للمرة الأولي.. حوارات نادرة لعمالقة الفكر والأدب والسياسة والفن علي صفحات «روزاليوسف» في طريقي للوصول إلي لقاء أنيس منصور للمرة الأولي عام 1958 كان الطريق وعرًا.. يبدو لأنني اخترت الوسيط الخطأ.. فلم أكن أدري أن الأستاذ فؤاد دوارة الذي سهل لي لقاء مع الكاتب الكبير أنيس منصور كان علي خلاف معه ودس لي معلومات عن أنيس عكست مشاعره حياله.. وبعض هذه المعلومات كان مستفزًا. ورغم أنني أعددت أسئلتي الخاصة.. لكنني لم أستطع مقاومة إغراءات ما زودني به الأستاذ فؤاد دوارة باعتباره واحدا من كبار النقاد من ناحية.. ومن ناحية ثانية كان أستاذي الذي يدرس لي أصول النقد في المعهد العالي للسينما.. ومن جهة ثالثة كان لدي اعتقادي الخاص بأن الأسئلة المستفزة تلقي صدي لدي الناس. أستاذ أنيس.. لماذا يُطلق عليك البعض لقب العقاد الصغير؟ - أولاً: من هذا البعض؟ ثانيًا: لماذا عقادًا وصغيرًا.. بينما أنا أنيس منصور مدرس الفلسفة في الجامعة، والكاتب والصحفي ورئيس التحرير، ولي من المؤلفات ما للعقاد وأكثر!! وهناك من يري أن شهرتك قد اتسعت بسبب تبنيك موضوع تحضير الأرواح بواسطة السلة؟ - في السؤال الأول (البعض يُطلق عليك!!).. وفي السؤال الثاني (هناك من يري!!) يعني أنت تريد أن تجري معي حديثًا إذاعيًا لتستخرج مني معلومات عن تجربتي الفكرية والثقافية لتزود بها مستمعيك معتمدًا علي (البعض) و(من يري).. يا أخي حرام عليك.. ثم إن موضوع السلة هذا ما هو إلا نقل تجربة مررتُ بها في إحدي جولاتي في العالم فكتبتها فتلاقفها الناس، لأن طبيعة الإنسان هي البحث عن المجهول، وللأسف قد بولغ في هذا الموضوع بسبب سعة انتشاره بين كافة الأوساط، ودوري في هذا الموضوع ليس سوي ناقل لتجربة، وناقل الكفر ليس بكافر، هذا إذا افترضنا أن تحضير الأرواح بالسلة كفر. ولكنه ارتبط باسمك؟ - حنعيد تاني؟!!.. طيب مسرحية (حلمك يا شيخ علام) وغيرها من المسرحيات مرتبطة باسمي!!.. نقل الفلسفة الوجودية إلي العالم العربي مرتبط باسمي!!.. عشرات العناوين من الكتب التي أعيدت طباعتها أكثر من مرة مرتبطة باسمي!!.. اشمعنا يُلغي كل هذا ويبقي نقل تجربة تحضير الأرواح بالسلة هو الشيء الوحيد الذي ارتبط باسمي؟ هل صحيح أنك حاولت أن تكون مطربًا في بداية حياتك؟ - حصل!! ولماذا لم تواصل؟ - ساهم الأستاذ عبدالوهاب بإجهاض التجربة، عندما كنت عنده وهو يستمع إلي مطربة جديدة، وكان صوتها وحش.. فقال لها كلامًا مجاملاً.. تذكرت أنه قال لي نفس الكلام لما سمع صوتي. أستاذ أنيس.. المعروف عنك أنك شغوف بالقراءة، وبعدة لغات.. كيف تسني لك ذلك؟ - كأنك تسأل طبيبًا جراحًا، كيف تجري عملياتك الجراحية؟!!.. يا أخي أنا رجل أعيش للفكر وبالفكر، وإذا لم أكن مهيئًا لهذه المهمة فلست جديرًا بها، وأنا أعتبر الإنسان العادي الذي لا يقرأ وكأنه يعيش خارج التاريخ، فما بالك بإنسان يُطل علي الناس كل يوم بموضوع جديد أو بمحاضرة أو بلقاء إذاعي أو تليفزيوني.. ثم لا تنسي أن من لم يكن قارئًا جيدًا لا يمكن أن يكون كاتبًا جيدًا، وليس بلغته فقط وإنما بأكثر من لغة. كم لغة تجيد؟ - أجيد الإيطالية والفرنسية والألمانية والإنجليزية، وشيء من الإسبانية، ودرست شيئًا من العبرية، إلي جانب لغتي الأم. ما سبب إحجامك عن الزواج مع أنك تجاوزت الأربعين؟ - لم يأتِ النصيب بعد!!.. ثم إن طبيعة مهنتي تحتاج إلي امرأة مجاهدة. ألهذا السبب نجدك كثيرًا ما تسخر من المرأة؟ - يا أخي ما المرأة أمي!!.. ولكن هناك فرقا بين السخرية والمداعبة، فالكثير من الأدباء في العالم يداعبون المرأة بحكم اختلاف السلوكيات.. فجورج برناردشو مثلاً كان يداعب المرأة ويسخر منها، وعندك هنا توفيق الحكيم والعشرات غيرهم ممن يداعبون المرأة إلي درجة السخرية في كتاباتهم. ربما تفكر باعتبارك من دعاة الوجودية أن تعيش مع نصفك الآخر علي طريقة سارتر وسيمون ديبوفار؟! - هو أنا عايش في باريس؟!!.. أنا يا أخي أعيش وسط مجتمع عربي مسلم له تقاليد وأعراف؟!!.. ثم من قال لك أني معجب بطريقة سارتر وسيمون؟!.. سارتر له العديد من العشيقات، وكذلك سيمون لها العديد من العشاق.. كما قلت لك النصيب لم يأت بعد بتلك المجاهدة التي تقبل بي زوجة. أستاذ أنيس.. لماذا نجد أن حياة الأدباء والمشاهير الخاصة في بلادنا كثيرًا ما يكتنفها التكتم والغموض، مع أنهم يأخذون علي عاتقهم توجيه المجتمع نحو الوضوح والانفتاح والشفافية؟ - المفروض هو أن الناس كما تتعلم من فكر الكاتب وأدبه، فيجب أن تتعلم من حياته أيضًا، ولكن ذلك لا يعني أن حياة هؤلاء الأدباء والمفكرين مثالية وخالية من الأخطاء أو الانحرافات!!. لأنهم في النهاية بشر.. عندك مثلاً: الكاتب العظيم أوسكار وايلد الذي دخل السجن لأسباب لا أخلاقية، ولكنه جعل من تجربته تلك مثلاً عظيمًا عندما سجلها في كتاب عنوانه (من الأعماق).. استعرض فيه الظروف والملابسات التي أدت إلي السجن بدرجة كبيرة من الصدق، حتي أنه قد عرَّي نفسه أمام القارئ لكي يحذر الناس من الانحرافات الشاذة.. وصوّر حالته النفسية وتأثير ذلك الحدث علي حياته بصراحة متناهية. فأين هو موقف الأديب العربي مما ذكرت؟ - الوضع في بلادنا يختلف كليًا، فالناس هنا تثرثر كثيرًا وتلوك الكلام كثيرًا بما تراه عيوبًا في حياة الآخرين، ولذلك نجد أن المشاهير عندنا يتحفظون بحرص شديد ويحجمون عن اطلاع الناس علي حياتهم الخاصة، أو الكتابة في هذا الموضوع.. بينما نجد في فرنسا أن جان جينيه يجاهر فخورًا بأفعال شاذة يقوم بها ويكتبها علي رءوس الأشهاد، وهناك من يستقبلها باستحسان وقبول.. لا.. لا.. لا.. الوضع عندنا يختلف.. بعدين يا أخي المثل يقول: إذا بُليتم فاستتروا!! لكن هذه البلوة كثيرًا ما يكشف عنها الستار بشكل أو بآخر عندما ينتقل ذلك الإنسان الشهير إلي العالم الآخر؟ - هذا صحيح.. ولكن ساعتها مش مهم.. يعني الكلام الذي قيل عن العقاد أنه كانت له بنت من زوجة غير معلن عنها ليس سرًا لا أخلاقيا، ولكنها معلومة قد تكون صحيحة وقد لا تكون.. وما قيل عن أمير الشعراء أحمد شوقي بعد وفاته كله من قبيل التخمينات.. فليس في حياة المفكرين والأدباء والشعراء العرب ما يستحق الوقوف عليه وتقييمه كسلوك شاذ يعترف به مثلما فعل جان جاك روسو في اعترافاته. ليس بالضرورة أن الكاتب والأديب يقوم بنفسه بكتابة تجاربه التي فيها انحراف علي شكل اعترافات كما فعل روسو.. بل ربما يقوم بذلك كتاب آخرون ليستخرجوا منها حقائق كانت مخفية عن الناس؟ - وهذا ما حصل مع أرنست همنغواي عندما انتحر عام 1961، فأصدر صحفي أمريكي كتابًا عنه عنوانه «بابا همنغواي»، كشف فيه عن تفاصيل قل أن يعرفها أحد في حياة الكاتب الأمريكي الكبير، مما دفع بماري همنغواي زوجة الكاتب إلي أن ترفع قضية علي الصحفي وتحول دون نشر الكتاب، لأنه خاض في أسرار خاصة بهمنغواي وأسرته، وكذبت مزاعم ذلك الصحفي.. لكن المحكمة أصدرت حكمها برفض دعوي الزوجة بعد أن تأكد لها أن الصحفي التقي مع همنغواي في يخته الخاص علي شواطئ كوبا ليجري معه حوارًا لإحدي الصحف، ومنذ ذلك اللقاء ارتبط الصحفي بأرنست همنغواي بعلاقة صداقة حميمة امتدت إلي عدة سنوات، وكانت الزوجة تزعم أن زوجها قد أصيب بطلق ناري عن طريق الخطأ وهو يتفحص بندقيته مما تسبب في موته، إلا أن كتاب «بابا همنغواي» قد دحض هذا الزعم وذكر التفاصيل الكاملة والدقيقة لعملية انتحار همنغواي.. فكلامك عن أن هناك من يتصدي للكتابة عن المشاهير بعد موتهم صحيح، وهناك أمثلة كثيرة.. ولكنها قليلة في عمالنا العربي. أستاذ أنيس.. هل حاولت فعلاً القيام بترجمة كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون»؟ - اقترح علي العقاد أن أقوم بترجمة ذلك الكتاب علي أن يقوم هو بكتابة المقدمة.. ولكنني اكتشفت أن معظم من قاموا بترجمة هذا الكتاب من اللغة التي كتب فيها إلي لغتهم إما أن اغتيلوا أو تعرضوا للاغتيال.. فقلت للعقاد: لا يا عم.. أنا مش عايز أموت.. فنصح أحد أصدقائه وهو محمد خليفة التونسي أن يقوم بترجمته، وقدم له العقاد، وكان كتابًا سيئًا.. بينما الترجمة التي قام بها الكاتب اللبناني عجاج نويهض كانت أفضل بكثير. أستاذ أنيس.. ما الذي يشغلك الآن؟ - أجمع معلومات عن أحد الصعاليك المصريين المعاصرين، وهو عبدالحميد الديب الذي توفي عام 1943 . هل تنوي أن تكتب عنه كتابًا؟ - والله إذا توفرت لي مادة تحتمل كتابًا سوف أفعل، وإلا سأكتب عنه موضوعًا أو أكثر من موضوع. ما الجديد الذي تقدمه لقرائك في مثل هذا الموضوع؟ - عبدالحميد الديب كان شاعرًا، وقد أطلق عليه الشاعر البائس، رغم أنه موهوب إلا أنه عاش حياة مأساوية.. كان متسولاً وينام في الطرقات، وقضي معظم حياته ما بين المقاهي والأرصفة، وكان الناس يطربون لأشعاره، لكنهم لا يمدون له يد العون.. والغريب العجيب أنه عند مماته أقيم له احتفال حضره شعراء وأدباء وخطباء وألقيت كلمات نيابة عن وزراء الشئون الاجتماعية والأوقاف، كلها ترثي الفقيد الذي لم يكن يجد في حياته مأوي ينام فيه.. حتي أنه عبر عن حياته البائسة في هذه الأبيات التي حصلت عليها من أحد أصدقائه لأنه ليس له أثر مكتوب.. يقول: لقد كنتُ أرجو غرفةً فأصبتها بناءٌ قديم العهد أضيق من حظي فأهداء أنفاسي تكاد تهدها وأيسر لمسي في بنايتها يردي أري النمل يخشي الناس إلا بأرضها فأرجله أمضي من الصارم الهندي تساكنني فيه الأفاعي جريئةً وفي جوها الأمراض تقتل أو تُعدي جوارك يا ربي لمثلي رحمة فخذني إلي النيران أو جنة الخلد أستاذ أنيس.. كيف تُشخص لنا الإنسان المثقف؟ - المثقف قد يكون الكاتب الذي تقرأه في الصحف والمجلات، وقد يكون المدرس الاعدادي أو الاستاذ الجامعي، وقد يكون السياسي، وقد يكون الفنان.. وقد .. وقد .. وقد .. ولكن لن يكون أي واحد من هؤلاء مثقفًا ما لم يقلص من خلال أدواته أكبر قدر من السلبيات في مجتمعه الذي يعيش فيه، ويستبدل بأكبر قدر من الايجابيات.. وهذا لا ينطبق علي من جئت علي ذكرهم فقط وإنما من الممكن أن ينطبق علي الفلاح والنجار والميكانيكي، وغيرهم من أصحاب المهن الأخري.. فمادام الإنسان يعمل بإيجابية لمجتمعه فهو يدخل في دائرة الإنسان المثقف.. أما الاحتراف الثقافي المتعارف عليه فهو قد ينطوي علي أناس يمارسون أعتي أنواع الغش والخداع، بل والاجرام باسم الثقافة.