كتب د. محمود قرني منذ أن خرج النقد الأدبي من تأثيرات محيطه السياسي والاجتماعي; خسر الواقع والنقد معا الكثير من الحيوية والحضور.. حيث انسحب النقد إلي دفء المعامل محاولا الوقوف علي نفس الدرجة والرتبة مع العلوم التجريبية.. وانسحب الواقع إلي كهوف الجلافة والخشونة والظلامية حيث كان سعيدا بموت القوة الناعمة التي تقوم علي تهذيبه ألا وهي العقل النقدي. فكون النقد الأدبي أحد تجليات نظرية المعرفة يعني أنه بات جزءا من البناءات العقلية لأية أمة, ومن ثم فهو ليس إلا رؤية رأسية تشريحية لواقع جمالي, فكري وسياسي. تلك الرؤية التي جعلت منه واحدا من أدق التعبيرات عن واقع الصراع التاريخي بين قيم التحديث والنهوض من ناحية وبين قيم التخلف والرجعية من ناحية أخري. سري عبدالله ابتعاث هذا الدور في واقع تراجع فيه دور المؤسسات العلمية وعلي رأسها الجامعة, كما تراجع فيه المشروع الوطني كتعبير مفعم عن أحلام النخبة والعامة علي السواء; يعني أن ثمة نارا تبعث من الرماد, كما يعني أن النقد الحديث ينتبه إلي وظيفته الحقيقية كجزء من الذاكرة الحية للأمة وكتعبير عن وعيها التاريخي بمأزق الخروج من صراع الوجود في الفضاء الحيوي, بشكل أدق, في فضاء الإنتاج المعرفي الذي يلاحق ثقافتنا العربية منذ عصور الاحتلال وحتي أيامنا. ولاشك أن جزءا جوهريا من الأزمة التي يطرقها الدكتور يسري عبدالله يرتبط بقناعاته الفكرية والجمالية وكذلك بوعيه العميق الذي يدرك مايحتاجه بالضبط من الماضي أو من التراث, في مقابل ذلك يتعامل بوعي جذري مع أطروحات المركزية الأوربية ويجابه سطوتها وطغيانها عبر إعادة إنتاج مقولاتها في إطار الخصوصية الثقافية المرتبطة, تحديدا, بالعملية الإبداعية, كمنتج يمس الخصوصية المكانية والروحية بنفس الدرجة في الآن نفسه. ففضلا عن معرفة عبدالله العميقة بتراثه الفكري والنقدي, فإنه يتجاوز هذا الأفق ويبدو منحازا بكليته لرواد النهضة من النقاد والمفكرين. فمن الناحية الفكرية يبدو عبدالله ابنا مخلصا لرواد الطليعة النقدية الحديثة في مصر: طه حسين, محمد مندور, زكي نجيب محمود, لويس عوض, أنور المعداوي, شكري عياد, غالي شكري ومصطفي ناصف وغيرهم من حيث كونهم تعبيرا دقيقا عن حقبة الاستنارة من ناحية ومن ناحية اخري, يمثلون بدرجات متفاوتة, الواقعية الجديدة التي ارتبطت بمشروع الحداثة في العالم أجمع بل أيضا باعتبارهم تأكيدا علي الوظيفة الاجتماعية للأدب والنقد كمتلازمتين تربطهما حتمية تاريخية. غير أن عبد الله الذي يعي تماما التأثيرات الزمانية والمكانية داخل شريحته المعرفية يكشف في كتابه عن أهمية تجاوز تلك المركزية التي ارتبطت بأشكال مختلفة بالعديد من الأفكار الكلية, وهو ربما الأمر الذي وصمها بأنها قرينة الدولة الشمولية. في المقابل ينطلق الدكتور يسري عبدالله تجاه الممارسة النقدية مابعد الحداثية, وربما اختار السرد الروائي كتعبير أكثر جلاء عن التفتيت الذي طرأ علي جميع الأفكار المركزية ذات الطبيعة المطلقة التي تبدو أعلي تمثيلاتها في الشعر كفن رعوي قوامه الأساسي يتناسخ من لحظات ماضية. ولعل الكتاب الجديد الجديد الصادر عن دار الأدهم ل عبدالله تحت عنوان الرواية المصرية.. سؤال الحرية ومساءلة الاستبداد يمثل إجابة جلية علي تلك الأسئلة. ويكشف منذ الصفحات الأولي للكتاب عن جملة مواقفه الفكرية وانحيازاته الجمالية وجذورهما المعرفية. فهو عندما يقول إنه يواجه العديد من التحديات التي تجابه الإبداع الراهن مؤكدا علي أنه ضد تسليع الأدب فهو هنا يعيد التذكير بموقفه الواعي من أفكار مابعد الحداثة التي شهدت خلطا فجا بين عولمة الاستعمار وعولمة الفنون, وما فكرة التسليع إلا إحدي تجليات تفكيك المركزية التي تنطوي عليها أفكار الدولة التقليدية, حيث سعت الولاياتالمتحدة إلي ضربها في مقتل حتي تتمكن من السيطرة باعتبارها المنتج الوحيد لأفكار مابعد الحداثة. وقد ظلت فكرة تسليع الأدب تنطوي علي الكثير من المخاطر التي أقلها ربما دعوة الكاتب إلي المزيد من التكيف في إطار مزيد من إخضاع منتجه لمزيد من الأنماط الاستهلاكية. وتبدو مقاومة عبدالله هنا لهذا النموذج غير منفصلة عن طرحه العديد من التساؤلات الجادة حول قضايا أكثر إلحاحا في الواقعين المصري والعربي مثل قضية تديين الإبداع والنقد وكذلك مساءلة الرقابة كنتيجة حتمية لمقدمات تبدو مثيرة للريبة والقلق بعد صعود الإسلام السياسي إلي سدة الحكم. ومع ذلك لايتخلي الناقد عن أدوات الضبط المنهجي, وهو في كل الأحوال يتجه بقوة عارف إلي النقد الثقافي كأحدث تجليات العقل النقدي الأحدث في العالم, لأنه يتيح لناقده النفاذ إلي حقول معرفية متعددة ومتنوعة كأداة من أدوات التحرر من أسر المدارس الشكلية وسطوتها النقدية خاصة في المحافل العلمية ذات الطبيعة النوعية. لذلك فإن يسري عبدالله يعبر بدقة ووضوح عن ذلك عندما يقرر أن النقد انتخاب جمالي قدر ماهو انحياز فكري بنفس الدرجة من الأهمية. ويشير عبدالله إلي ذلك عندما يتحدث عن تعدد مستويات الخطاب النقدي بين القديم الذي اعتمد علي القيمة الأخلاقية في التمييز بين الجيد والرديء وبين النقد الحديث باعتباره رؤية إجمالية للعالم تقف بين الاجتماعي والسياسي والجمالي. علي مستوي آخر فإن النماذج الروائية التي اعتمد عليها الناقد في قراءته للمشهد المصري تنطوي علي موقف لايقل أهمية عن انحيازاته التي, قدرعلميتها, فإنها لاتتخلي عن أخلاقيتها, حيث تحتشد نماذجه التطبيقية بأسماء يتم النظر إليها نقديا للمرة الأولي رغم أن بعضها ربما يقع ضمن المؤسسين للمشهد الروائي في صيغته الجديدة, ومن ثم فإن الكتاب يبدو ردا بليغا من هذه الناحية علي تبديد النقد لمعايير الفرز الحقيقية بين جيد الإبداع ورديئه, وكذلك يبدو ردا لايقل بلاغة علي هؤلاء النقاد الذين اعتبروا النقد تجارة رابحة بكل حمولة هذه الكلمة من الفساد.