهج النقدية الغربية أم مثلت عبئا عليه؟ - النقد العربي الحديث بدأ متأثرا جدا بالاتجاهات النقدية الأوروبية، بدليل أن الفلسطيني (روحي الخالدي) حين وضع كتابه (علم الأدب بين هوجو والعرب) بدأ مباشرة بالإفصاح عن ثقافته الفرنسية، ولا حقا ميخائيل نعيمة في كتابه (الغربال) كان متأثرا بالثقافتين الأمريكية والروسية، وأقام طه حسين منهجه علي فلسفة ديكارت، وصولا إلي ماركسية لويس عوض ومحمد مندور وغيرهما. وكان التفاعل مع الثقافة الأوروبية خصيبا ومخصبا، ولعل هذا التفاعل هو الذي فرض علي النقد أن يغير في بعض المبادئ التي تعلمها من الثقافة الأوربية لتناسب رحابة النص العربي، وبهذا المعني كان تأثر النقد العربي بالثقافة الأوربية إيجابيا، إلي أن أصبح هذا النقد عبئا ابتداء من أوائل سبعينيات القرن الماضي حيث تحول التعلم من الغرب إلي محاكاة صماء تأخذ بقشور المناهج الأوربية، طبعا كانت هناك تطبيقات إيجابية بارعة لنقاد مثل جابر عصفور وكمال أبو ديب لكن كثيرين حولوا هذا النقد إلي شكل من الكاريكاتير ومن الكلمات المعقدة الصعبة التي لا يدرك القارئ معناها وهؤلاء النقاد لم يكونوا يدركون معناها الحقيقي. لماذا فشل مشروع طه حسين الثقافي السياسي الذي وصفته بأهم ما قدمه مثقف عربي في القرن العشرين؟ - أكد طه حسين في كتابه الشهير (مستقبل الثقافة في مصر) علي ضرورة تعميم التعليم اجتماعيا، وتعميم الديمقراطية اجتماعيا، لأن الجهل يوطد مجتمعا فقيرا ويسمح للقلة المثقفة بأن تتحكم في عامة الشعب، ولم يقصد طه حسين بالتعليم محو الأمية وتعليم القراءة والكتابة لأن هذا سهل وميسور، ولكنه قصد تكوين وعي ثقافي نقدي، الأمر الذي دفعه للربط بين التعليم والديمقراطية كوحدة عضوية واحدة، كما طالب بضرورة التكامل بين الإصلاح المدرسي والإصلاح السياسي وإعادة قراءة التاريخ العربي الإسلامي بشكل منهجي، ولو استمر السياق والتطور الطبيعي للمجتمع المصري في طريقه المرسوم له لكتب لهذا المشروع النجاح، ولكن ثورة يوليو قامت بقطع هذا التطور الطبيعي للمجتمع، وألغت طه حسين والآخرين، واعتبرت الدولة نفسها أنها المثقف الأكبر، وإذا كان مشروع طه حسين لا ينسجم إلا بوحدة العلم والديمقراطية، فغن ثورة يوليو اكتفت بالعلم وألغت الديمقراطية، أي ألغت الشرط الضروري لتحقيق جزئي لمشروع طه حسين، وعمليا انتهي المشروع كليا بقيام ثورة يوليو 1952 وبعد هذا التاريخ لم ينتج طه حسين شيئا له قيمة، حتي الجزء الثاني من كتابه (الفتنة الكبري) جزء ضعيف. هل صحيح أن عبد الناصر انتصر للثقافة وهزم المثقفين؟ - بالتأكيد، ونشر التعليم وهزم التعليم النقدي، ودافع عن فكرة التقدم الثقافي لكنه اختار عناصر تفتقد الكفاءة لتحقيق هذا المشروع عملا بمبدأ أصحاب الولاء أفضل من أصحاب الخبرة، وإذا كان طه حسين بدأ بفكرة التقدم والمعرفة والتراكم المتدرج للقيم فاعتبر نظام عبد الناصر أن الولاء في ذاته قيمة علمية، وهذا كلام لا معني له، لأنه ينتج جيوشا من الانتهازيين. في رأيك، ما الحدود التي ينبغي علي الكاتب ألا يتخطاها عند استلهامه للتاريخ؟ - لا يوجد شيء اسمه الرواية التاريخية ، لكن هناك نوعاً من التخيل للمادة التاريخية وإعادة إنتاجها روائيا، بالرغم من أنها وقعت في الماضي لكنها فعليا تقوم في الحاضر، فإذا اعتبرت أن المنظور الروائي للعالم يتعامل مع الإنسان كإنسان في همومه الكبيرة، فهذا يعني أنه لا يكتب عن إنسان يعيش في الماضي، إنما يكتب عن الإنسان في جميع الأزمنة، ضمن إطار شكلاني يوحي أنه يكتب عن فترة معينة، فالمستبد الذي رسمه جمال الغيطاني في (الزيني بركات) هو المستبد الموجود في جميع الأزمنة، والمثقف المغترب عند بن سالم حميش المغربي في (هذا الأندلسي) هو المثقف العربي في جميع الأزمنة، والانقسام بين الشرق والغرب الذي رصده ربيع جابر في (يوسف الإنجليزي). هل يستطيع الأدب لعب دور محوري في علاج مشكلات الجمهور العادي؟ - الأدب ليس مطالبا بحل المشكلات وإنما هو يشير إليها فقط، ثم كيف تطلب أن يكون للأدب دور، في مجتمع متوسط توزيع الرواية الناجحة فيه ألف نسخة، بينما يتجاوز عدد مواطنيه ثلاثمائة مليون مواطن، فالسياسية الثقافية في العالم العربي تضع الرواية خارج إطار الثقافة المسيطرة، ليس المهم هو الإنتاج وإنما المهم فعليا هو الاستقبال الاجتماعي للنص الأدبي. في رأيك ما السر وراء شيوع مصطلح الأدب النسوي؟ - هناك ثلاثة أسباب رئيسية: الأول تزايد دور المرأة كما وكيف في الإبداع العربي، خاصة في فن الرواية، الذي حظي بأسماء لامعة مثل المصرية رضوي عاشور واللبنانية هدي بركات والفلسطينية سحر خليفة والكويتية ليلي العثمان، الثاني دخول نظريات ما بعد الحداثة إلي النقد العربي الذي أدمن الاحتفاء بما يستقبله من نظريات غربية، يطبقها كما هي دون تأمل وتدبر، الأمر الذي جعله بنيويا ذات مرة، وتفكيكيا مرة لاحقة، وصولا اليوم إلي الحديث عن جماليات الكتابة النسوية، الثالث يرجع إلي تراجع الحياة السياسية الذي يعني الانتقال من المجموع إلي الجزء أي من المجتمع إلي الطوائف ومن الإنسانية إلي الصراع بين الذكورة والأنوثة كناقد ما الذي ميز شعر محمود درويش وجعله يحتل المكانة التي وصل إليها؟ - هناك أزمة في الشعر العربي منذ منتصف الثمانينيات كما أشار سعدي يوسف، وقليل من الشعراء هم الذين تجاوزوا هذه الأزمة ومنهم محمود درويش، فالشعر الكبير يدور حول قضايا محددة ويقدم الزمن اللامتناهي، ويعيد الأفكار القديمة برؤية جديدة ولغة جديدة، وبالتالي هناك تجديد وتنوع علي مستوي المعاني لا يقوم به إلا الكبار، ولم يكن بإمكان محمود درويش أن يقدم قصيدة "الهندي الأخير" لو لم يقرأ شيئا عن تاريخ الهنود الحمر في أمريكا، ولم يكن بإمكانه أن يصل إلي ذلك التجلي في حضرة الغياب، لو لم يستفد من التصوف ومن بعض النصوص الألمانية الحديثة، ومن بعض قراءاته عن الموت والوجود فهناك بحث مستمر عن الإبداع، وهنا تأتي ميزة أدونيس، الذي فتح الشعر علي الفلسفة والميتافيزيقا والماورائيات، ولم يكتف بإطار القصيدة العفوية. ومحمود درويش كان قد أصبح شاعرا كبيرا ابتداء من أوائل تسعينيات القرن الماضي، وما سبق هذه الفترة كان فيه لمحات جميلة لكنه كان يعاني من التكرار وفتنة اللغة، فهو يجدد في إطار اللغة ويكرر المعني، ثم بدأ في رحلة الصعود الحقيقي منذ بداية الثمانينيات، حيث وصل إلي فضاء مدهش في القول والمزج بين الشعر والنثر، وكان لديه هاجس التطور والارتقاء. هل صحيح أن غسان كنفاني كان منحازا إلي الجمهور عكس محمود درويش الذي كان يهدف إلي تطوير أداته الشعرية ولو علي حساب القراء؟ - لا أعتقد ذلك لأن غسان كنفاني بدأ حياته بهاجس تجديد الأدب ثم التوجه إلي الجمهور، وهو من القلائل الذين طوروا مبكرا ما يسمي بسياسة الكتابة، بمعني أن يعتمد في أعماله علي مادة السياسة ثم يثري هذا المكون السياسي بجماليات أدبية جديدة تجذب القارئ، ولذلك شكل كل من غسان كنفاني وسعد الله ونوس السوري وإميل حبيبي ما يسمي بالأدب السياسي. ومحمود درويش أيضا أنجز هذه المصالحة الجميلة بين الشعر والنثر، وتمكن من إرضاء الجمهور ولو بشكل جزئي، وكان لديه الموهبة التي تجعله يحترم الشعر والجمهور معا. هل حافظت قصيدة المقاومة علي دورها التحريضي أم تراجعت وخفت وهجها؟ - قصيدة المقاومة كانت متوهجة في الماضي، بسبب إمكاناتها الشعرية الهائلة ومتابعة الجمهور لها، ولكن عندما أحبط هذا الجمهور تراجعت القصيدة التي كان لها دور تحريضي، ولكنها مستمرة لأنها تحاول إقناع الجمهور بأن النصر قادم، دون أن تطلب من هذا الجمهور شيئا، لأن هذا الجمهور كسول.