بدأ الخوف من التيار الإسلامي الأصولي في التبلور كأحد أهم مصدر التهديد البديل للغرب بشكل عام والولاياتالمتحدة بشكل خاص منذ عام 1988، حيث جاء في تقرير لجنة التخطيط الاستراتيجي بوزارة الخارجية الأمريكية في نفس العام ما نصه "أما وقد انتهت الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، فإن مصادر التهديد البديلة ستكون خلال السنوات القادمة، هي مصادر عدم الاستقرار في دول الأصولية الإسلامية في العالم الثالث، والأنظمة السياسية غير المستقرة وأنه علي الغرب وحلف الأطلنطي أن يكونا إذن فقد شكل انهيار الاتحاد السوفيتي، ومن ثم انفراد الولاياتالمتحدة بالهيمنة علي النسق الدولي، وإرساء بعض مبادئ النظام العالمي الجديد، ما يمكن اعتباره البدايات الأولي، لفكرة الاستقطاب العالمي، أي انفراد قوة كبري وحيدة في العالم، تستحوذ عليها المتحدةالأمريكية والغرب في ركابها، بصياغة نظام جديد له سماته وخصائصه وتكويناته، الأمر الذي سيؤدي إلي تلاشي عدة دول، وانهيار عدة نظم، ورسم خرائط جديدة بالسلم أو بالقوة علي الأرض، يترافق مع ذلك ازدياد قبضة الدول الكبري علي المصالح الحيوية في العالم، بانتظار توازن جديد ومرعب للقوي الدولية والإقليمية وحتي المحلية، حيث ستكتفي أكثر من قوة في العالم بما سيصيبها، وتلعب كتلة الاتحاد الأوروبي ضمن سياقات تحالفية جديدة، ومع دخول روسيا الاتحادية عضواً في حلف الأطلسي، يمكن أن يتبلور دور جديد للصين، التي يبدو وكأن مصالحها الاقتصادية ستفرض عليها قبول قواعد اللعبة في النظام العالمي الجديد ضمن حسابات لا عهد للعالم بها من قبل. في ظل هذا السيناريو العالمي الجديد، هناك تأكيدات دائمة ومغالية وأيضاً تحريضية، تردد دائماً أن الولاياتالمتحدةالأمريكية والغرب لا يزالان يضمنان أمن وسلامة إسرائيل، وخاصة في محيط دائرة تفاعلات الصراع العربي الإسرائيلي، ولنا هنا أن نلاحظ أن كل المحاولات التي بذلت علي الساحة الدولية لتحقيق السلام بين أطراف ذلك الصراع الممتد، كانت تستهدف كلها حفظ وصيانة المصالح القومية الأمريكيةالغربية، ومن منظور الاستراتيجية الأمريكية، وبما يضمن عدم تعريض أمن وسلامة إسرائيل لأي خطر أو تهديد مستقبلي، وأن أي حلول قادمة، لابد وأن تأخذ كل ذلك بعين الاعتبار، الأمر الذي يجعلها تبدو وكأنها لصالح إسرائيل كأولوية مطلقة (د. مصطفي كامل، التوازن الاستراتيجي في الشرق الأوسط ودور مصر، الطبعة الثانية، 2001). بهذا المنظور يمكن أن نتفهم دوافع ومبررات وأهداف الحرب الشرسة التي تخوضها إسرائيل ضد حزب الله في لبنان، كما يمكن إدراك ترحيب أمريكا أو ربما مباركتها لتلك الحرب، ومن خلفها دول عديدة في الغرب والشرق وكذلك نظم وحكومات عربية مختلفة، وجدت في تلك الحرب ما يبرر انكفاءها المستمر لمباركة المشروعات الهلامية وخطط الطريق الميتة لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي، ومن ثم استرداد الأرض العربية التي تغتصبها إسرائيل ولو أدي الأمر بها إلي تقديم التنازلات تلو الأخري، وبما يفوق حتي تصورات الإسرائيليين أنفسهم... فعندما تقوم إسرائيل بذلك الدور، وعندما تحارب بالوكالة عن كل هؤلاء، وعندما تسخر ترسانتها العسكرية الهائلة، وتقدم خيرة أبنائها فداء للحرب الثالثة ضد المقاومين من حزب الله أولئك الذين مازالت أفئدتهم تهفو للصمود، وتنبض عروقهم برفض الظلم والطغيان، أفبعد كل ذلك، هل يمكن أن نتصور وجود "رجل أمريكي رشيد" يمكن أن يطلب -ولو علي سبيل المزايدة- من إسرائيل وفقاً لإطلاق النار قبل أن تنجز إسرائيل مهمتها التاريخية في إسكات صوت حزب الله وإلي الأبد؟ فالحزب منظمة إرهابية وفقاً للتعريف الأمريكي الإسرائيلي، كما أنه تجرأ وتهور وضرب إسرائيل في أعماقها بالصواريخ وينقل -ولأول مرة في التاريخ المعاصر- معارك وحروب إسرائيل إلي داخل الحدود الجغرافية السياسية لإسرائيل نفسها، لذلك يمكن لنا ولغيرنا أن نعي أسباب الرفض الأمريكي لوقف إطلاق النار في الحرب المشتعلة حالياً، كما يمكن أن نستوعب المقصود بمقولة: إن الوقت لم يحن بعد لذلك، حيث يتمسك المسئولون الأمريكيون بالقول بأن السعي لوقف فوري لإطلاق النار ودون تحقيق الأهداف العسكرية الإسرائيلية المتمثلة في القضاء علي حزب الله سيعني منح الحزب وحلفائه في سوريا وإيران الفرصة لتفجير الموقف من جديد كلما رغبوا في ذلك. من كل ذلك يتضح، بأن حرب إسرائيل ضد حزب الله، هي في الحقيقة تأكيد وتجسيد لصراع طال أمده بين الغرب الحديث بنظامه الثقافي العالمي، أو ما يعني منظومة الوعي لدي الناس هناك، وبين منظومة الوعي المشكلة تاريخياً للإنسان في الشرق، تلك المنظومة التي تستمد توجهاتها من عمق التاريخ الغارق في أعرافه وتقاليده ونظمه وديانته ومقدساته، وهي متعارضة كلياً مع منظومة الوعي لدي الإنسان في الغرب، وذلك علي حد قول الاستاذ صاحب الربيعي (وهو مثقف عراقي مقيم بالسويد) في مقاله حول "اختلاف منظومات الوعي بين الغرب والشرق" والذي نشر بمجلة "الديمقراطية أبريل 2006". وفي نفس ذلك السياق كتب د. محمد حافظ دياب مقالاً مهماً في نفس العدد من مجلة "الديمقراطية" المشار إليه سابقاً تحت عنوان "الإسلام والغرب محاورة أم سجال؟" جاء فيه أن ثمة مؤثرات حاكمة في سياق علاقة الغرب بالإسلام، مما يؤكد علي تشظي الاحتقان بينهما، ويقف دور الدين وحضوره إلي الصراعات الدولية، والداخلية في عالم ما بعد الحرب الباردة، كأحد أهم المؤثرات الفاعلة في هذا المجال، فقد تصاعد المد الإسلامي عبر مؤشرات عدة، منها استعادة طهران لهجة ومناخ وصوت الثورة الإيرانية الخومينية، إثر نجاح الرئيس أحمدي نجاد، وتشكيل حكومة عراقية موالية لإيران في العراق، وفوز الإخوان المسلمين بخمس مقاعد البرلمان في مصر، وتقدم كتلة حماس نحو السلطة في فلسطين، وتنامي تأثير الجماعات الإسلامية في الصومال ونيجيريا وباكستان، بالإضافة إلي تواتر التواجد الإسلامي علي أرض القارة الأوروبية، مع ظهور مجتمعات مسلمة مستقرة في معظم مدنها مع تمسكها برموزها الدينية. ولهذا فليس من المستغرب أن تمثل الحرب الدائرة الآن في لبنان، أحد أهم ساحات الحرب التي تم التخطيط لها للإجهاز علي الصوت الإسلامي المقاوم في ثالوث طهرانودمشق وبيروت، والذي يجمع بين أطرافه "الثابت الفلسطيني" المشترك بينها بطبيعة الحال، وعلي الرغم من فهم الجميع للتأثير المتبادل بين مصالح الأطراف في هذه الجبهة المترابطة والتي لم تكن خافية علي أحد من قبل، إلا أن تزايد الضغوط والسخافات الدولية علي أضلاع ذلك المثلث، كان من أبرز عوامل تفعيله، حيث يمكن القول -والكلام هنا نقلاً عن د. نيفين مسعد- بأن ثمة علاقة ارتباطية بين تعمق أزمة المشروع الأمريكي في العراق من جهة، وتصاعد التهديدات الأمريكية والأوروبية في ركابها، لكل من دمشقوطهران وحركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية ذات الخطاب الإسلامي من جهة أخري، فالإدارة الأمريكية إزاء ذلك التهديد لمشروعاتها المتعلقة بإعادة ترتيب الأوضاع في تلك الساحات، وفي ظل ضغوط تعثرها في العراق، تحاول جاهدة تحويل وجهة الضغط إلي النظام السوري وحزب الله اللبناني، فضلاً عن السعي لتحقيق هدفين آخرين، أحدهما تجريد إيران من بعض أوراق قوتها في المعادلة السياسية الإقليمية، والثاني حرمان الساحة الفلسطينية من ظهرها المقاوم، وهو الهدف الذي اكتسب مصداقية عالية بالنسبة للسياسات الأمريكية، وكذلك الأوروبية، بعد اكتساح حركة حماس للانتخابات التي جرت وقائعها في يناير 2006. ولكم تحياتي