إذا كانت الحياة الأدبية المصرية، تسلم اليوم تسليما كبيرا، بوجود أزمة حقيقية في النقد الأدبي، هي جزء من أزمة غياب (النقد) بشكل عام عن حياتنا كلها.. النقد كمفهوم عقلي وآلية فكرية ومنهجية ابستمولوجية وانطولوجية في سبر الواقع بأبعاده جميعا وتناوله وتفكيكه ومراجعته باستمرار، وإعادة تحليله وتركيبه طيلة الوقت.. النقد.. كمواضعة مركزية لها تجلياتها في الميادين كافة.. العلمية والتعليمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية والأدبية. الخ.. اذا كان الجميع يسلمون بغياب مثل هذا المفهوم (الواسع والشامل) للنقد.. بوصفه فاعلية حضارية لا يمكن تصورها - غيابا وحضورا - بمعزل عن وجود وتجذر فكرة (الديمقراطية) في حياتنا كلها، وعبورها من حد (التشدق) و(الطنطنة) و(الاستخدام المجاني) والاستهلاك السياسي والدعائي والاعلامي.. إلي حد المكون البنيوي الجذري لممارساتنا وحركتنا وتفكيرنا واختلافنا وتعددنا.. الخ.. اذا كان (النقد) غائبا - لهذه الدرجة - بالمعني الأصيل والشامل، كما حاولنا أن نوضح بالموازة مع غياب الديمقراطية (حتي الآن) بالمعني الأصيل والشامل.. فمن باب أولي وقد رصدنا هذا الغياب المركزي بأبعاده جميعا.. أن يغيب (النقد) عن ميادين الأدب والفن والشعر والمسرح والموسيقي.. الخ.. ولعل السبب في بعض هذا الغياب، بالاضافة الي ما ذكرنا، غياب (الحد المعتبر) من هذه الفنون جميعا، كلها أو بعضها، فليس من السهل تصور وجود نقد موسيقي مثلا أو مسرحي مع غياب للابداع الموسيقي المعتبر أصلا، أو الابداع المسرحي المقدر فعلا، وقس علي ذلك، ولو أن هذا الارتباط الشرطي الأولي المفترض مردود عليه.. فلعل غياب فن من الفنون عن الساحة الابداعية بالكامل، كالموسيقي مثلا، هو الأدعي الي تنشيط الحضور النقدي والمعرفي والتاريخي والجمالي لهذا الفن.. تحريكا لسكونه، وبعثا لمواته، واستنباتا لحضوره. وبرغم ذلك.. فالحالة النقدية البائسة، لا تختلف كثيرا، في حالة فنون أخري أكثر حضورا ووجودا وثباتا وتطورا من فن الموسيقي، كالشعر علي سبيل المثال.. فالشعر حاضر بقوة في الساحة الابداعية المصرية، ولم يغب أبدا.. وليس مرجعنا هنا - فقط - مرجعا كميا يرصد العشرات بل ومئات الدواوين التي تقذف بها المطابع في كل عام، سواء من هيئات الدولة للنشر، أو من دور النشر الخاصة، بل ونقصد أيضا الحالة الكيفية للشعر كنقطة قياس، وليس حالته الكمية الفارغة من الدلالة، والتي قد تكافيء معني الغياب، ولا تدل في ذاتها علي حضور أو قيمة.. كما لا تدل كثرة الأغاني التي تملأ الساحة المصرية الآن، وكثرة الأشرطة المنتجة في كل يوم لعشرات المطربين والمطربات علي انتعاش حالة الغناء أو فن الغناء بالمعني الكيفي، بل علي العكس، قد تؤكد هذه الكثرة الانتاجية علي حالة الفلس والخواء والأزمة التي تعانيها الأغنية المصرية، وعلي أي حال، فهذا حديث آخر، لم نقصد منه إلا ضرب المثل فقط. وعودة الي موضوعنا، أقول، إن حالة الشعر في مصر في علاقتها بالنقد ليست من هذا القبيل، ليست علاقة غياب عن الابداع، كما هو الشأن في فن الموسيقي المصرية الآن، مثلا، ولا هي حالة انتاج كمي خال من القيمة، وعار من الابداع، وخاو من الفن.. بل هناك بالفعل مما تقذف به المطابع من عشرات الدواوين الشعرية لمختلف الأجيال في كل عام، بعض هذه الأعمال - ولو كانت قليلة تعد علي أصابع اليدين مثلا - جديرة بالمناقشة والالتفات والتناول والدرس النقدي الأمين، ولكن حتي في هذه الحالة لا نحظي بمثل هذه التعرضات أو النقدات، وهنا نصل الي بعض الأسباب البنيوية التي تخص (النقد) في ذاته، بمعني القائمين به، فلا نقد يقوم هكذا بمفرده، فهؤلاء النقاد، برغم انهم يكتبون ويدبجون - أحيانا - تناولاتهم ونقداتهم ومقالاتهم (النقدية) إلا أنها لا تشكل حضورا وإضافة، بل تكاد تسلبه حالة (الغناء المصري المعاصر) الذي أشرنا اليه حالا، في تأكيد معني الخواء والافلاس والغياب في قلب ما يقوم به مثل هذا (النقد) من عمليات (نقدية) يراها كذلك، بينما هي بعيدة كل البعد عن (ذلك) لسبب أولي بسيط قد يكون مركزيا بالنسبة لعدد من الأسباب الأخري، وهو أن أدوات الكاتب أو الناقد نفسه، هي أدوات مستهلكة، و«عدة شغل» اذا أشعرنا التعبيرات المهنية، لم يتم تحديثها ولا تطويرها جماليا وفكريا ومعرفيا منذ زمن طويل، لتساير التطور الحادث في الشعر مثلا - وهو موضوعنا هنا - ومن ثم ظلت التجربة الشعرية الحداثية في مصر من خلال أعلامها من الشعراء.. أكثر تقدما وتطورا وتجديدا واجتراحا لآفاق التجريب والجديد والمختلف عن مجموع نقادها - اذا جاز لنا أن نتحدث عن (مجموع) نقاد هنا، أقصد الذين تناولوها بالطبع - ولذلك انكشفت أزمة معظم هؤلاء النقاد في تناولهم لبعض تجليات هذه التجربة الشعرية الحداثية الجديدة (منذ جيل السبعينيات وحتي الآن).. بلغة ومفاهيم ورؤي وأفكار ومصطلحات.. تنتمي الي أفق سابق ومغاير، وربما كلاسيكي وقديم.. في التعامل مع هذا المنجز الشعري.. وذلك ببساطة لأن هؤلاء النقاد (وبعضهم بالمناسبة عرف بالمدارس النقدية المحدثة، وباتجاهات النقد الحداثي وما بعد الحداثي ربما، وترجم لنا الكتب في البنيوية والاتجاهات الأدبية المعاصرة.. الخ) ولكنهم اذا انبروا بأدواتهم لنقد الشعر أو الابداع الأدبي المصري المعاصر.. حضرت الأدوات التقليدية والمصطلحات الكلاسيكية والرؤي الستينية في جوهرها، وطار من كتاباتهم (فجأة) كل ما صدعوا به رؤوسنا من حداثة وما بعد حادثة وبنيوية وتفكيكية.. الخ! وأتصور أن هناك العديد من الأسباب المنطقية لهذه الحالة النقدية المرضية المستعصية، أولها.. أن هؤلاء السادة النقاد كانوا مجرد ناقلين آليين لهذه الاتجاهات المحدثة في الفكر والنقد في أوروبا والغرب، ومن ثم كان من السهل عليهم نقل (المقول) النظري، وترجمة (النظرية) و(المنهج) من مظانهما الأوروبية، ولكن مشاكلهم تبدت عند التطبيق الذي لابد له من (ابداع) الناقد وليس (الناقل).. ومن فهم معمق للخصائص الابداعية وللتربة المصرية الابداعية، وليس مجرد القياس الميكانيكي الأجرد علي نظريات ومناهج مستدعاة بشكل آلي، وهنا كشفت الأزمة عن ملامحها، وكشف النقاد عن عوارهم البائن، برغم دعاواهم بالحداثة وما بعدها.. اذ بهم لا يخرجون في الشعر - مثلا - عن محصول مجلة (الشعر) لصاحبها عبدالقادر القط في الستينيات، والثانية لجوؤهم الي الخيار الثاني - وهو الحل الأسهل - المتمثل في الابتعاد التام عن تناول هذه الأعمال الشعرية الملتبسة والمعقدة!.. والتي لابد لتناولها من مكافيء نقدي بصير، ومعادل رؤيوي نافذ، لفك مغاليق التجربة الشعرية المغايرة، ومحاولة العثور لها علي مفاتيح للقراءة، لا تنتمي الي نوع القراءات السالفة للشعر حتي في طوره التجديدي منها نهاية الاربعينيات وحتي الستينيات، وهو ما لم يحدث حتي الآن إلا في حالات قليلة جدا، لعل المعتبر والمقدر منها أتي باستمرار من غير النقاد الرسميين.. أتي مثلا - من يحيي حقي أو ادوار الخراط أو علاء الديب، وهم مبدعون بالدرجة الأولي وليسوا نقادا! واذا كان هذا هو واقع الحال في الفصحي وشعرها وحظهما من النقد المفيد.. فالمصيبة أعظم في حالة شعر العامية الحديث والمعاصر، الذي يواجه بالاضافة الي كل ذلك.. التجاهل التام لمنجزه المهم منذ بيرم وحداد وجاهين وحتي الآن.. ومعاملته، حتي في حالة الالتفات النقدي النادر اليه باعتباره منجزا ابداعيا من الدرجة الثانية أو الثالثة.. فلا دراسات مهمة، ولا رسائل جامعية، ولا مساحات للنشر، ولا ادراج له في المهرجانات والمؤتمرات.. ولا اعتراف كبيرا به وبتطوره وأجياله المتتابعة، يضعه في مصاف الابداع المعتبر وكامل الأهلية.. وهو حديث ذو شجون.. قد ننبري له في سياق آخر!.