لا يكف الحوار السياسي الدائر حول السياسات الخارجية الأمريكية مطلقاً عن محاولة التوصل لأفضل كيفية ممكنة لأن تفعل أمريكا ما تراه صحيحاً بالنسبة لها، ومعبراً عن مصالحها الحيوية والاستراتيجية، إلا أنه لم يسبق له قط أن اهتم بفحص مصادر وعواقب تلك السياسات من الناحية العملية. كما أنه لم يسبق لهذا الحوار أن أبدي أدني اهتمام يذكر باستحالة تحقيق الأهداف التي ترمي إليها تلك السياسات، بكافة المفاهيم والمعايير. وحتي هذه اللحظة، فإنه لم يصدر عن الكونجرس الأمريكي، ولا عن دوائر صنع القرار في واشنطن، ولا من قبل أي من وسائل الإعلام الأمريكية، نداء واحد، لإعادة نظر نقدية في المبادئ الأساسية التي يقوم عليها ما تفعله الولاياتالمتحدة حالياً في العراق، ولا فيما يتوقع أن تفعله قريباً جداً في إيران، وكذلك في شرقي أفريقيا علي أرجح الظن. وبحسب رؤية جورج بوش، فإنه يقع علي عاتق الولاياتالمتحدة، "وضع حد للطغيان والاستبداد علي نطاق العالم بأسره". وذلك هو الهدف القومي الذي نص عليه البيان الرسمي حول "استراتيجية الأمن القومي"، وهو الوثيقة التي يبدو أن مسئولي السياسات قد أخذوها علي محمل الجد، وعولوا عليها كثيراً في رسم استراتيجية الأمن المذكورة. ولكن يبقي سؤال مهم: من منا، بمن فينا أولئك الذين ينهضون بخط بيانات وإعلانات استراتيجية كهذه، يؤمن حقاً بإمكان وضع حد للطغيان والاستبداد علي نطاق العالم كله؟! لو وجد بيننا من يؤمن حقاً بمثل هذه الترهات، فلا ريب البتة في كونه مخبولاً أو مختلاً عقلياً. وما نعلمه جيداً أن ظواهر الاستبداد والطغيان والقهر والنزاعات، تعد قديمة قدم وجود البشرية نفسها علي وجه الأرض، وأنه ما من سبيل لاجتثاث جذورها واستئصالها مهما حلمنا وتوهمنا. والشاهد أن أمريكا ما زالت تزعم أنها تهدف لإصلاح المجتمع الإنساني أخلاقياً، مستندة علي المقولة القديمة بأنها تؤدي دورها الدولي، انطلاقاً من كونها حاملة "رسالة إلهية" كونية. وقد ترسخت هذه القناعة الأخلاقية، في صلب اللبنات الأساسية التي قامت عليها الولاياتالمتحدة أصلاً. أما أصولها ومنابعها، فتعود هي الأخري إلي المعتقدات الدينية التي بشر بها مستعمرو "نيو إنجلاند" التطهُّريون. وكما هو معلوم، فقد كان هؤلاء من المنشقين الكالفينيين، من ذوي الطموحات والتطلعات الكونية. وقد آمن هؤلاء إيماناً لا يتزعزع بأن مجيئهم واستقرارهم في الولاياتالمتحدة، إنما هو أمر مقدر ومخطوط سلفاً بمشيئة إلهية، أرادت له أن يكون بداية تطهرية جديدة للإنسانية الغارقة حتي أذنيها في الرذائل والخطايا. وبدا في لحظة لهؤلاء، وكأنهم يضعون اللبنات التأسيسية الأولي ل"قدس جديدة" في التراب الأمريكي. غير أن بقية المستعمرين الأمريكيين الأوائل، لم يكونوا يشاطرون هؤلاء الاعتقاد الديني نفسه، نظراً لترويج هذه البقية للقيم والأفكار التجارية العملية، ولإرسائها لتقسيم الأراضي الأمريكيةالجديدة المكتشفة حديثاً، علي قواعد وأهداف ذات طابع مادي عملي بحت. ومهما يكن من خلاف بين تيار استعماري وآخر، فإن الشاهد أن هؤلاء التطهُّريين قد ألهموا الخيال الأمريكي، ومنحوا الأمريكيين ذلك الشعور العميق الراسخ في وجدانهم بأن لهم واجباً ومهمة أخلاقية إصلاحية في هذا العالم الجديد. بل لقد عملت أمريكا علي هذا الأساس، وتبنت نهجاً توسعياً عابراً للحدود والقارات خلال القرن التاسع والعشرين، وهي فترة اتسمت بمحافظة أمريكا بشكل عام، علي مسافة فصلت بينها وبين سياسات القوة التي كانت تتبناها دول القارة الأوروبية الاستعمارية حينئذ. لكن في عصرنا العلماني الحديث هذا، فإن تمسك أمريكا بتلك الوضعية الرسالية الخاصة، إنما يستند علي ظروف وملابسات نشأة الأمة الأمريكية نفسها، باعتبارها خلفاً ثورياً للبلاطات الملكية التي حكمت أوروبا، بقدر استناده كذلك علي ما حققته أمريكا من نجاحات وإنجازات اقتصادية وصناعية وتكنولوجية لاحقة، فضلاً عما بنته من قوة عسكرية عملاقة. ولكونها ديمقراطية قائدة، فقد ألقت علي عاتقها مسئوليات دولية جساماً، تضارع ما تتمتع به من مكانة مرموقة وامتيازات دولية. وعلي أي حال، فقد ظل ذلك الشعور بالسيادة الأخلاقية علي العالم، مراوحاً مكانه دائماً هناك، علي مستوي السياسات والأفعال معاً. غير أن معضلة أمريكا، تكمن في أن غالبية من هم خارج القارة الأمريكية، لا يرون سبباً واحداً وجيهاً يبرر رسوخ هذا الاعتقاد أو الوهم الأمريكي الخاص. ففي عام 1900، انتهت نزعة أمريكا الانعزالية بخوضها حرباً ضروساً فاصلة مع أسبانيا. وفي عام 1914، كانت الولاياتالمتحدة قد أعلنت حيادها في بادئ الأمر، إلا أنها انجرت إلي ساحات الحرب العالمية الأولي وميادينها، ما أن أعلن الرئيس "وودرو ويلسون" أنه إنما يفعل ذلك، انطلاقاً من غاية أخلاقية سامية نبيلة، تتمثل في خوض الحرب بغية وضع حد لكل الحروب. غير أن الحقيقة أن هذا الهدف، وغيره من جملة الأهداف الأخري التي شكلت النقاط الأربع عشرة التي قامت عليها خطة السلام الشهيرة التي أعلنها قد باءت جميعها بالفشل. وما أن وضعت الحرب العالمية الأولي أوزارها، حتي عادت أمريكا إلي نزعتها الانعزالية مجدداً، وظلت عليها حتي وقع الهجوم العدواني الكبير علي "بيرل هاربر". وبذلك فقد أرغمت ثانية علي خوض معارك الحرب العالمية الثانية، مستلهمة العقيدة الويلسونية نفسها، بجعلها لهذه الحرب حملة أخلاقية جديدة، تهدف إلي تحقيق "الحريات الأربع" للبشرية كافة. أما حقبة الحرب الباردة، فلم توفر لوزارة الخارجية الأمريكية، إلا فرصة محدودة للغاية، لصياغة ما عرف بسياسة "الاحتواء" ضد الاتحاد السوفييتي السابق. لكن ما أن تولي فوستر دالاس مهام الوزارة في عهد الرئيس الأسبق إيزنهاور، حتي تحولت تلك الحرب سريعاً، إلي حملة أخلاقية تنشد تحقيق الحريات. ذلك أن دالاس نفسه، كان كالفينياً شأنه شأن "وودرو ويلسون". ومنذ ذلك الوقت ساد الاعتقاد بين الأمريكيين، بأن جميع حروبهم إنما هي حملات أخلاقية نبيلة، تنشد إرساء الحريات علي الأرض. إلا أن تحولاً جديداً طرأ علي هذا الاعتقاد الآن، نتيجة لتجاوز حرب بوش الأخيرة المعلنة، لذلك السقف، وإعلانها هدفاً آخر، يتمثل في وضع حد للطغيان والاستبداد علي الأرض. وكان قد خطر في أذهان الكثيرين منذ وقوع هجمات 11/9 أن هدف هذه الحرب، حري أن يكون القبض علي مدبري تلك الهجمات ومحاكمتهم. وكانت قد سادت القناعة أيضاً، بأن الطريق المفضي إلي هذه النتيجة، هي العمل الاستخباراتي والتعاون الشرطي الدولي علي الأمر، وليس الذي نراه الآن. فقد أعلنت حرب دولية فضفاضة بلا أهداف محددة، علي الإرهاب الدولي في مجموعه أولاً، ثم تحولت إلي حرب ضد التطرف، ثم إلي حرب علي "الدول الفاشلة" في أفريقيا وغيرها مؤخراً. وإذا ما أخذنا علي محمل الجد، مسار هذه الحرب وتبدلاتها، فهي بحق "حرب بلا نهاية". ولذلك فقد أصاب بوش حقاً في تسميتها ب"الحرب الطويلة" الممتدة.