التنبيه للخطر الذي تقف على مذبحه النخبة المصرية والعربية والتذكير بالنموذج المتقدم لدور النخبة، هذا خلاصة ما أراد أن يقدمه محمود قرني من كتابه صغير الحجم، كبير الشأن “وجوه في أزمنة الخوف” بعنوان فرعي شارح “عن الهويات المجرّحة والموت المؤجل”. بداية لا تغيب عنك وأنت تتصفح الكتاب نكهة الشعر، فالمؤلف أحد أبرز وجوه مشهد قصيدة النثر العربية، كما لا تغيب عنك النبرة القومية العالية الممزوجة بحسّ عال بالأسى والجرح. يرصد قرني في كتابه، الصادر ضمن سلسلة كتاب الهلال، ملامح الخراب الذي خلفته السلطات العربية عبر عشرات السنين من الفساد، وأخطر مظاهر هذا الخراب تتمثل في كسر إرادة النخبة العربية، وبكل أسف تحول دور تلك النخبة من كونها تمثيلا لسلطة المثقف النقدي والنقضي في آن واحد إلى كونها أدوات تبريرية لخطاب سياسي يفتقر إلى أدنى الروادع القانونية والأخلاقية. الأداء النكوصي لم يقدم قرني مشهدا مظلما إلى حدّ الفشل، ولم يقف مكتوف الذراعين أمام الصورة البائسة التي اجتهد في وصفها، لأنه يرى الأمل في “التكوينات الفكرية المحلية -بمعنى العربية- التي استطاعت أن تُقيم تمايزات مقبولة في العلاقة مع الآخر، وقد أثمر الكثير من هذه الآراء مجتمعا لا يمكن ردّه للجاهلية المطلقة، فرغم كل شيء نحن أمام مجتمع اخترقت حصونه مفاهيم عديدة حول نبذ الحكم العشائري وتصاعد الأبنية العقلية جملة، واحتلالها مركز الصدارة في لحظة من اللحظات، وبشكل عام تصاعدت قيمة العلم في بناء مؤسسات ذات طابع علماني محض”. إلا أن المقابلة التي يسلط الضوء عليها بين “الأداء النكوصي” المتمثل في “نظم الحكم” وتلك “البناءات العقلية المتقدمة” يحتاج لفهمه في رأيه إلى “تحليل الواقعين السياسي والمجتمعي، . . . وتحليل دور المال والسلطة في مواجهة الأدوات الناعمة للتعبير العقلي” وهو الصراع الذي وصفه بأنه “فريضة من فرائض التبعية التي أنتجها النموذج الاستشراقي سياسيا واجتماعيا”. يدعو الكاتب إلى إعادة اختبار مقولات الفكر العربي، ولكن بعد إعادة تعريف الآخر وفق احتياجاتنا وليس وفق الاحتياجات التي فرضها الآخر نفسه. وربما تبدو الأسماء التي اختار قرني أن يقدّمها في باقته غير متجانسة، إذ يتساءل المرء عن الروابط بين ياسر برهامي ومجدي الجلاد -مثلا- من جهة وبين نجيب محفوظ ومحمود درويش؟ أيّا كان موقفك من الأسماء الأربعة فلا شك في أن السؤال نفسه سوف ينبت في ذهنك. وهو الأمر الذي انتبه إليه قرني حيث أقرّ ببساطة في مقدمته أن “الأشياء تُعرف بنقائضها”. قائمة متناقضة تصدّر المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد باقة المثقفين الذين تضمنهم الكتاب، وذلك تحت عنوان “خطاب إدوارد سعيد في الإعلام الصهيوني وظلاله بعد الثورات العربية”، وهو المقال الذي صدّره قرني بالتساؤل “هل يمكن القول إن الآلة الإعلامية الصهيونية سيهدأ أوارها بعد فوات أكثر من 13 سنة على رحيل المفكر إدوارد سعيد؟”، وهو السؤال الذي استعرض من خلاله بداية وأسس الصدام الذي وسم العلاقة بين “إسرائيل” والمتعاطفين معها وإدوارد سعيد الرافض لمنطق التسوية الفلسطينية الذي رأى فيه استسلاما خانعا متذللا تصحبه صرخات نصر كاذبة. في مقالته الثانية ينتقل قرني إلى المفكر المصري سلامة موسى وسؤال النهضة، الذي طرحه رواد الاستنارة الأوائل منذ دولة محمد علي في مطالع القرن التاسع عشر، وهو السؤال الذي يظن أنه لا يزال يملك من الحيوية ما يدفعه إلى صدارة المشهد في الثقافة العربية، لأن “الدولة الحديثة التي حلم بها موسى وأسس للكثير من قواعدها النظرية في العشرات من كتبه، لا تزال تعاني عوارض التخلف”، ويرى قرني أن الانتقاد الحاد الذي واجهته القناعات الفكرية لسلامة موسى، من مدرسة عباس محمود العقاد وتلاميذه وفي مقدمتهم أنيس منصور، يمثل الحالة التي تسببت فيها الحرب العالمية الثانية التي كشفت عن الكثير من الرجعية في موقف العقاد وغيره. يختار قرني باقته بعناية تجعلك تشعر بأنها أكبر بكثير من الأسماء التي عنونت المقالات، إنه يتجول بوعي في مشاريع -وليس أشخاص- ويدخل بدقة إلى خلاصة كل مشروع مستعرضا أسئلته الرئيسية، مضيئا عناصره ومحددا ما الذي تبقى منه، وما الذي سقط، وظل معلقا، مدققا في وجوه الخلاف التي أثارها مشروعه مع رموز أخرى من النخبة الثقافية التي عاصرته، واصفا ما لا يروقه بأكثر الطرق صراحة وربما أكثرها جفافا، عامدا نحو زيادة مساحة الضوء وتعزيز قيمة النماذج التي يطرحها. على هذا المنوال، يستمر محمود قرني في استقطار أرواح ما يراه جديرا بالطرح -إيجابا وسلبا- من رموز النخبة الثقافية، وتشمل القائمة إلى جوار إدوارد سعيد وسلامة موسى كلا من: نوال السعداوي، محمد حسنين هيكل، لطفي السيد، فاروق الباز، نبيل عبدالفتاح، بشير السباعي، أحمد كمال أبوالمجد، علاء عبدالفتاح، عدلي منصور، فايزة منصور، سامح شكري، ياسر برهامي، جابر عصفور، مجدي الجلاد، محمود درويش، عفيفي مطر، أحمد شوقي، علي فرزات، عبدالرحمن الأبنودي، سيد حجاب، حلمي سالم، نجيب محفوظ، محمد البساطي، بهاء طاهر، محمد منير. وقبل أن تدهشك القائمة بتناقضاتها، أعيدك إلى بداية المقال لتعرف أن الاختيار في هذا الكتاب لا يعني دائما الإقرار، وأن محمود قرني يعمل وفق قول المتنبي “وبضدّها تتبين الأشياء”، فلا تتخذ موقفا قبل أن تقرأ بهدوء كيف تناول كل شخصية في إطار رؤيته لأهمية التذكير والتنبيه للخطر الذي تقف على مذبحه النخبة المصرية والعربية.