بعد عشرة دواوين حملته إلى الواجهة في صدارة المشهد الشعري في الآونة الأخيرة، يأتي كتاب "وجوه في أزمنة الخوف" للشاعر المصري محمود قرني، دليلا على مسؤولية المثقف في مواقف تاريخية لا ينبغي فيها الانتظار والترقب، أو اتخاذ مواقف بين بين، حتى يتضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود، بل يسارع إلى قول كلمته شهادته على زمنه ورموزه ونخبته، وإن كان المؤلف لا يعول عليهم كثيرا، بعد أن ثبت له أنهم دون مستوى المسؤولية، دون مستوى الثوة، فأضاعوا فرصة تاريخية أتاحتها ثورة 25 يناير 2011 ثم موجتها الكبرى التصحيحية في 30 يونيو 2013. "وجوه في أزمنة الخوف".. صدر في سلسلة "كتاب الهلال"، وحسب بيان الدار ، يبدأ بمقدمة عنوانها "عن التعايش مع مخلفات عصر النهضة!" استعرض فيها محمود قرني آثار علوم ومناهج الاستشراق في العقل العربي، وكيف استلب وسعيه للسباحة في "فراغ الآخر، يحصل علي مشروعية تقدمه أو تخلفه، يكتب المستقبل أو ينزلق إلي أضابير الماضي. من هذا المنطلق حاولت الكثير من الأدبيات المحدثة التشكيك في وجود الفكر العربي بالأساس، باعتباره يقتات علي مخلفات عصر النهضة في تجلياته الغربية، وباعتباره أيضا مردودا استشراقيا لم ينجح في التعبير عن القطاعات العريضة من المتعلمين فضلا عن الحشود الكبرى من العامة." ويرى أن هذه الاستعارات لم تمنع نشوء وتأسيس تكوينات فكرية عربية، ولكنها لم تكن كافية لمجتمعات تعاني نخبتها شيئا من الاستلاب كما تتعرض القاعدة الجماهيرية لزحف اليمين الديني، وسيادة مفاهيم ونظم عشائرية الطابع، فانتهت الأمور إلى انتصار قوى "المال والسلطة في مواجهة الأدوات الناعمة للتعبير العقلي، وهو صراع يبدو فريضة من فرائض من التبعية التي أنتجها النموذج الاستشراقي سياسيا واجتماعيا". يقدم المؤلف قراءات في السير الشخصية والإبداعية والفكرية لعدد من رموز عصر التنوير العربي.. أحمد لطفي السيد، سلامة موسى، إدوارد سعيد، محمد حسنين هيكل، نوال السعداوي وغيرهم، وفي الإبداع: نجيب محفوظ، محمود درويش، عبد الرحمن الأبنودي، عفيفي مطر وغيرهم. وفي جانب آخر يستعرض أيضا تناقضات عالم بارز مثل فاروق الباز، ويرصد جانبا من مراوغات أحمد كمال أبو المجد، وياسر برهامي، ومجدي الجلاد. الكاتب لا يستهويه سرد حكايات، ولا تعنيه إقامة محاكمات، ولكنه يقدم قراءة واعية ومسؤولة للمشهد العربي.. فكريا وحضاريا في ضوء تعقيدات تسم اللحظة التاريخية المربكة، فالغرب الذي احتفظ بمراكز نفوذه، عبر تصعيد ومؤازرة طبقات وأجيال من الدكتاتوريين، يواصل السعي إلى "دعم تحالفات غير أخلاقية مع رأس المال من ناحية ومع التيارات الدينية المتشددة لتؤدي دورا لا يمكن وصفه بأقل من الخيانة، فهي من ناحية كانت تلعب دورا في حماية تلك الأنظمة لقاء حصة في الحكم ولقاء استحقاقات الوجود، مقابل ذلك فقد قبلت تلك الجماعات باستخدامها كفزاعة للنموذج الحضاري "الأرقى" الذي كان من المفترض له أن ينبذ الحكم الديني ويعتبره خصما تاريخيا... وقد كشفت تحولات تلك الصورة عن الخراب الذي خلفته تلك السلطات العميلة عبر عشرات السنين من الفساد، وأظن أن أخطر مظاهر هذا الخراب يتمثل في كسر إرادة النخبة العربية بدرجات متفاوتة. وبكل أسف تحول دور تلك النخبة من كونها تمثيل لسلطة المثقف النقدي والنقضي في آن إلي كونها أدوات تبريرية لخطاب سياسي يفتقر إلي أدني الروادع القانونية والأخلاقية".