أنيس منصور.. ماذا أكتب عن أنيس منصور رحلة عمر وصداقة طويلة قوية مع فيلسوف وأستاذ ومفكر وأديب وكاتب وصحفي. سأحاول رغم ألم الفراق أن أكتب عنه بضعة سطور, لن توفيه حقه جزاء ما قدمه للفكر والثقافة في مصر, صديقي الكاتب الكبير أنيس منصور.. رحلة حب وصداقة امتدت سنوات طويلة.. لقاءات مستمرة ورحلات الي العديد من دول العالم.. وخلال هذه الفترة أصبح أنيس منصور من أحب الناس الي قلبي.. لايمر يوم دون أن نتحدث أو نلتقي في صالون أنيس منصور الذي كان يحدثنا فيه عن رأيه في الأدب والسياسة والسادات عندما اشتد عليه المرض.. كنت أتحدث معه تليفونيا ويأتيني صوته بعيدا مملوء بالألم, وأصبحت مشغولا عليه واخاف أن أشاهده علي هذه الحالة.. وعندما دخل المستشفي.. زرته مرات عديدة, وكان يعرفني ويتحدث معي من خلال نظرات عينيه. وفي المرة الأخيرة منذ يومين أحسست بأن هذا آخر لقاء سوف يمضي مع هذه الاسطورة التي لن تتكرر... وأنا خارج من المستشفي كان بذهني إحدي الرحلات التي جمعتنا, وكنا نزور مدينة فيرونا بإيطاليا ودخلنا الي منزل روميو, حيث كانت تأتي جوليت لكي تلقاه, وهنا قال لي صديقي أنيس منصور: انزل تحت, وانظر الي السكونة سوف تجدني أنا جوليت أعود بالماضي الي أجمل قصة حب في الوجود. اتصل بي صديقي الكاتب الكبير صلاح منتصر ليبلغني بالخبر الأليم, حيث سمعه من عبدالعظيم حماد رئيس تحرير الأهرام, ولم استطع أن أعلق, لأننا قبل سماع هذا الخبر كنت أشرح لصلاح منتصر حالة أنيس منصور, وان آخر نظرة لي معه كانت لحظة الوداع.. وبعد فترة اتصلت بصديقي أحمد رجب وأبلغته الخبر.. وقال: خسرت العديد من الأصدقاء, ولكن أنيس لم يكن صديقا فقط بل أخا ورفيق العمر والطريق. لقد نجح أنيس منصور في تقديم الفراعنة وتاريخهم لكل عشاق الحضارة المصرية في العالم كله.. جعل عشقه لتراث مصر يكتب عن لعنة الفراعنة.. وعن أثارنا في الخارج, وعن الاكتشافات الأثرية, واستطاع أن يجعل اكتشافي لمقابر العمال بناة الأهرام حديث الناس في كل مكان. وكنا نحتفل كل عام بيوم التراث العالمي18 ابريل, وفي هذا اليوم نختار أحد مواقع التراث العالمي لنلقي عليه الضوء, وفي نفس الوقت نختار شخصية عالمية مرموقة لكي نحتفل بها.. وقد كانت هذه الشخصية الكاتب والمفكر الكبير أنيس منصور.. وكانت سعادة المثقفين كبيرة ونحن نقدم له وسام ال ماعت الذهبي للكاتب الكبير, نظرا لما قدمه للأثار وللأثريين طوال حياته ومشواره الصحفي.. والماعت هي رمز الحق والعدل والنظام عند المصري القديم.. وقد تشرفت بأن أقدم له هذا الوسام.. فهو وسام لصديقي أنيس منصور الذي عرفته عن قرب لأول مرة, وأنا طالب بجامعة سلفانيا, حينما زرت مصر ودعاني صديقي الراحل كمال الملاخ لكي أتناول الغداء علي مائدة أنيس منصور بمنزله بالمنصورية شرق الأهرامات مباشرة.. وهناك قابلت العديد من العظماء ومنهم توفيق الحكيم, وبعد الغداء جلسنا في الصالون لكي نشاهد كاميرا الفيديو لأول مرة تصور وتنقل الي التليفزيون مباشرة, وكان الحكيم يجلس علي كرسي أمام التليفزيون مرتديا قبعته الشهيرة والعصا في يده, والي جواري جلس أنيس منصور يضحك ويقول له: أنظر.. سوف تشاهد نفسك في التليفزيون الآن! ولم يصدق الحكيم كلام أنيس منصور, ولكي يتأكد من ذلك قام بتحسس شاربه وهز عصاه في يده, ورأي ذلك أمامه علي شاشة التليفزيون, وهنا ارتسمت علامات التعجب بدون كلام علي وجه الحكيم.. لقد استطاع أنيس منصور بقلمه أن يجمع المصريين علي عشق الحضارة الفرعونية من خلال كتاباته وموضوعاته التي نشرت بالأهرام, ومجلة اكتوبر, وجعل الآثار بجميع موضوعاتها محور كتاباته الصحفية, واهتم بالاكتشافات الأثرية, ونجده يرحل بنا الي الماضي البعيد والقريب لنشم معه نسماته الطيبة ونتلمس أجزاء من أسرار وغموض حضارة الفراعنة وآثارهم.. وكان هذا الاهتمام واضحا في اتصالاته المستمرة بي لكي يسأل عن بعض أسرار الفراعنة.. وكان يؤمن بلعنة الفراعنة, ويقول إن كمال الملاخ لدغته لعنة الفراعنة مرات عديدة, وأصابته أخيرا بمرض جلدي لم يستطع علاجه, وكان يخاف أن تصيبني اللعنة, وكتب عن ذلك مرات عديدة, ولي معه ذكريات طويلة في هذا الموضوع, وآخر ما كتب عني أن ما تعرضت له بعد تعييني في الوزارة هو لعنة.. وهذه اللعنة هي لعنة الفراعنة. وقد تذكرت اليوم أحد أحاديثي التليفزيونية, وكان الحديث يدور عن أنيس منصور, وذكرت أنني لم استطع حضور حفل عيد ميلاده, وأنني أتمني له أن يعيش أكثر من مائة عام في صحة وسلام, وهي أمنية سجلها الفراعنة علي آثارهم, ولكنني طالبت بأن يكف أنيس منصور عن المطالبة ببقاء الأثار المصرية في متاحف أوروبا وأمريكا, وأنذرته ممازحا بعواقب لعنة الفراعنة, رغم انه الكاتب الوحيد الذي ألف كتابا كاملا عن لعنة الفراعنة. كان وفيا لأصدقائه بلا استثناء.. يتحدث معنا بلغة التلغراف, ويقص علينا حكايات وقصصا نادرة في الثقافة والسياسة. أما أجمل حب في حياته فهو حب زوجته السيدة رجاء.. كان يقضي وقته معي في أثناء السفر لكي يشتري لها كل شيء, ويقول أنا أحاول أسعدها وأقف بجوارها لكي تسترد صحتها. لقد حاولت في السطور السابقة أن أكتب لمحات عن هذا المفكر الاسطورة, لكن ربما تكون هذه اللحظة لا استطيع فيها أن أوفيه حقه بقدر ما أعطي للثقافة والسياسة والصحافة والفكر.. وربما تأتي فرصة أخري لاكتب عنه. المزيد من مقالات د. زاهي حواس