ليست المشكلة الكردية بالجديدة وإن يكن الغزو الأمريكي للعراق قد أعطاها أبعاداً ما عرفتها من قبل. فقد بدأت تتخذ طابع المسألة القومية في الحرب العالمية الأولي وعلي أثر هزيمة الدولة العثمانية فيها. الرئيس الأمريكي "وودرو ويلسون" في مبادئه الأربعة عشر عام 1920 قال بحقّ الشعوب في تقرير مصيرها. إنما ظلّت المشكلة في تحديد معني "الشعب" الذي يستحقّ دولة، وفي منطقة "الشرق الأوسط" آنذاك كانت هناك تحديات أُخري. تبلورت القوميةُ التركيةُ في دولةٍ انفصلت عن تراثها الإسلامي ليس بالقوانين الفاصلة للدين عن الدولة وإلغاء الخلافة فقط؛ بل وفي هجر العاصمة التاريخية العريقة للدولة الإسلامية العثمانية: إسطنبول، وإحلال أنقرة محلَّها. وإلي جانب تركيا كانت هناك الدولة القومية الإيرانية، التي لم تسقط ولم تُستعمَر، وإنْ صارت مقسَّمةً إلي مناطق نفوذ في فترةٍ من الفترات بين روسيا وبريطانيا. وظهرت -إذا صحّ التعبير_ وبتداعيات سقوط السلطنة العثمانية، وانتصار بريطانيا وفرنسا في الحرب بمساعدة الولاياتالمتحدة أربعةُ ملفّات: الملفّ العربي، والملفّ اليهودي، والملفّ الأرمني، والملفّ الكردي. وعندما نتحدثُ عن الملفّ العربي لا نعني به مصر ولا شمال إفريقيا، فما كانت الفكرةُ القوميةُ العربيةُ قد اتّسعت آفاقها بحيث تضمُّ هاتين الناحيتين. ولذلك ما كانت هناك مشكلةٌ في استقلال مصر الرسمي عام 1922، ليس بسبب عروبتها؛ بل لأنها دولةٌ قائمةٌ باستقلاليةٍ منذ مطالع القرن التاسع عشر. أمّا "الشعب" العربي أو ما بدأ العربُ يسمُّونَهُ: الأمة العربية فقد أساء المنتصرون في الحرب (وسكتت أمريكا) في التعامُل معه. ما كان بُوسع البريطانيين وهم الطرفُ الأقوي آنذاك مُصارحةَ العرب بأنهم لن يقبلوا بدولةٍ واحدةٍ لهم في الشام (فلسطين والأردنّ وسوريا) والعراق والجزيرة أو قسمٍ منها. كانت هناك المصالحُ الفرنسيةُ التي ينبغي مُراعاتُها في لبنان وسوريا. وكانت هناك مناطقُ شمال الجزيرة والتي تركوها للملك عبدالعزيز آل سُعود خصمهم وحليفهم في الوقت نفسه. وعملوا ترتيباً جمعوا بمقتضاه ثلاث ولاياتٍ عثمانيةٍ هي البصرة والموصل وبغداد تحت اسم مملكة العراق، لتكون حاجزاً بين إيران وتركيا. وأرادوا الاحتفاظ بفلسطين معلَّقةً بانتظار أمرين: إعادة تشكيل الشعب اليهودي الموزَّع في العالَم، وتدبير الأمر مع "العرب" الموجودين بفلسطين، بعد أن قصُّوا جناحهم وجناح سوريا باختراع إمارة شرق الأردنّ. لقد عني ذلك -وهو الذي تبينَ طبعاً فيما بعد_ أنّ البريطانيين والفرنسيين وفي معاهدة سايكس- بيكو، راعوا الأطراف القوية التي اعتقدوا أنهم ملتزمون بالاعتراف بها وبمصالحها، وتصرفوا بحريةٍ كبيرةٍ مع الأطراف الضعيفة: العرب والأرمن والأكراد. العربُ ما أرادوا السماح باجتماعهم في دولةٍ واحدةٍ حتي لا تقومَ دولةٌ كبري علي شواطئ البحر المتوسط الشرقية والخليج والمحيط، فتعودَ القصةُ كما كانت مع الدولة العثمانية، ولأنهم أرادوا دولةً لليهود لا تقومُ إلاّ علي أرض فلسطين، وينبغي أن تقومَ من حولها دويلاتٌ عربيةٌ ضعيفةٌ لا تستطيع رفضَها أو تحدّيها. وبقيت مشكلتُهم مع مصر لأكثر من خمسين عاماً حتي نجحوا في العصر الأمريكي في فصلها عن الجبهة ضد إسرائيل باتفاقيات "كامب ديفيد" 1979 . كانت المشكلةُ مع الأرمن أنهم موجودون أو منتشرون بين تركيا وسوريا والاتحاد السوفييتي الجديد. وقد ضعُفوا في تركيا كثيراً بعد المذابح ضدَّهُم في العامين 1915 و1916 واضطرارهم للهجرة باتجاه الأقاليم السوفييتية أو باتجاه سوريا. ولذلك فرغم الدعاية الضخمة في العالم الغربي لصالح الأرمن، ما أمكن صُنعُ شيء لهم. وقد بادر الاتحاد السوفييتي فيما بعد أواسط العشرينيات إلي محاولة إقامة كيانٍ أرمني وآخر يهودي علي مساحاتٍ من الأرض في روسيا وآسيا الوسطي دون أن يلقي ناجحاً أو جاذبيةً من جانب الطرفين. بيد أنّ المشكلة الأصعب كانت في الملفَّ الكردي. فالشعب الكردي شعبٌ ضخمٌ موزَّعٌ بين تركيا وإيران والعراق والاتحاد السوفييتي وسوريا. وفي كلٍ من هذه البلدان (باستثناء سوريا) كتلةٌ كبيرةٌ منه يمكن إقامة دولةٍ نواةٍ لها. لكنّ إيران وتركيا ما سمحتا بذلك. وما كان بالوُسع مسايرتُهم في العراق بعد ظهور النفط، وهو مخزونٌ استراتيجي مستجدٌّ وقتها. أمّا الاتحاد السوفييتي فقد فعل مع الأكراد كما فعل مع الأرمن واليهود: أسَّس لهم كياناً لديه امتدَّ لشهورٍ باتّجاه إيران وتركيا، ثم قضت الأطرافُ الثلاثةُ عليه بعد الحرب الثانية مباشرةً. وليس بالوُسع هنا تقييم سياسات الحكومات العراقية المتعاقبة في العهدين الملكي والجمهوري تُجاه الأكراد. لكنْ يمكنُ القولُ إنّ تلك السياسات ما كانت حكيمةً ولا بعيدةَ النظر. وكانت تولّدُ دائماً حركةً مقاومةٍ مسلَّحة تتنوعُ الأطراف التي تَدعمُها من الاتحاد السوفييتي وإلي إيران وإسرائيل.. وأخيراً الولاياتالمتحدة. وكانت الفترةُ الأطول التي أَمكن خلالها للأكراد العراقيين أن يحظوا باستقلاليةٍ ذات طابع قوي هي تلك التالية للغزو العراقي للكويت. إذ بعد عام 1991 أنشأ الأمريكيون منطقةً في شمال العراق حظروا فيها علي الطيران العراقي ثم الجيش العراقي الدخولَ إليها؛ فظهرت كيانيةٌ كرديةٌ بقيت ضعيفةً للانقسام بين أطراف ميليشياتها، والرمزان البارزان لتلك الميليشيات: مسعود البارزاني ابن مصطفي البارزاني، رئيس إقليم كردستان الآن، وجلال الطالباني، رئيس الجمهورية الآن. وبسبب الاستقلالية المحمية من الأمريكيين والبريطانيين، أمكن للأميركيين عندما بدأوا يخطّطون لغزو العراق في النصف الثاني من عام 2002 أن يجمعوا طرفي المعارضة الرئيسيين ضدَّ نظام صدّام حسين في تلك المنطقة الكردية، وبموافقة إيران، وإرغام تركيا علي السكوت: الطرف الكردي المسيطر شعبياً في شمال العراق إلي ما قبل الموصل، الطرف الشيعي، المتمركز بإيران وحزباه الرئيسيان: "المجلس الأعلي"، و"حزب الدعوة". وقد ضمَّ إليهما الأمريكيون بعض المدنيين والعسكريين السُّنة الهاربين من نظام صدَّام. وليس واضحاً حتي اليوم ما هي حدودُ وعود الأمريكيين للأكراد، ولا كيف وافق الإيرانيون والأتراك علي هذا الوضع الخاصّ للأكراد. فهم منذ احتلال الأمريكيين للعراق يقيمون دولةً حقيقيةً في الشمال، وإن ظلَّ النزاع حول كركوك، التي يعتبرونها عاصمتَهم التاريخية. ثم إنهم يحصلون في الدولة العراقية الحالية علي 17% من الموارد النفطية، وحوالي ال25% من المناصب الحكومية، ومن ضمنها الجيش وقوي الأمن. ويأتي من بينهم رئيس الجمهورية، وخمسة وزراء منهم وزير الخارجية. ومنطقتهم هي المنطقة العراقية الوحيدة التي يسودها الاستقرار والرخاء النسبي. لقد اندلعت الأزمةُ الأخيرةُ بسبب إصرار مسعود البارزاني، رئيس إقليم كردستان علي إلغاء العَلَم العراقي، ورفع العَلَم الكردي علي المباني الرسمية. وبحسب المادة رقم 12 من الدستور العراقي الجديد، كان ينبغي استبدالُ العَلَم السائد أيام صدّام بآخر يجري التوافُقُ عليه. وقد كان ممكناً للبارزاني أن يطالب بذلك من خلال المؤسَّسات، وسيوافقُهُ الطالباني وآخرون علي ذلك. لكنه اختار هذا الأسلوب المُثير إظهاراً للاستقلالية، وفرضاً للأمر الواقع، الذي لا يهمِّشُ العراقيين الآخَرين فقط؛ بل ويهمِّشُ فريق الطالباني الكردي أيضاً. ويريد بعضُ المراقبين إعادة ذلك للدسائس الإسرائيلية، فالإسرائيليون حاضرون منذ مطلع التسعينيات بالمنطقة الكردية. ويقال إنهم فعلوا ذلك لإزعاج إيران. لكنهم يزعجون بذلك بالدرجة الأُولي صديقتهم تركيا. فالبارزانيون أقوياء علي حدودِ تركيا، والطالبانيون أقوياء علي حدود إيران. ثم إنّ الأمريكيين يحتلُّون العراق بما في ذلك المنطقة الكردية، ولهذا فينبغي أَخْذُ رأيهم في هذا الشأن، وهم لا يريدون المزيد من المتاعب الآن. ولنسترجع المشهدَ الذي رسْمناهُ للمنطقة عام 1920 برزت ملفاتٌ أربعة: الملفّ العربي، وهناك اليومَ عدةً دولٍ عربيةٍ بالمشرق -والملفّ اليهودي، وهناك اليوم بل ومنذ عام 1948 دولةٌ يهوديةٌ علي أرض فلسطين -والملفّ الأرمني، وهناك اليوم، بل ومنذ سقوط الاتحاد السوفييتي دولةٌ أرمنيةٌ في القوقاز، تحتلُّ أيضاً ربعَ مساحة أذربيجان بسبب التنازُع علي منطقة ناغورنو قراباغ - والملف الكردي، وليست للأكراد دولةٌ رسميةٌ معلنةٌ حتي الآن، رغم أنهم أمةٌ كبري. عددُهم في العراق في حدود ال 5 ملايين، وفي إيران العددُ نفسُه، وفي تركيا ما بين 12 و15 مليوناً، وفي آسيا الوسطي والقوقاز حوالي ال3 ملايين، وسوريا أكثر من مليون: فهل تنشأ دولةٌ كرديةٌ الآن، رغم التداعيات الكبيرة علي سائر دول المنطقة؟ هذا أمرٌ يصعُبُ تصوُّرُهُ أو تقديرُ نتائجه. لكنّ الملفَّ الكردي مفتوحٌ منذ زمنٍ بعيدٍ، وقد دخل مرحلةً كاشفةً عام 1992، ومرحلةً مشتعلةً عام 2003، ويوشكُ أن يصير كياناً واقعياً إذا سمحت المصالح الأمريكيةُ بذلك. بيد أنّ الأمريكيين الذين يتحدثون كلَّ الوقت عن بناء الأُمم والدول، ما أنجزوا حتي الآن غير تخريب الدول القائمة في الشرق العربي، وأفريقيا، وشبه القارة الهندية، وأمريكا اللاتينية. فلا حول ولا قوة إلاّ بالله.