رسائل من الصحراء الذي نقله إلي العربية د. عماد حاتم (دار المدي، 2007)، يقدّم نموذجاً آخر لأسلوب ألبرتو مورافيا وطريقة مغايرة لاستقبال العالم. مورافيا الجنسي في أنا وهو و السأم و الاحتقار و الانتباه غير موجود في هذا الكتاب. شيء واحد بقي منه في هذا الكتاب: إدانته الغرب. ربما كان سبب انسحاب الكاتب نوعاً ما من هذا الكتاب كونه كتاباً تسجيلياً تتخلله انطباعات يفرضها الموضوع. رسائل من الصحراء إذا أردنا استخدام وصف الكاتب نفسه طريقة لرؤية الواقع وليس لتفسيره، أي للحديث عنه لا للتشهير به . من الواضح أن هذه الحيادية التي تطبع رسائل من الصحراء أملتها مناسبة الكتاب وطبيعته. لقد وضع مورافيا هذا الكتاب أثناء رحلة قام بها مع بعثة تلفزيونية إيطالية إلي افريقيا. وسبق له نشر هذه المذكرات ضمن مجموعة مقالات صدرت بين 1975 و1980 في صحيفة كورييري ديلا سيرا لتحمل لاحقاً عنوان هذا الكتاب. خلال هذه الرحلة قطع مورافيا قسماً كبيراً من القارة السوداء بدءاً بالجانب الغربي، أي ساحل العاج والخليج الغيني، مروراً بشمال افريقيا، ليتقدم شرقاً نحو الصحراء معرّجاً علي كينيا وبحيرة رودولف ثم إلي الزائير حيث اخترق علي متن سفينة نهر الكونغو (الزائير حالياً) ليصل أخيراً إلي بلاد الأقزام وينهي انطباعاته بحدائق الحيوان في أوغندا. رحلة طويلة تاه فيها فريق العمل في الصحاري والغابات، مواجهاً أنواعاً من المخاطر والصبر والتحمّل والذهول والسحر معاً. يمتاز كتاب رسائل من الصحراء بتلك الرؤية الشاملة والإحاطة الوصفية المشوقة التي يقدّمها الكاتب لما يمر أمام عينيه، فهو يصف الحياة الإنسانية في افريقيا ويصوّر البشر في حياتهم اليومية وفي أعمالهم وطقوسهم وأغانيهم وأفراحهم وأحزانهم وتأملاتهم وأحلامهم ويصف الغابة والصحراء والبحر والنهر الصاخب ومختلف المخلوقات في مملكتي النبات والحيوان، ويصف المدن والقري والأكواخ وآنية الطعام والزينة والآلات الموسيقية والملابس والإبداعات الفنية ويصف السراب والأدغال والسافانا والمياه المضطربة والجبال الميتة والأدغال العذراء والأشجار العملاقة ويستعرض صورة الحياة في مختلف أنواع الوحوش والطيور والزواحف حتي تتراءي القارة أمام أعيننا عالماً لا نهاية له يموج بالحركة وبقضايا الإنسان ومشاكله الحياتية والمصيرية. إلي هذه اللوحات الفنية يقدّم مورافيا اهتماماً كبيراً بالإنسان الافريقي في كتابه هذا في ماضيه وحاضره ومستقبله. ورغم الحيادية التي وسمت الكتاب فإن الكاتب لا يستطيع الوقوف موقف المتفرج أمام التغييرات التي أحدثها الاستعمار في القارة السوداء ولا سيما في تحويله هؤلاء الناس إلي ثقافة الاستهلاك في ظل فقر مدقع. وإذا كان الكاتب لم يشهد الاستعمار الأوروبي القديم لافريقيا فإنه ليس بعيداً عما يُسمّي الاستعمار الجديد القائم علي المجتمع الاستهلاكي. فالقارة الافريقية تتعرض في رأي مورافيا لخطر يتمثل في أوربة الأفارقة كما يستنتج المترجم بمختلف الطرق. فلوحات الدعاية التي رُفعت علي طريق المطار لا تهدف إلي تربية الأذواق أو الوعي بل إلي غرس غريزة الاستهلاك من أجل الاستهلاك، وهذا ما يساعد الأوروبيين المحدثين علي حل مشكلة ظلت مستعصية علي الغزاة الفرنسيين وأضرابهم علي مدي عشرات السنين في الجزائر أو في ساحل العاج أو غيرهما من المستعمرات وهي مشكلة تحويل أهل المستعمرات إلي أوروبيين سمر البشرة، وبكلمة أخري تجريدهم من شخصياتهم الفردية المميزة . يبدو مورافيا في كتابه هذا عيناً ضخمة تجول قارة لطالما وُسمت سلفاً بالبدائية. من خلال هذه العين المراقبة والمثقفة بالطبع، يعيد الكاتب قراءة القارة بطريقة مغايرة لأسلافه المستعمرين باستثناء قلة عاشت في افريقيا من داخل افريقيا أمثال كارين بليكسين ودايفيد ليفنغستون، أي رأت حياة الأفارقة كما يعيشها هؤلاء الناس لا كما يفترض الغرب. بهذا المعني فإن نظرة مورافيا ليست نظرة متسامحة تجاه الحياة البدائية (هذه مفردة شوفينية في كل حال) بل هي نظرة ناقدة لقيم الغرب التي مُورست كحقيقة تجاه افريقيا أو تجاه العالم الثالث كما في أدبيات هذا الغرب. إن الافريقي في نظر الكاتب ليس ذلك الإنسان الذي لا يعرف تعلم الحضارة الغربية بل هو الإنسان الذي لا يعرف كيف يعيش في هذه الحضارة. ولهذا أعطي مورافيا مثلاً صديقه نغوغي واتهيونغو (كذلك غينوا أتشيبي) الذي درس في إنكلترا وكتب بالإنكليزية لكنه عاد إلي كينيا ليعيش في كوخ في إحدي الضواحي البائسة لنيروبي ويكتب بلغة محلية قبلية لا يفهمها إلا عدد قليل من الناس هي لغة الكيكويو، قبيلة الروائي. بالنسبة إلي مورافيا كان واتهيونغو مثال الكاتب الذي ينتقل من لغة الحضارة إلي لغة البداءة، من لغة عالمية إلي لغة ضيقة. كانت الإنكليزية بالنسبة إلي هذا الروائي المعروف قدراً في حين كانت لغته المحلية خياراً. هذا طبعاً بعكس جميع الكتّاب الذين يختارون لغة أجنبية للكتابة طوعاً في معظم الأحيان. كان خيار الكاتب الكيني أخلاقياً وهذا موقف يفهمه مورافيا من الداخل، أي كان موقفاً هادفاً بعيداً عن تقييم الغرب لهذا الخيار. والحال، فإن هذه العين الضخمة التي هي مورافيا نفسه، تنظر في الخارج وتنظر في الداخل. أي ترصد كل ما تراه لكنها تحيله إلي قراءات أخري ليست جاهزة في الأعم الغالب. وعليه، فإن رحلة مورافيا في افريقيا هي رحلة في المكان، أي الجغرافيا، مثلما هي رحلة في الزمن، أي التاريخ. إنها رحلة المشاهدة والرؤية معاً. وهنا فقط يلتقي مورافيا مع أسلوبه، أي تقديم عمل متعدد ذي ثقافة جامعة وإن بدا هذا الكتاب عموماً أقرب إلي كتابات الرحالة الحياديين أمثال ابن بطوطة وماركو بولو.